مقالات
عاتكة الخزرجي والشعر المكشوف!!
يبقى رمضان شهر المقالات الخفيفة المهضومة، التي تعيدنا إلى الموروث الإبداعي العربي على غرابته بين القرون؛ لأن أهم ما تحققه الطليعة هو اقتياد الرعيل بالقدوة والاهتداء؛ لأن أول الحركات هي من فعل جماعة، وأول الوقود من مستصغر الشرر، أما إذا كانت جمرة فهي ممتدة الاتقاد.
هكذا أحدثت عاتكة الخزرجي صورة جديدة في الأدب، إذْ عرف متتبعو آثار الأدباء "الغزل الرجالي"، وكيفية هذا الغزل، وأنواع تجاربه؛ منها ما هو حسِّي، ومنها ما هو معنوي، ومنها ما هو حقيقي، ومنها ما هو تخيلي.
وتدل قراءة أعمال التخيّل والتخييل على أن التجربة التخيلية أو الخيالية أدل على الفنان والفن، قال أحد الإغريقيين القدامى:
"أريد أن أرسم صورة مؤلمة حزينة"، فلم يبلغ أي مدى ففكر..! وكلما فكَّر لم يتخيّل، وإنما يبحث عن مخرج، فرأى أن يقبض ثلاثة من الرجال غلامه من كل أطرافه، والرابع يكويه في جبهته، والتقط الصورة، فقال كل من سمع عن الحادثة، ورأى الصورة إن هذه تجربة بائسة؛ لأن تصوير المؤلم في حال ألمه لا يدل على ألم صادق، لكن التخيل يخلق ما هو أجمل من مخلوقات الواقع.
وهكذا كانت عاتكة الخزرجي من الرعيل النسائي الطليعي، التي تعددت أعمالها: أستاذة في الجامعة، صاحبة مجلة ثقافية، مستشارة تربوية، وكانت ذات قدرة مؤثرة في تحسين كل عمل، بل وفي إيجاد فكرة عمل، وكانت تتميّز بصوت جهوري نفَّاذ لا يخلو من مخالب وأظفار، فإذا خطبت أو ألقت قصيدة فلا بُد من تنحي الميكرفون بعيداً عنها؛ لأنه يُحدث من الوشيش والشرشرة أكثر مما يحدث من التجسيم.
في مطلع الخمسينات، كانت أشهر شواعر تلك الحُقبة، وتميَّزت في شِعرها بتقديم أحاسيس الرّجل نحو المرأة في خفقاته، في ارتعاش كلماته، في أدائه الخطاب البياني أو الاجتماعي؛ فما مرت قصيدة من قصائدها إلا وهي مركزة على رجُل، أو مطوية إلا وهي مركزة على رجُل، وكأنها أرادت كشف الجانب العاطفي عند الرجُل الذي يبوح بعواطف مستعارة، أو يحمل وجه عاشق وليس بعاشق، فعرَّفَتْ عشق الرجل بقولها:
إنه لوعةٌ وبعض التفاني، ويقين له مُحيَّا الأماني
يشتهي ثم يشتهي ثم يلقي ثم يرتد كالهلوع الجبانِ
إنه يحسن التصاول فرداً تحت سقف الدُّجى وسقف الدخان
هل أسميه عاطفياً خجولاً أو أسميه عبقرياً أناني؟!
وفي منتصف الخمسينات تناقل المتتبعون قصيدة مكشوفة اعترفت فيها امرأة بميلها إلى الرَّجل، وتمنيها أن تلاقيه (...) ويلاقيها (....)، لكي يتأمل كل في تكوين الآخر، فيسبِّح الله فيما أبدع، وفي جلال ما كوَّنْ.
ثم انتقلت إلى الطَّور التعليمي، فشَكَتْ نظرات الطلاب وذهولهم عند رؤية امرأة في سن أمهاتهم، وكان أول غزل يرى من تستحق الغزل، برغم أنها مُهابة الطلعة، إلا أنها خجولة كالعذارى!!
وفي عدن، كتبتْ مجموعة شِعرية سمتها "على حد الميناء"، وأشارت إلى نفي "عمر بن أبي ربيعة" إلى جزيرة "دهلك"، وعقدت بينها وبينه حواراً وجدانياً، فحنَّت إلى المنفى، وهو حنّ إلى سيدة الحُسن!!
وفاجأت القُراء، في عام 1960م، بكتابها "علية بنت المهدي"، التي كانت شاعرة ومعشوقة العباس بن الأحنف، وكان الغزل عندها معقولاً؛ لأنها تريد أن تكون المرأة مطلوبة وهاجرة، كما قالت عُليَّة:
ليس بالمعروف في شرع الهوى عاشقٌ يُحسنُ تلفيق الحُججْ
جُبِلَ الحُسنُ على الجُور، فلو أنصفَ الحُسنُ ذويه لسمجْ
قالت عاتكة: "إنَّ هذا البحر في هذه القافية أحدث لها شوقاً إلى أن تقول من هذا الشعر ...".
قالت في وصف رحلتها: "وكان قيض عدن على أشُّدِّه؛ مع أني أردت أن اصطاف من بغداد، فإذا بي أنزل مكاناً أحَرُّ لفحاً؛ إلا أنَّ البحرَ يُلطَّف مجاري الهوى ومسارب النسيم".
ومضت في كتابها عُليَّة بنت المهدي في التساؤل:
"هل هي معشوقة العباس بن الأحنف حقاً؟".
وقالت إنها كانت تتحلى بعصابة أشار إليها ابن الأحنف؛ إلا أنها لم تُورد النص؛ لأنه -على حسب تعبيرها- مكشوف، واستغنت عنه بهذا:
"أتاذنون لصَبٍّ في زيارتكم وعندكم شهوات السمع والبصر
لا يضمر السوء إنْ طالَ الجلوس به عَفُّ الضمير، ولكنْ فاسق النظر".
وكانت أول باحثة عن عشيقة العباس بن الأحنف التي سماها "فوز"، وهل الاسم رمز، أو تغطية؟ قالت: "أرى هذا"، أي أن المعشوقة غير "فوز".. فمن هي؟!