مقالات

سطحية الفكر في عصر الاستهلاك السريع

21/03/2025, 12:52:08

لم يعد الفكر كما كان يومًا -ساحةً للصراع المعرفي، ومحركًا للأفكار الحقيقية، ومختبرًا للعقول الباحثة عن الجوهر. أصبح اليوم أقرب إلى واجهة تجارية، حيث يتسيّد السطح، ويُباع العمق في صورة مقولات مجتزأة تُردَد بلا فهم، وتُستهلك بلا وعي.

المفكر المزيف يُمنح المِنصة، ويُحتفى به كنجم، بينما يُقصى صاحب الفكر المتجذّر؛ لأنه لا يتوافق مع إيقاع العصر السريع. الفكر، في هذه الحقبة لا يُحتفى به إلا في صورته الرائجة، سهلة الهضم، المتاحة للجميع، حتى وإن كانت هذه الصور مجرد ملامح عابرة.

الفكر لا يتحقق بتكرار الكلمات الجاهزة، ولا بنقل المقولات كما هي، دون أن تمر عبر عملية فكرية تنقضها وتبني عليها.

المقولات المأخوذة من نيتشه أو سارتر، التي تُعرض اليوم كدليل على العُمق، ما هي إلا تمثيلات سطحية للفلسفة. لا يمكن لأي شخص أن يصبح فيلسوفًا لمجرد حفظه عدة جمل مأثورة.

الفهم الحقيقي لا يُستعار من الأقوال، بل يُكتسب من الالتزام العميق بكل فكرة، ومن مواجهتها بمواقف الحياة وتجاربها. الفكر لا يُستعرض بل يُمارس في سياقات متجددة، ولا يصبح صاحبه ذا قيمة إلا إذا عرف كيف يخلق الأسئلة المُلحة، لا الإجابات السريعة.

أصبح الفكر اليوم مجرد ساحة استعراض، تتراوح بين العبارات المضيئة، التي تستهوي المتابعين، والتفاعل السريع الذي لا يمت بصِلة إلى جوهر الفكرة.

هذه المِنصات الإلكترونية، التي تُحيط بنا، حوَّلت المفكر إلى شخص يسعى للظهور، لا للبحث. ليس المطلوب من المفكِّر أن يتجاوز الحدود في طرحه، بل أن يبقى على مقربة من القوالب الجاهزة ليبقى على اتصال بالجمهور، وعلى اتصال أيضًا بما يُمكن له استهلاكه بسرعة. الفكر، بهذا المعنى، فقد مكانته كفضيلة حقيقية للإنسان، وتحوَّل إلى وسيلة لتلبية الاحتياجات المؤقتة التي يفرضها العالم الرَّقمي.

الحقيقة أنَّ الفكر العميق لم يعد يحظى بالتقدير الذي يستحقه، بل أصبح شيئًا محاصرًا.

الأصوات الجادة لم تُترك الفرصة للظهور؛ لأن الساحة مليئة بمن لا يعرفون سوى ترديد ما طُرح لهم، جملٌ محفوظة تُستخدم كأدوات لزيادة الشهرة السريعة، لا لتطوير الفكر.

لم يعد المطلوب من المفكِّر أن يُثير الأسئلة الكبيرة التي تتطلب وقتًا للفهم، بل أن يقدّم أقوالًا مختزلة، وقابلة للاستهلاك بسهولة. المفكر الذي يعتنق هذا النموذج الزائف يقضي وقته في تكرار المقولات دون أن يضيف إليها شيئًا.

أما صاحب الفكر المتجذر، الذي يعكف على فهم الأمور في عمقها، فيظل في الظل، بعيدًا عن ضوضاء المتابعين والجماهير.

اليوم، أصبحت العبارات المختزلة هي المعيار. المقولات الشهيرة تُستخدم على أنها شهادة فكريّة، وأحيانًا لا يكون وراءها سوى عملية سطحية لا تدل على الفهم أو التعمق.

الاقتباس أصبح وسيلة للتباهى، لا جسرًا للحوار الفكري. لذلك، لا يمكن للفلسفة الحقيقية أن تجد مكانًا في هذه الساحة المشوشة، التي لا تسعى سوى لاسترضاء الحاجة الفورية للفهم البسيط.

الفكر في هذا العصر لا يتأمل، لا يسبب القلق، ولا يجعل الإنسان يعيد النظر في مسلّماته. لذلك، أصبح أي قول عميق يُعتبر عبئًا على من يتابعون الأخبار السريعة، وينبذون كل ما يتطلب تفاعلًا حقيقيًا مع الفكرة.

إن هذا التحريف للفكر لا يعود إلى صعود مفكرين مزيّفين فحسب، بل إلى انهيار مفهوم الفكر ذاته.

الثقافة السطحية، التي نشأت حول "السوشيال ميديا" شجَّعت على التبسيط المُخل والتسطيح المُفرط.

بانتقال الفكر من أيدي المفكِّرين الحقيقين إلى أيدي أولئك الذين يستهلكون الفكرة دون تحمّل مشاقّها، أصبح الفكر ذاته في خطر. وهذا التهديد لا يقتصر فقط على الجيل الحالي، بل يشمل جميع العصور القادمة التي ستنمو فيها هذه الظاهرة.

الفكر لم يعد موضوعًا للانغماس أو الهضم العميق، بل أصبح مادة استهلاكية تُستهلك في لحظات ثم تُنسى.

إذا كان الفكر في مراحله الأولى يُحرّك الإنسان نحو الأسئلة الكبرى والتساؤلات التي لا تُحَل بسهولة، فإن الفكر اليوم يركز على الحلول السريعة والأسئلة التي تُختزل إلى أطر بسيطة، لا تحتمل مناقشة أعمق أو مراجعة مستمرة. هذا الانحدار في الفهم والعمق جعل من المفكر الحقيقي شخصًا مستترًا في الظل، بعيدًا عن الأضواء.

في هذه الحقبة، لم يعد الفكر هو المحرك الأساسي للوعي. الثقافة الرقمية شجّعت على تقليل التفكير إلى صور وأصوات مؤقتة.

الأفكار، التي تحتاج وقتًا لاستيعابها، والتي تستدعي عملاً عقليًا مستمرًا، تم دفعها إلى الحافة، لتُستبدل بأفكار جاهزة، يمكن تكرارها ببساطة لتناسب اللحظة الراهنة.

الثقافة الاستهلاكية جعلت الفكر أكثر ميوعة وأقل تأثيرًا. فما كان في يوم من الأيام محركًا للوعي أصبح اليوم ضحية لنظام يعلي من قيمة الاستهلاك السريع والسطحي على حساب الفهم العميق.

مقالات

تبرّعوا.. وراقبوا!

وسط دوامة الموت المجاني التي تطوِّق اليمنيين، يتقدّم السرطان كوحش لا يتوقّف عن التهام حياة عشرات الآلاف سنوياً، لا يفرِّق بين رجل وامرأة، شيخ مسن أو طفل.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.