مقالات
سياحة مع أبطال ثورة 26 سبتمبر (1)
عندما نعود إلى الحياة التي عاشها العديد من ثوار السادس والعشرين من سبتمبر، نكتشف أن الثورة لم تقم بشخصيات كرتونية أو هزلية، بل بشخصيات رضعت الثورة من أشعة الشموس، ولم ترتهن هذه الشخصيات العظيمة إلى الكراسي الوثيرة والمناصب الإيرادية، بل نزلت إلى الميدان مثلها مثل أي جندي. شخصيات لم تكن قابلة للبيع والشراء أو العمالة، وإنما شخصيات أحبت اليمن وعشقت الأرض والتراب والجبال والهواء، فآمنت إيمانًا راسخًا بحتمية الثورة وحتمية التضحيات.
وأول الشهداء كان عبد الرحمن المحبشي في أول أيام الثورة، ثم زميليه محمد صالح الشراعي ومحمد علي الحنكي، فكانوا أول طريق النصر؛ لأن الوطن الذي يعطي الشهداء هو الذي يمتلك أعنة النصر.
أما علي عبد المغني فقد استشهد في ميدان القتال، وهذا يبرهن على بطولة اليمن وقدرة رجاله على النصر؛ لأنه لم يقاتل كالقياديين من وراء المكتب، بل قاتل كالجنود في ميدان الاقتتال، وكان دمه أقدس شهادة على وطنيته وثوريته.
أما قاسم غالب أحمد فكان يرى تقدم الوطن رهناً بالمزيد من التعليم. وبعدما رأى نجاحه في افتتاح كلية "بلقيس" في عدن عندما تولى وزارة التربية والتعليم في صنعاء عام 1965، تكونت في رأسه فكرة بناء جامعة صنعاء. فنادى المتبرّعين في الداخل والخارج لبناء الجامعة، واتصل بالأنظمة العربية للتبرع بالأساتذة، واستطاع خلال سنة أن يجمع التبرعات في البنك تحت مسمى "حساب جامعة صنعاء".
ولما حدث انقلاب 5 نوفمبر، نزح قاسم غالب أحمد إلى القاهرة، وكانت الأموال مرصودة في البنك اليمني للإنشاء والتعمير، على عكس الوزراء يومذاك الذين كانوا يجعلون أرصدة الوزارات بأسمائهم في البنك. لهذا لم يمت مشروعه، وهو بناء جامعة صنعاء، بل تم افتتاح الجامعة بعد رحيله بثلاث سنوات بسبب الأمراض العنيفة التي عانى منها.
أما صالح الرحبي فكان من الأنقى إلى أبعد مدى، فكان يستنكر أن يكون في الدنيا كذب أو غش أو خيانة للأوطان، حتى إن رواية كذبة من إنسان معتبر تحدث عنده دهشة صاعقة، فيرد على محدثه: "هذا لا يتصور، هذا غير ممكن".
أما محمد عبد الكريم الصباحي فقد كان طرازاً ممتازاً من الثوار. فقد عمل رقيباً في شق طريق صنعاء الحديدة، وكان مجالاً للكسب، ولم يكسب الصباحي لنفسه شيئاً. وبعد الثورة، نال منصب وكيل وزارة، ثم انتقل إلى موقع القتال، وكان يثري في هذا المكان مرتزقة الحرب، غير أن الصباحي كان أعلى من هذا، فمات، فلم يخلف بيتاً أو ثروة، وإنما خلف قدوة حسنة وصيتاً طيباً.
أما عبد الغني علي أحمد فكان قوي الحس بالوطن؛ لأن الوطن متخلف وتقدمه مسؤولية أبنائه، كما قال عبد الغني في أحد مقالاته: "إذا كان الوطن متقدماً فهو في غنى عنا، أما مادام على هذه الحال فهو أحوج ما يكون إلينا. يتبجح البعض بتقدمه وبتخلف الشعب، فإذا كان هذا متقدماً فليقطع شبراً من طريق التقدم الشعبي".
وتعين وزيراً للاقتصاد ووزيراً للخزانة، ولكنه وجد نفسه وزيراً على موظفين من الكتبة وليس المبدعين في مجالهم، فكان يتألم في كل الأحوال، وفي الوقت نفسه كان يشعر بالسعادة عندما يرى خريجين يخدمون الناس والوطن بكل ما يستطيعون من إمكانات، سواء كأطباء أو مهندسين أو غير ذلك. وبعد انقلاب 1967م، غادر اليمن ومات بعيداً هناك أواخر السبعينات.
واليوم، وقد مات الرجل، من ذا يستطيع أن يقول: "هذه عمارة عبد الغني علي" أو "هذه مزرعة عبد الغني علي" أو "هذه أرصدة عبد الغني علي"؟
لقد خرج من المناصب الوزارية نقياً كخروج الأمطار من ضمائر السحب.