مقالات
صورة اليمني المتهتّكة!!
صورة الإنسان اليمني المتهتّكة في وعي الخارج بدأت مع استكلاب السلطة وجشعها، ومهّدت لذلك عوامل عديدة، على رأسها الرَّجة الكبرى في المنطقة التي بدأت مع الثورة الخمينية في فبراير1979، ثمّ معاهدة السلام التي أبرمتها سلطة السادات مع الكيان العنصري المحتل في مارس 1979، ثمّ دخول القوات السوفيتية أفغانستان في ديسمبر 1979، وقيام حرب الخليج الأولى (الحرب العراقية- الإيرانية) في سبتمبر 1980؛ هذه الأحداث بتشابكاتها جعلت سلطة صالح، بحلفائها القبليين والدِّينيين، تخوض في استنفاعاتها من هذه الحالة، ليس لتعزيز حضور البلد في المشهد كلاعب أساسي، على الأقل في أمن البحر الأحمر الذي تطلُّ عليه، وإنّما للتمكّن من الحُكم والسيطرة أكثر، برعاية إقليمية ودولية على حساب أمنها القومي ومصالح مواطنيها، فصارت أشبه بشرطي صغير جداً في نظام الحماية في المنطقة في ذروة استقطابات الحرب الباردة.
مطلع الثمانينات تاجرت هذه السلطة بألوف الشُّبان الفقراء في حرب الوكالة، التي تخوضها جماعات الإسلام السياسي والقوى الدِّينية المتشددة في أفغانستان، وعملت على تسهيل سفرهم إلى "بيشاور" ومدن باكستان القريبة من مناطق الصراع. المئات منهم لقوا حتوفهم في صراع لا ناقة لهم فيها ولا جمل، غير تلك الصُّورة المجمَّلة عن الجهاد ومقارعة عدو الله الشيوعي الطامع في بلاد المسلمين، ولا يدري معظمهم أنهم كانوا ضحايا جشع واستغلال الوكلاء واستنفاعاتهم المادِّية.
كانت أجهزة الاستخبارات الغربية، وأذرعها داخل الأنظمة الموالية لها في المنطقة وباكستان، تهدف من وراء ذلك إلى شيئين:
الأول فيهما: إغراق خصمها السياسي والعسكري في حرب طويلة لا يخرج منها معافى، وهو الذي صار مع انهيار الاتحاد السوفيتي في العام 1991م. والثاني: إفراغ مكبوتات طلاب المدارس والمعاهد الدِّينية في هذه الدول في مساحات بعيدة عن حواضنها الأصلية، بعد أن وصلت الاحتقانات إلى ذروتها بعد حادثة احتلال جماعة "جهيمان العتيبي" للحرم المكي في نوفمبر 1979، وأيضاً ما أفرزته تحولات السلطة في مصر السادات. ومنها استثمار الجماعات المتشددة في ضرب خصومها.
شكَّلت المجاميع اليمنية والقادمون من اليمن وعبرها النسبة الثانية تقريباً بعد السعوديين في حرب أفغانستان، ومعظم المجاميع كانوا من طلاب المعاهد العلمية (الدِّينية) التي تكوَّنت في اليمن منتصف العام 1974م بتمويل ورعاية سعودية، وصاروا، مع الوقت، يشكِّلون في المجتمع صوتاً قوياً ومؤثراً.
مطلع الثمانينات أيضاً بدأت السلطات السعودية بالتضييق على العمالة اليمنية في مدنها، وبدأت أولى موجات العودة للكثير منهم، بسبب سعودة بعض الوظائف والمهن، والتضييق على المقيمين وأسرهم بشكل عام. واستثنائهم من خدمات التعليم العالي والتطبيب.
كل ذلك والسلطة في صنعاء لا تبادر بأي خطوة لحماية مواطنيها، رغم أن "اتفاقية الطائف" في تجديدها الثاني كانت لم تزل سارية المفعول، التي تنطوي على بند يسمح للمواطنين اليمنيين في السعودية برعاية مميّزة، يحظون بعديد امتيازات المواطنين السعوديين، لأن ثمن سكوتها كان مدفوعاً سلفاً. أبناء الكثير من الأُسر العائدة شكَّلوا المخزون الاستراتيجي للقوى المتشددة، بحكم التنشئة ونظام التعليم في الجارة، والاستقطابات النشطة التي تمّت في صفوفهم.
صار بعدها الدُّخول إلى الدولة الغنيّة يتصعب شيئاً فشيئاً، وبدأ نشاط التهريب على الحدود يتعاظم، فارتكبت القوات الأمنية السعودية عشرات الجرائم بحق المواطنين اليمنيين، التي وصلت في سنوات تالية إلى حد إحراقهم في أخاديد رملية على الحدود، وامتلأت السجون بالألوف منهم، ولم يجدوا في السلطة سنداً..
شيطنة المواطن اليمني بدأت تتعاظم، بمرور الوقت، في المجتمع السعودي، وصار ينبذ لفقره وجهله وعزلته.
جاءت حرب الخليج الثانية بعد اجتياح نظام صدام دولة الكويت واحتلالها في أغسطس 1990م، فاصطفّ نظام صالح إلى جانب نظام صدام، دون مراعاة ظروف المغتربين اليمنيين، فاتخذت السعودية وبقية دول الخليج قرارها بطرد العمال اليمنيين منها، وكانت عودة المليون مواطن، بين 1990و1991م، هي الكارثة الحقيقية على اقتصاد الدولة الوليدة (الجمهورية اليمنية التي نشأت بتوحيد شطري اليمن في مايو 1990م)،
لم يكتفِ نظام صالح، بعد تحييده لشريكه في الوحدة وإضعافه، من الاستثمار في هذه الحالة، بل خاض حرباً أهلية بمعيّة حلفائه القبليين والدِّينيين ضد شريكه (الحزب الاشتراكي اليمني) وحواضنه الجغرافية في المحافظات الجنوبية، مدفوعاً بنَهم السلطة والسيطرة والاستحواذ على الموارد، وكان رأس الحربة في حرب النظام هي المجاميع المتشددة (العائدون من أفغانستان)، الذين وجدوا في هذه الحرب بغيتهم الكُبرى في محاربة الشيوعيين كما شيوخهم؛ وفي هذه المناطق الجديدة أسسوا إماراتهم وجيشهم (جيش عدن أبين الإسلامي)، الذي سينفذ أخطر عملية إرهابية بحق السيَّاح في محافظة أبين في ديسمبر من العام 1998م، ليبدأ بعدها العالم بتصنيف اليمن ك'منطقة خطرة'، فحذّرت الدول رعاياها من الوصول إليها، ولم تمضِ غير سنوات قليلة حتى كانت السياحة في اليمن قد تدمّرت تماماً، وبدأت صورة اليمن أكثر تهتكاً.
في عمليتين متتابعتين تم تفجير المدمّرة الأمريكية (يو. إس. إس كول) في 12 أكتوبر 2000 في ميناء عدن.
قبل قرابة عام من غزوة نيويورك في 11 سبتمبر 2001، ثم الاعتداء على الناقلة الفرنسية (ليمبورغ) قرب المكلا بعد عام (6 أكتوبر 2002)، كل ذلك أعاد إنتاج صورة اليمني بوصفه إرهابياً، ويمنع دخوله إلى معظم البلدان، دون أن تحرّك السلطة ساكناً، بل مكّنتها، هذه العملية، من فتح نافذة لتطلَّ منها على العالم الخارجي، بوصفها شريكاً في مكافحة الإرهاب، في الوقت ذاته التي عملت على ابتزاز الخارج بقيادات قاعدية، اتخذت من جبال اليمن وصحاريها مركزاً بديلاً لتحرّكاتها بدلاً عن جبال أفغانستان من أجل تمرير مشروعها في استدامة الحكم والتوريث.
وما حدث قبل انتخابات الرئاسة في العام 2006، كان تمثيلاً واضحاً لذلك التوجُّه، فحينما وجد علي صالح نفسه عارياً بدون حلفائه التاريخيين، الذين اصطفوا مع بقية "أحزاب المشترك" خلف مرشح المعارضة فيصل بن شملان، لم يكن أمامه سوى اللعب مرّة أخرى بملف الإرهاب، في ابتزاز صريح للخارج، وكان ذلك من خلال إطلاق أبرز المتهمين في قضية المدمّرة "كول" من سجن الأمن السياسي في صنعاء بتمثيلية مفضوحة (حفر الأنفاق بالملاعق)، وكان أول عمل قام به هؤلاء بعض التفجيرات قرب منشآت مأرب النفطية، وجهها صالح لدعم ترشيحه وإلاَّ فالبديل هو غولٌ كامنٌ في ظله.
اُعلن عن فوز صالح في تلك الانتخابات، بطريقة مبتذلة، دون أن يعترف بنتائجها منافسه بن شملان حتى وفاته.
الانتكاسات السياسية والاقتصادية المتلاحقة، وسياسة إدارة البلاد بالأزمات التي اتبعها نظام صالح، جعلت من المجتمع بكل مكوّناته يرى في ربيع 2011م حلاً لإنتاج صورة مختلفة عن اليمني الساعي للتغيير سلمياً، غير تلك الصورة التي كرّستها سلطة صالح وحلفائه، غير أن السلطة بانقسامها الرأسي سرعان ما فطنت إلى ذلك، فعملت على إنتاج حالة من الفوضى المستديمة في الحياة العامة حتى تحافظ على وجودها، ومنها إنتاج الحالة الحوثية وتعزيزها؛ لتقود هذه اللعبة الخطيرة البلاد إلى هذه الحرب اللعينة، التي لم تزلْ السلطة بتركيبتها التقليدية تستثمر فيها، على جانبي المتراسين.
وحده الانسان في اليمن تكبر صورته المتهتّكة في وعي الآخر، بالحالة ذاتها التي تنتفخ فيها جيوب أمراء الحرب والمستنفعين منها من رموز السلطة ووجهاتها الاجتماعية والسياسية التي أنتجت تلك الصورة، واستثمرت فيها طويلاً.