مقالات
رجل الدولة المحترم.. لا يهادن
لا تروقني فكرة الكتابة عن أشخاص المسؤولين حين يكونون قيد الخدمة.
حتى إن كانوا جيدين وأبطالاً فالمفترض أنهم يقومون بواجبهم، وعلى الكاتب أن يكرِّس نفسه لنقد الأخطاء.
صحيح أننا في وضع يبدو فيه رجال الدولة نادرين بين كومة من قش الهزال والرخاوة، ما يوجب مساندتهم، لكنني كنت دائماً مع مبدأ أن لا تشارك في أي زفة لمسؤول ما زال في موقعه.
يخطر ببالي هذا الآن وأنا أتابع تداعيات إلغاء قرارات البنك المركزي التي حاول فيها الأستاذ أحمد غالب المعبقي ورفاقه في قيادة البنك أن يفعلوا ما تخلت عنه الشرعية طيلة 9 سنوات.
يدرك اليمنيون أن إذعان الشرعية، طيلة سنوات الحرب، وبضغط التحالف، كبّلها عن ممارسة قرارها السيادي حيال أشياء كثيرة بما فيها السياسة النقدية للبلاد منذ قرر الحوثي فرض عملته الخاصة، والانفصال الاقتصادي التام.
هذا الرّهن الكامل لقرار البلاد، كان يفتح الباب على مصراعيه لانهيار اقتصادي، وانهيار تام لقيمة العملة المحلية أمام العملات الأجنبية مصحوباً بسياسة ممنهجة لاستنزاف اليمنيين على مختلف الأصعدة.
في غضون هذه اللحظات الصعبة كان المعبقي يُعيَّن محافظاً للبنك المركزي (منتصف 2021)، ولم يمر سوى القليل من الوقت حتى باشرت المليشيات بقصف المنشآت النفطية، وفرض إيقاف التصدير.
عنى ذلك أن البلد سيعاني من غياب موارد نقد أجنبي تسند بقاء العملة صامدة في وجه ضغوطات الحرب المختلفة، وستضع هذه الأوضاع البنك في فوهة المدفع.
المفارقة أن هذه التطوَّرات استجدت بعد إبرام السعودية والحوثيين اتفاق هدنة، فرضته الرياض على الحكومة دون أن يلتزم الحوثي ببند واحد منه!
خلال هذه الفترة الصعبة، قاد الرجل سلسلة من الإجراءات لتنظيم القطاع المصرفي، وإنهاء الفوضى.
ونظراً لجفاف موارد العملة الصعبة، كان الريال ينهار، وكان على الرجل أن يعمل في بيئة غير مواتية ومعقّدة، تتداخل فيها عوامل فساد الشرعية مع ضغوط التحالف ونهجه المعكوس في مساندة المليشيا، وتمرير المزيد من إضعاف الشرعية.
عُرف الأستاذ أحمد غالب بالحزم، خلال فترة شغله لمواقع ومسؤوليات، أهمهما مصلحة الضرائب في عهد علي عبدالله صالح.
بالتأكيد يتذكر الكثيرون، بمن فيهم رؤساء بعض البنوك التي استقوت عليه مؤخراً، المعركة الضارية الشهيرة التي خاضها رجل التكنوقراط والخبير الاقتصادي مع التجار الذين يشكلون مركز نفوذ مؤثر في بنية سلطة صالح وقتها.
لم يذعن للضغوط، ولم يخضع، وكسب المعركة، وتمكن من توفير عشرات المليارات لخزينة الدولة.
شخصياً عرفتُ الرجل عن قرب لأول مرة، في 2017، في القاهرة أثناء زيارة علاجية، وكانت الحرب التي تعصف بالبلاد في ذروتها.
كان الرجل بلا عمل، وكان متحمساً لعديد مبادرات قُدمت لإسناد المقاومة الشعبية والجيش، وانخرط مع آخرين في تقديم أفكار وتصورات، وكان دائم النقد للشرعية التي لا تقوم بواجبها كما ينبغي حتى في صفحته الشخصية على "فيسبوك".
لو كانت الشرعية يقودها رجال دولة لامتلكت بصيرة المعرفة بالرجال، ولما كان أحمد غالب خارج جهازها منذ بداية الحرب. وعندما أسندت إليه مهمة إدارة البنك المركزي، كانت "الشرعية" قد سلمت قرارها للتحالف تماماً!
مع ذلك، فقد حاول الرجل أن يفعل شيئاً لترميم صورتها المهترئة باستعادة السيطرة على السياسة النقدية، وإنهاء تحكم الحوثيين بسوق العملة وقطع أيديهم عن سرقة مدخرات اليمنيين، وتخريب النظام المصرفي.
أحس اليمنيون العاديون بصدق الرجل، فخرجوا لمساندة قراراته في الشوارع، حتى وهم يشاهدون انهيار العملة، ثم تحول المعبقي رمزاً لليمنيين حين ارتدوا قبعته.
كان ذلك تعبيراً عن شعور شعبي برمزية ما يفعله كتعبير عن الإرادة والاستقلال وسلوك الدولة الذي افتقده اليمنيون منذ بدء الحرب.
لكن "الشرعية"، التي صممها التحالف على مقاسه، بعد التخلص من "أبوها المؤسس" هادي، باعت الرجل ورفاقه عند أول ضغط.
في الحد الأدنى، كان على مجلس الرخاوة الرئاسي أن يستخدم قرارات البنك للمناورة والضغط لإرغام الحوثيين على توحيد العملة، واستعادة تصدير النفط، لإيقاف حالة الانهيار الاقتصادي المريع، لم يفعل أيا من ذلك.
فرض إلغاء قرارات البنك، ومنح الحوثيين مزايا جديدة مجاناً (ولم ينفذوا بنداً واحداً في كل الاتفاقيات السابقة)، امتثالاً لإرادة التحالف.
أفضل ما فعله المعبقي ورفيقه وكيل البنك لقطاع الرقابة على البنوك، الأستاذ منصور عبدالكريم راجح، الاستقالة، الاستقالة كخطو "جليلة" ونادرة في حياة المسؤول اليمني، باعتبارها أقل ما يمكن فعله لمواساة اليمنيين المنحوسين بقادتهم.
يبيّن خطاب الاستقالة، الذي وجهه المعبقي لمجلس القيادة الرئاسي، أن الرجل قد اتخذ القرار في 17 يوليو الجاري، لكنه لم ينشر.
كان المعبقي متردداً في الذهاب إلى الرياض بعد استدعائه إلى هناك، وذلك يعني أن الرجل كان يشعر بأن هناك ما يدبَّر له.
مطلع هذا الأسبوع، أي بعد أيام من الاستقالة، كشفت قناة "يمن شباب" أن السعودية وضعت المعبقي قيد الإقامة الجبرية، ومساء الأحد عقد مجلس القيادة الرئاسي اجتماعاً بحضور السفيرين السعودي والإماراتي في الرياض لم يتم الإعلان عنه، وألغى قرارات البنك.
عندما تسرّبت أنباء استقالة المحافظ إلى الإعلام ثم نشر الوثيقة، سارع مجلس القيادة الرئاسي إلى رفض الاستقالة و"تأكيد" عدول المعبقي عن الاستقالة!
تفصح هذه المعطيات أن التحالف، الذي فرض إلغاء القرارات، هو نفسه الذي يمنع مسؤولاً يمنياً محترماً من التعبير عن موقفه، ورفضه ممارسة دور الأراجوز في لعبة تدمير البلاد، مستغلاً وجوده في دولة عُرفت بممارسات مشابهة.
رغم هذا الانهيار والارتهان وسوداوية ما يلوح، هناك شيء يستعيده اليمنيون من هذه الخطوة: بصيص أمل بأن هناك رجال دولة يضعون كرامتهم وكرامة بلدهم فوق مصالحهم الشخصية، بل ويخسرون.
أثناء المعركة الاقتصادية مع المليشيا، سيطر الحوثيون على منزل الأستاذ أحمد غالب في صنعاء، ونهبوا محتوياته؛ لم يكترث الرجل وأصرّ على قراراته، وقد قرر أخيراً أن يكسب نفسه ووطنه ليخسر منصباً في قبضة السفير، حتى لو أرادت السعودية كسر إرادته!
حق المعبقي وراجح علينا أن نؤازرهما، وأن نحتفي بهما وبصلابتهما، وقد غادرا ملهى الرخويات.
تعظيم سلام لهما وهما يعيدان بعض المعنى للمسؤولية. إنهما مناضلان وقائدان حقيقيان في زمن الأتباع.