مقالات
عبد الحسين شعبان وتواضع العلماء
الدكتور عبد الحسين شعبان من المفكّرين العرب، انتمى منذ بدايات ستينيات القرن الماضي للفكر الماركسي. انتسب للحزب الشيوعي العراقي، واحتفظ بمستوى من الاستقلالية والرؤية.
تربّى في بيئة تقرأ القرآن، وتحافظ على القيَم والمُثُل الإسلاميّة، وتُوْلِي التعليم والتعلّم أهميةً كبيرة. فهو ابن النجف- موئل الفكر الشيعي. بقيت تلاوة والده والقرآن حاضرين معه.
انفتح على الحياة، وانتمى باكرًا للعصر الحديث. درس في جامعة بغداد الاقتصاد والعلوم السياسية، كما درس القانون في تشيكوسلوفاكيا.
كدكتور، واصَلَ درس القانون، والشرعة الدوليّة، والصكوك، والمواثيق، والإعلانات، ليصبح خبيرًا في حقوق الإنسان، وعضوًا فاعلاً في العديد من المنظمات والمنتديات المدافعة عن الحرّيات والحقوق، وذا باعٍ طويل في الإعلانات الدولية والبيانات، وصياغة الدساتير.
درس الفقه الإسلامي في المذاهب المختلفة، كما درس العهد القديم والجديد، واحتفى كثيرًا بتيارات وعقائد الحضارات الإنسانيّة، كما تشرب أفكار العصر وتياراته الحديثة.
عبد الحسين شعبان مثقف عضوي ومتعدّد. قرأ الفكر الماركسي- الكتب التأسيسيّة عند ماركس، وانجلز، وبليخانوف وغيرهم.
ثقافته المتنوّعة والمتعدّدة والمنفتحة على تيارات العصر أكسبته المهارة والقدرة على نقد "الدوغما"، و"الإيمانية"، وتحويل الأفكار إلى إيمان ومعتقدات.
الماركسي الناقد للماركسيّة
يُعدّ شعبان ضمن قلائل من الماركسيين العرب الذين امتلكوا الذكاء والشجاعة المعرفية لنقد الجوانب الشائهة والشائخة في الماركسية، وبالأخص في طبيعتها الدولتيّة، ونسختيها "الستالينيّة"، و"الجدانوفيّة"، شديدتي القمع والعدوانية.
اتّساع وعمق معارف شعبان جنبتاه الوقوع في حبائل الجمود والتحجّر والولع بالأدلجة والجمل الثوريّة الميتة، وأبعدتاه عن بؤر العداوات والصراع التي أحاقت بقوى وتيارات وزعامات عديدة.
لعلّ الميزة العظيمة والرائعة له هو الاهتمام بالقضايا الإنسانيّة والدفاع عنها، والنزول إلى المواقع والفعل؛ ليسجل صفحةً ناصعةً في عديد من القضايا الوطنية العراقية والقومية العربية وقضايا الإنسانية في غير مكان.
الانفتاح على الفكر الإنساني، وعلى وقائع العصر وأحداثه وتياراته المختلفة، وتعلّقه بالأدب والشِّعر والشعراء، وعلاقاته الحميمة بكبار المبدعين كالجواهري، والبياتي، ومظفر النواب، وعبد الأمير الحصيري، وهادي العلوي وعلي الوردي وعشرات غيرهم، وقد أجرى العديد من المقابلات وكتب عن بعضهم.
وهو أيضًا دارس للفقه الإسلامي، وحواراته مع العلّامة المجدّد والمجتهد أحمد الحسني البغدادي تدل على تمكنه، وسعة اطلاعه، وموسوعيّة معارفه؛ وهو إلى جانب كل ذلك ناقد أدبي، ومثقف سياسي، وناشط في عدّة ميادين حقوقية وأدبية واجتماعية وثقافية.
في العام 2015 وفي إحدى زياراته إلى صنعاء، وكانت شهرته سبقت وصوله؛ فقد التقى بالدكتور عبد العزيز المقالح وبالعديد من الأدباء والكتاب والمثقفين، وأجريت معه حوارًا يومها؛ فاندهشت لسعة اطلاعه، وعمق معارفه وخبرته بالحياة وأوضاع أمته وعالمه.
كتبت عنه حينها: "إنسان بسيط تجلس إليه؛ فتحس لغة مديدة لقرون متطاولة. القلوب جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف وتستمع إليه؛ فتستشعر عمق: "وفيك انطوى العالم الأكبرُ".
تحار أيهما يتفوق: تواضعه، أم علمه؟! ولكنه تواضع العالم. ومن ازداد عِلمًا، ولم يزدد هدىً، لم يزدد من الله إلّا بعدًا. فهو ابن العراق - أحد أهم وأكبر معاني الحضارة الإنسانية. والإنسان وارث حضارة.
نشأ في بيئة فكرية وثقافية لها مذاق المعارضة لآماد متطاولة. انتمى لليسار الإسلامي، والفكر الإنساني بعامة. عشق القديم؛ فقتله بحثًا. قرأ الثقافة العربية والإسلامية؛ فهو تلميذ نجيب للكندي، والفارابي، وابن سينا، والحلاج، وابن عربي، والملا صدرا الشيرازي، والخيام، والسهروردي، والمعري والتوحيدي، وابن مسكويه. وانفتح على الفكر الإنساني والعلمي؛ فهو رفيق درب لهادي العلوي، والجواهري، وناظم حكمت، وعبد الرحمن منيف، وسعدي يوسف، ومحمود أمين العالم، وحسين مروة، وحيدر إبراهيم علي، وعبد الله العروي، وأبو يعرب المرزوقي.
انتماؤه لليسار لم يحجب عن بصره ما أصاب تياراته الفلسفية والفكرية والأدبية من مظاهر الدوغما، والعصبيات الأيديولوجية، والجمود، والممارسات القامعة؛ فهو أديب وناقد أفاد كثيرًا من تعدد مواهبه، وسعة اطلاعه، وهو مفكر غزير الإنتاج مزج أو وَحَّد بين معارفه الواسعة، وانغماسه في الدفاع عن الحريات والحقوق والديمقراطية والعدل، وسجل مواقف زاكية في مجال الحقوق، ومنافحة العنصرية والدكتاتورية، وقد ترك ثروة علمية فكرية وأدبية وسياسية تربو على الستين مؤلفًا، مع عشرات الدراسات والأبحاث، ومئات وآلاف المقابلات التي تتوزع على كثير من المجلات والصحف العربية والأجنبية، كما حاز العديد من الأوسمة والتكريم لمكانته وعطاءاته الثرة، ومواقفه الرائعة.
المفكر شعبان ناقد بامتياز؛ فقد نقد الجوانب الشائخة في الفقه الإسلامي في المذاهب المختلفة: سنية، وشيعية بعد القراءة والحوار.
انتمى للحزب الشيوعي العراقي، ودرس بعمق الفكر الماركسي- كما سبق القول-، وقدم نقدًا للماركسية في طبيعتها الستالينية الشائهة، وللاستعارة العمياء من قبل الأحزاب الشيوعية العربية، والاعتقاد الإيماني، وتحويل الماركسية إلى إنجيل.
انتقد الكثير من مواقف الأحزاب الشيوعية، وتجربة الاتحاد السوفيتي الذي نُظِر إليه كمطلق ومقدس، كما نقد غياب النقد والديمقراطية في تجارب الرفاق في العراق تحديدًا، وفي بلاد الشام سوريا.
كمثقف عضوي وضعي ومتعدد ينتقد رؤية ما بعد الحداثة للثقافة، ويرى -محقًا- أن الثقافة تعبير عن الوعي الإنساني. وحقًا، فإن الجذر اللغوي للثقافة تعطي الأولوية للبعد العملي. ثَقَّفَ السيف: صقله. ثَقَّفَ الفرس: رَوَّضَها. ثَقِفَ الإنسان: تهذب. فالثقافة في دلالتها الأنثروبولوجية ترتبط بالحياة، وبالجوانب العملية، وبالفكر والوعي والممارسة العملية في آن.
كما ينتقد فكرة الثقافة المتعالية على واقع الحال، وأتى على فكر هادي العلوي ذي المنحى الصوفي، وشاعرية عبد الأمير الحصيري المتمرد حد الفوضوية والصعلكة.
كمثقف منفتح واسع الاطلاع يدرس الهوية مرتبطةً بالثقافة، ويقرأ من الزوايا القانونية والفكرية موضوع الهوية، والجنسية، والمواطنة.
والمفكر شعبان عدو لدود للتخوين، والعنف، والتكفير في التجارب الثورية، ابتداءً من الثورة الفرنسية، مرورًا بثورة أكتوبر الاشتراكية 1917، وثورة إيران الإسلامية، والثورات القومية العربية. والملح الأهم موقفه من القومية، والعروبة، والدين.
الأمة والقومية في ضوء منهجه النقدي
في كتابه "عامر عبد الله: النار ومرارة الأمل" يدوّن ما ورد في تقرير الكونفرنس الثاني للحزب الشيوعي العراقي (1956) في تعريف الأمة: "فالأمة العربية أمة واحدة تمتلك جميع الخصائص القومية للأمة الواحدة من حيث كونها جماعة ثابتة من الناس تكونت تاريخيًا، وتسكن أرضًا مشتركة برغم الحدود المصطنعة القائمة، وتتكلم بلغة مشتركة، ولها مقومات الوحدة الاقتصادية، ولها تكوين نفسي مشترك يجد له تعبيراً في الثقافة، والتقاليد العربية المشتركة، وفي الطموح المشترك الحار نحو الوحدة". (عامر عبد الله، ص 278- 279).
وهذا هو التعريف الستاليني للأمة. أما المفكر القومي ساطع الحصري، فيحصر تعريف الأمة في اللغة، والتاريخ؛ وهو ما ينتقده إلياس مرقص مقدمًا نماذج حية في العالم للتدليل على فشل التعريف.
ويرى مرقص أن اللغة لا تُفسَّر بدون الأرض والاقتصاد والدولة والدين، ويرى أنها تعجز عن فهم التاريخ القومي، وعن تفسير اللغة القومية، ويربط فاعلية اللغة بالعوامل الجغرافية والديمغرافية والاقتصادية والسياسية والمعنوية. (نقد الفكر القومي، ص 218).
ويشير الدكتور شعبان في كتابه "تحطيم المرايا - في الماركسيّة والاختلاف"، (ص 191) بالقول: "وإذا كان ساطع الحصري تحدث عن نشوء الفكرة القومية، وميشيل عفلق تناول القومية بشيء من الرومانسية في كتاباته الأولى مطلع الأربعينيات مثل: القومية حب قبل كل شيء، والقوميّة قدر محبّب، لكن ما واصله عبد الله عبد الدائم، وعبد العزيز الدوري، وعبد الرحمن البزاز، وشبلي العيسمي، وإلياس فرح، وقبل ذلك قسطنطين زريق كان شيئًا مختلفًا أكثر عمقاً وشمولاً".
وحقًا، فإن تطورًا ما قد حصل في فكر بعض الرموز القومية، وحصل أيضًا نكوصٌ راعب في الفهم العرقي لمفهوم الأمة في الممارسة الواقعية للبعث الحاكم في العراق وسوريا. ويبقى الدكتور قسطنطين زريق بما تركه من إرث كبير وتنظير مائز في سُلَّم أولويات الفكر القومي العلمي.
يتتبع الباحث والناقد شعبان البدايات السلمية الصائبة للأحزاب الشيوعية حول القضية القومية، والربط الجدلي بين القومي، والأممي. ويحدد بدقة بداية الانحراف من الموقف السوفيتي من قضية فلسطين، والاعتراف بالتقسيم، وخطاب غروميكو في الأمم المتحدة، والاعتراف بإسرائيل.
ويقدم الدكتور شعبان نقدًا علميًّا للتبدّل في موقف الأحزاب الشيوعية العربية؛ مستثنيًا الحزب الشيوعي السوداني، وبعض الرموز في الأحزاب الشيوعية، وما تعرّضت له من فصل وإرهاب، ويدين محقًّا خالد بكداش الذي حمل لواء الستالينية.
يدرس بدايات الانحراف في الموقف السوفيتي الممالئ -حد التواطؤ- مع الإمبريالية الأمريكية، ووجود رهان على اليسار الصهيوني الذي انقلب ضد السوفيت بـ 180 درجة، ويرى أن للحزب الشيوعي الفرنسي وصحيفته "اللوموند" دورًا في هذا الانحراف الخطير.
الانقسام الخطير الذي حصل في حركة التحرر الوطني العربية، وتحديدًا بين التيارات القومية: البعث، حركة القوميين العرب، الناصريين، وبين الأحزاب الشيوعية العربية- كان قضية القبول بالتقسيم. ولا يستبعد -ومعه حق- في أن تكون المكيدة صهيونية.
ولابد من الإشارة إلى أن الأنظمة العربية التي رفضت التقسيم لم تكن بعيدة عن اللعبة، ولم تكن قضية تحرير فلسطين واردة إلا بعد هزيمة 1967، بينما كانت إسرائيل -ولا تزال- هي الرافض الحقيقي للتقسيم، وهي مع دولة صهيونية من البحر إلى النهر. كانت الرؤية الصهيونية اعتقادية واستراتيجية، بينما اتخذت في الجانب العربي طابع الدعاية والتكتيك.
وفي حين يحدد شعبان فهمه وموقفه لوجود أمّة عربية، فهو في نفس الوقت يعترف بوجود الأمّة الكردية التي مزقها الاستعمار، ووزعها على أكثر من دولة. فهو يرى أن العراق مكون من مكونين: عربي، وكردي. ويدين الباحث شعبان الاستعلاء العرقي والشوفينيّة القوميّة والتعالي على المكون الكردي.
ويقينًا، فإن مأساة العديد من البلدان العربية تتمثّل في رفض الاعتراف بالإثنية، وبالمكونات العرقية الأخرى في العراق، وسوريا، والسودان؛ وهو ما تنبه له الدكتور في كتبة الكاثرة وأبحاثه ودراساته؛ حيث يعطي أهمية كبيرة فيها للتآخي بين القوميتين: العربية والكردية في العراق، وينتقد مواقف التعادي بين العرب والكرد، ويدرس المواقف والممارسات الخاطئة للحكومات العراقية المتعاقبة، كما ينتقد بنفس الحرص مواقف بعض الزعامات في الأحزاب الكردية، إضافةً إلى دراسته مواقف الحزب الشيوعي العراقي من القضية الكردية؛ ناقدًا بعض الانحرافات، وخطل المواجهات؛ فالعداوات القومية ترتد إلى عداوات طائفية وقبلية وحتى أسرية؛ وهو ما يحدث اليوم في العديد من البلدان العربية.
وعندما يُسأل عن القومية العربية؟ وكيف يراها؟ يجيب -بتحرج- عن قصور فهم الماركسي للقومية، ويعيب عدم الانشغال بهذا الجانب المهم من البنية التكوينية للعقل العربي الوضعي، والتعويل على الفهم الأوروبي المبسط للمسألة القومية، لاسيّما الاستعانة بخطوطها المعرفية كما هي دون التفكير بالاجتهاد النقدي، أو التجديد النوعي. (انظر: تحطيم المرايا، ص 174).
وينتقد النقل الميكانيكي للقوانين الماركسية في تشكيلاتها الاجتماعية وتعاقبها وتأصلها ثم تحولها دون أن يُفهم المكون الوضعي التاريخي لها، وبأي معنى يمكننا تجاهل الشروط البنيوية لتاريخ الأمم والشعوب وحركتها. (تحطم المرايا، ص 176).
ويقينًا، فإن تعميم نظرية المراحل الخمس على جميع أمم وشعوب الأرض فيه قدر من المركزية الأوروبية. وهناك رسائل كثيرة متبادلة بين ماركس وانجلز ولاسال وآخرين تتحدث عن النمط الآسيوي، وقدم دارسون مهمون نقدًا للاستعارة من النقل من الفكر الأوروبي بدون معرفة حقيقية بالأوضاع الاجتماعية والتاريخية والثقافية للبلدان الأخرى؛ وهو جهل يؤدي إلى تغريب الواقع؛ وهو ما أدركه المفكر شعبان في كتابه «تحطيم المرايا».
يفرد شعبان مساحة واسعة لفلسطين، والقضية الكردية، ويقرأ القضيتين في ضوء الرؤية الماركسية الوضعية النقدية، والقراءة المغايرة والمختلفة للسائد، ويدرس القضيتين كقضيتي حركة تحرر وطني.
القضية الكردية
يربط نشأة القضية الكردية -أكراد العراق- بتأسيس الدولة العراقية. وقد اهتم بها منذ الانتماء للحزب الشيوعي العراقي، ويتناول المعاهدات: "سيفر"، و"لوزان" بين الحلفاء، وتركيا، ويشير إلى تأثيراتها السلبية على العراق ودول المنطقة. ويدرس التجزئة التي طالت الأكراد؛ رافضًا دعوات الحل العسكري، ومائلاً إلى الحل السياسي.
لقد عمل الباحث على دعم القضية الكردية طويلاً، وقد صدرت عدة قرارات دولية وعربية تناصر الشعب الكردي، وحقه في تقرير مصيره عبر المقترحات التي دعا إليها، وعبر نصوص كتبها بقلمه، ويعرفها القادة الأكراد. (انظر: تحطيم المرايا، ص 205، وص 214).
ويأتي في الكتاب المشار إليه أعلاه على تناول التدخل الإقليمي والدولي في القضية الكردية، وموقف الحركة الشيوعية، والمسألة الكردية بعد الاحتلال، وتحديات العلاقات العربية -الكردية، والماركسية، والفيدرالية، والعدالة، والديمقراطية... إلخ.
قضية فلسطين
يفرد شعبان عنوانًا للتنظير الماركسي للقضية الفلسطينية في كتابه «تحطيم المرايا»، ويشير أنه منذ ربع قرن وهو يعلن موقفه، الذي استكمله بالدراسة والبحث؛ منددًّا بالخطيئة الستالينية؛ رابطًا ذلك بالمصالح السوفيتية، ووجود موظفين يهود في الخارجية السوفيتية ربما يتعاطف بعضهم مع الصهيونية، وللأمر ارتباط بمزاج ستالين.
ويشير أن مفكرًا سوفيتيًّا معاديًا للصهيونية يدعى يفسيف توافقت آراؤه مع آراء شعبان في مقابلة نُشِرَ الجزء الأول منها في صحيفة "الثورة" السورية.
وشهد عهد أندروبوف تأسيس "اللجنة الاجتماعية السوفيتية المناهضة للصهيونية"، وقد بذل جهدًا ومعه الدكتور جورج جبور فتقدَّما بمقترح لمؤتمر اتحاد الأدباء والكتاب الفلسطينيين المنعقد في دمشق لتأسيس اللجنة العربية لدعم "قرار الأمم المتحدة 3379" الخاص بمساواة الصهيونية بالعنصرية، الصادر في 10 تشرين الثاني / نوفمبر 1975، وضمّت نخبة من المثقفين والمفكرين العرب بينهم: ناجي علوش، وإنعام رعد، وعبد الرحمن النعيمي، وسعد الله مزرعاني، وصابر محيي الدين، وغازي حسين، وعبد الهادي النشاش، وعبد الفتاح إدريس، وآخرين، واختير الدكتور عبد الحسين أمينًا عامًا، والدكتور جورج رئيسًا لها.
ويشير أن القرار الذي صدر عن قمّة الكويت للمؤتمر الإسلامي العام 1987 بخصوص دمغ الصهيونية بالعنصرية، واعتبارها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري- كان باقتراح منه. وقد طلب من الرئيس حافظ الأسد التكرم بالإيعاز للخارجية السورية لعرض الاقتراح على المؤتمر باسم الوفد السوري، وقد وافق المؤتمر على المقترح.
ويذكر العديد من الشخصيات العراقية من التيار الماركسي التي تشاطره الرأي في الموقف من القضية الفلسطينية، والكردية، منهم: عزيز شريف، وهادي العلوي.
ويرى -محقًّا- أن الموقف من الوحدة العربية يمثل عنصر ضعف لدى الحركة الشيوعية بشكل عام، مثنيًا على موقف الحزب الشيوعي السوداني الراعي الوحيد للوحدة العربية، ويُصدم بموقف كريم مروة المندد بالوحدة.
ما يميز رؤى ومواقف المفكر شعبان من القضايا القومية العربية: قضية الوحدة العربية، وقضية فلسطين، والقضية الكردية، وضوح ودقة التحليل وصدق الموقف. ويقينًا، فإحدى نقاط الضعف في موقف الأحزاب الشيوعية العربية، والأحزاب القومية، وحركات التحرر، والأنظمة القومية- الرؤى العمياء، والممارسات اللّاديمقراطية في فهم وبناء التجربة الوحدوية، أو التجارب العديدة الخائبة، والمصيبة أيضًا أنها تطال البناء الوطني داخل هذه البلدان؛ فقد غاب إدراك التنوع والتعدد، وتفاوت التطور، والاختلافات المتجذرة، والتعامل معها بتعالٍ وعصبوية؛ وهو ما أدى -مع وجود عوامل أخرى- إلى الحالة البائسة.
حواراته الدينية ورؤيته للإصلاح
كتابات ومناظرات ومواقف الباحث عبد الحسين شعبان تدلّل على امتلاكه أفقًا مفتوحًا، وقيمًا حداثية، ورؤىً تتسع لما هو مؤتلف ومختلف، وتتقبل وتحترم الرأي الآخر.
في كتابه «دين العقل وفقه الواقع»؛ وهو مناظرات مع الفقيه السيّد أحمد الحسني البغدادي، والكتاب من ألفه إلى يائه حوارات ونقاشات وجدل فكري وفقهي حول أعقد القضايا وأكثرها حساسيةً واستشكالاً في الفقه الإسلامي، والفكر الديني.
يأتي المتحاوران على: الحداثة، والتقليد، والوعي بالتاريخ، والاجتهاد، والعلماني، والديني، وهل الإسلام دين ودولة؟ وعن فكر اللغة، ولغة الفكر، وعلاقة الفكر بالدين، ومن أين يبدأ الإصلاح؟
كما يدور التحاور حول الإيمان واللّاإيمان، والدين والإرهاب والدين والعنف، والمقدس والمدنس ونقد التقليد والطائفية والتشيع (الأيديولوجي) وصناعة الفقه وحكم المرتد والموقف من المرأة والعصمة والمعصوم وعلم الغيب وغير ذلك.
والكتاب (المناظرات) يقع في أكثر من ثلاثمائة صفحة، ويعم ويشمل مختلف جوانب القضايا الدينية، وتفاصيل التفاصيل فيها.
الديني والعلماني
سوف أحاول تناول قضايا الديني والعلماني، ورؤيتيهما كمتحاورين، وباقتضاب شديد. وبشكل خاص علاقة الإرهاب بالدين، والفتنة الطائفية التي تؤرق الوطن العربي والعراق بشكل خاص، وقراءتهما للتشيع، وفكرة العصمة، وموضوع المرأة.
قبل ذلك لا بدّ من الإشارة إلى الطرف الثاني في الحوار؛ وهو المرجع العلامة الفقيه المجدد والمجتهد أحمد الحسني البغدادي. وهو من أبرز علماء الشيعة الذين على قيد الحياة، ويُصنَّف نفسه كيساري إسلامي. دارس للتراث الإسلامي، والأحزاب والتيارات الحزبية، والانتفاضات الشعبية، مؤيد وناقد للثورة الإيرانية، وخصوصًا دعمها للجماعات الإسلامية، وهو في الوقت نفسه ضدّ الاحتلال الأمريكي، مثلما هو ضدّ الرأسمالية وذيولها الرجعيّة والإقطاع كما يقول.
في تمهيده الموسوم "على سبيل التمهيد" ينقل شعبان عن إليوت قوله: ثلاث قضايا لا بدّ من اجتماعها لتطورنا: المعلومة، والمعرفة، والحكمة. وقول كونفوشيوس: الحكمة تعني معرفة الناس. أما الفضيلة، فهي حبهم.
ويصف المناظرة مع البغدادي بأنها متعة وذات فائدة؛ مشيرًا إلى الهوية التي تضيق وتتسع. ويدين قرب رجل الدين من السلطة، والتأثير على العامة.
ينقل عن هيجل تعريفه للحداثة، واستخدامه لها في سياقات تاريخية للدلالة على حِقبة زمنية محددة؛ معتبرًا أن الحداثة بدأت مع عصر التنوير. ويقول: أن الحرية مكون عظيم الأهمية للحداثة، وهي بمنزلة الروح. ويضيف: ومرت فكرة الحداثة بتطورات متعددة من ديكارت صاحب الحداثة الفلسفية إلى ماكس فيبر الذي ربطها بتطور العقلانية والبيروقراطية في الرأسمالية. تلك التي مهدت لمنجزات كبرى في إطار الثورة العلمية التقنية.
وبعد عرض شامل يقول شعبان: "وفي ضوء هذه المقدمة تداخل السيد الحسني البغدادي قائلاً: لهذا يجب على الفقيه المجدد أن ينتقل نقلة نوعية في فضاء العنصر المتحرك الذي يمثل المتغير من خلال استئناف تحرير الفقه من جديد؛ حتى تكون المتون الفقهية مواكبةً للواقع المعاصر؛ بحيث يُحسُّ الإنسان المكلف أنه يعيش عصره في الفقه الجديد؛ ليحل معاناته ومشاكله وأزماته التي ترافقه باستمرار على مستوى التفكير والتصور الإسلامي؛ أي للأفراد والجماعات؛ داعيًا إلى نظرية معرفية عامة في العلوم الشرعية كلها، وكذلك في العلوم الإنسانية والاجتماعية. (ص 45 باختصار).
وردًا على سؤال نظرية "منطقة الفراغ التشريعي"، وعلاقتها بالقضايا الاقتصادية، يتوقّف المتحاوران ليسلّطا الضوء على كتاب باقر الصدر "اقتصادنا".
كما يتبادلان الرأي بتوافق شديد بشأن القضية الفلسطينية وارتباطهما العاطفي والتاريخي بها. وينقل شعبان عن البغدادي رأيه الداعي إلى تصعيد الكفاح المسلح، وضرب المصالح الإسرائيلية، وإسقاط الحكومات العربية المساندة للحلول الاستسلامية. (ص 52 بتصرف).
من أين يبدأ الإصلاح؟
يتطرق الباحث إلى أن العديد من المفكرين العرب راوحوا بين فئتين؛ الأولى: تميل إلى التقليد. والثانية: تميل إلى الإصلاح.
الأولى: مغلقة ومحافظة، والثانية: مفتوحة ومجدّدة.
ويورد سؤال التقدم والتأخر عند شكيب أرسلان، ويتساءل قبلاً تحت عنوان "فكر اللغة ولغة الفكر"؛ مشيرًا إلى وجود كوابح وعقبات تعوق إرادة التجديد تتخذ لبوسًا طائفيًا، أو مذهبيًّا سوف أشير إليها باقتضاب شديد.
1- عدم القناعة بالتجديد.
2- انخفاض درجة الوعي بأهمية التجديد.
3- الخشية من الانفتاح على الآخر.
4- تعارض التجديد مع المصالح والامتيازات التي يحصل عليها بعض رجال الدين.
وقد عقب الحسني مؤيدًا ومضيفًا سببًا خامسًا بأن هناك نهجًا لإبقاء الفقه الإسلامي بجميع مذاهبه ومشاربه على ركوده وجموده.
ويتساءل: كيف يمكن تأنيس الإله؟ ويجيب بإعادة الدين إلى أصله الإنساني؛ أي جعله ممكنًا بواسطة العدل والحق أو - بحسب ألبير كامو في كتابه "المتمرّد"- إعادة الله إلى الإنسان، والإنسان إلى الله؛ لأن الله بدون الإنسان ليس أكثر من إنسان بدون إله. (ص 61).
ويرى أن المشكلة ليست في الدِّين، بل في فهمه الخاطئ، وتوظيفه لأغراض أنانية، وينتقد بعض أشكال التديّن التي تتعارض مع قيم التقدم والتمدن؛ فكلّما كان الطريق إلى الله جميلاً ازداد الإنسان جمالاً وطمأنينة؛ ولذلك قيل: لله طرائق بعدد أنفاس الخلائق. (ص 70). ويقول بعض أتباع الصوفية: الطرائق بعدد الخلائق. (الكاتب).
الدِّين والعنف
تحت هذا العنوان يتناول شعبان الجهاد الأكبر، والجهاد الأصغر. والواقع أن الفقه الإسلامي كله يقسم الجهاد إلى: دفعي، وطلبي. يتناول الباحث الدفعي- الدفاع عن الأرض، والعرض، والمال، والوطن، والقاطنين فيه، وما عليه من خيرات.
والواقع أن الفقه الإسلامي كله مع هذا التقسيم، ولكن التمذهب والوقائع التاريخية تبين أن الفهم السائد للجهاد هو الجهاد الطلبي؛ وهو ما يشترك فيه الفقيه التقليدي، وداعية "الفريضة الغائبة".
ثمّ إنّ تعظيم الاستشهاد يتشارك فيه سيد قطب صاحب كتاب "معالم على الطريق"، وصاحب كتاب "الشهادة" علي شريعتي، ويسود هذا الفهم في الأحزاب العربية الحديثة بما فيها بعض الأحزاب اليسارية: (الحزب الشيوعي العراقي)، و(الحزب الاشتراكي اليمني) المتباهي بأن حزبيهما حزبا الشهداء؛ وهو ما انتقده الأستاذ عبد الحسين شعبان. (الكاتب).
في المناظرة الرابعة: "الدِّين بين المقدّس والمدنّس" ينتقد الكتاب المذكور بعض رجال الدين، وإضفاء نوع من القداسة على تصرفاتهم؛ وهو ما ينتقده المفكر علي شريعتي، وذلك من قبيل الأوصاف التي يطلقوها على أنفسهم: "ثقة الإسلام"، "حجة الإسلام"، "آية الله"، "آية الله العظمى".
ويرى أن لقب آية الله آتية من رجال الدين أنفسهم، أو من طلبتهم. ويقرأ بدقة وانتقاد شديد سهم الإمام (الخُمُس)، وإساءة التصرف فيه، كما ينتقد بشدة مدرسة الإخباريين ورموزهم، ويتلقى إجابة مهمة من السيد الحسني حول نشأة التقليد، الذي لا أساس له.
في المناظرة السادسة في "نقد مبدأ التقليد" يتناول اختلال المصطلح المولود في حضن السلطات، كما يرى المفكر الإسلامي عادل رؤوف. ويعرض المناظر مثالب التقليد، وقيم الاجتهاد، ويأتي على ذكر التقليد باعتباره ليس أصلاً من أصول الدين، وليس فرعًا من فروعه. ويقول: الأصول هي: التوحيد، والعدل، والنبوة، والإمامة، والمعاد. ويتناول الفروع: الصلاة، والصوم، والزكاة، والخُمس، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتولي للنبي وآله، والتبرّي من أعداء النبي وآله. (ص 99).
الباحث يتناول الأصول كما هي عند متكلمي الاثنا عشرية. ومعروف أنها نقاط خلاف بين السنة والشيعة، وهي موضع انتقاد شديد لدى بعض علماء الشيعة المجددين وأصحاب "نظرية المشروطة"، ومنهم كتّاب مثل النائيني، والمرزا حسين خليل، وعبد الله مازندران؛ وصولاً إلى محمود طالقاني، وتيّار طويل عريض في الثورة الإيرانية.
أُدركُ تمامًا أن الباحث عبد الحسين شعبان في نفس الكتاب، والعلامة الجليل أحمد الحسني البغدادي ليسا مع رأي سلفيي الشيعة من أنصار الإمام الغائب، وأصحاب ولاية الفقيه؛ فهما أبعد ما يكون عن ذلك، ولكن لما تركته هذه الاعتقادات من إشكالات فكرية وعملية وصراعات وخلافات، وددت الإشارة إليها مستشهدًا بما يقوله الشهرستاني عن الإمامة أنه: ما سفك دم على قاعدة دينية كما سفك على الإمامة؛ فأحببت الإشارة. (الكاتب).
ينتقد البغدادي الفتاوى، والشهادة الثالثة في الأذان؛ مؤكدًا على أهمية الاجتهاد، رابطًا بين التجديد والاجتهاد. ويشدد على إدانة الفتنة الطائفية في العراق؛ مشيدًا بروح المقاومة. ويعود لمعالجة هذه القضية المتعلّقة بالإمامة؛ معلنًا أنه مع الإمام العادل مهما كان دينه، واتجاهه السياسي وعرقه؛ لأن العدل هويّة. ويضيف: وعلى المسلمين قبول العادل مهما كان؛ فهو خير من مسلم ظالم. (ص 130).
الإمامان جعفر الصادق، وأحمد بن تيمية يريان أفضلية الدولة "الكافرة" مع العدل على الدولة الإسلامية مع الظلم، والقرآن الكريم يسمي الشرك ظلمًا "إن الشرك لظلم عظيم". (سورة لقمان - الآية 13). (الكاتب).
ينتقد المتناظران الطائفية، ويريان فيها كل مآسي ومصائب الشعب العراقي والأمة العربية والإسلامية، وأن المستفيد منها أمراء الطوائف من الفريقين، وينتقدان قيام الحكم على التقاسم والمحاصصة في العراق، ويورد الباحث شعبان مقولة عالم الاجتماع العراقي علي الوردي: "طائفيّون بلا دِين".
ويتناول شعبان حملة التهجير الواسعة عام 1980 (بحجة التبعية الإيرانية)، ويوثّق موقفه برسالته القانونية الموجهة إلى الأمم المتحدة، وأمينها العام كورت فالدهايم باسم المهجرين العراقيين، الذين ساعدهم في تأسيس جمعية، وأشرف عليها وصاغ بيانها الأول. وحقًا، فإن التهجير لعب دورًا خطيرًا في إذكاء الصراع الطائفي، وأعطى إيران سلاحًا استخدمته ضدّ العراق في الحرب العراقية - الإيرانية (1980 - 1988) وما بعدها.
المناظرة العاشرة: الشيعة السياسية: «البيان»، و«البيت»
يتحدث شعبان أنه عرض على السيد البغدادي العودة إلى مشكلة الطائفية السياسية منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921. ويشير الباحث إلى دور بريطانيا في سَنِّ القانون الأساس عام 1925 وقبله (قانون الجنسية العراقية) العام 1924؛ عملاً بسياسة فرِّق تسدْ، والذي استمرّ التمييز بسببه، بل زاد تعقيدًا عشية الحرب المشار إليها وخلالها وما بعدها. ويتوقّف الباحث عند قوانين الجنسية العراقية الغريبة عن غيرها من القوانين التي تشترط على المواطن الحصول على شهادة الجنسية بعد الجنسية، حيث تمّ تقسيم المواطنين إلى فئتين ألف ( من التبعية العثمانية) وباء (من غير التبعية العثمانية). ولعلّ هذه المسألة مستمرّة في بعض جوانبها، ولم تُحل نهائيًا، على الرغم من إلغاء بعض قرارات مجلس قيادة الثورة المنحل والخاص بعملية التهجير، الأمر الذي يتطلّب اعتماد مبادئ المواطنة المتكافئة والمتساوية دون تمييز.
ويشير المناظر إلى موقف متقدم للإمام محمد مهدي شمس الدين نشره عام 2002، وقدم له غسان تويني؛ تحت عنوان "الوصايا"، دعا فيه الشيعة إلى أن ينخرطوا في مجتمعاتهم وشعوبهم ودولهم إذا ما أرادوا أن يخدموا آل البيت، وألّا يسعوا لإنشاء مشروع خاص، بل عليهم الاندماج في نظام المصلحة العامة، وأن يكونوا متساويين في ولائهم للنظام وللقانون والاستقرار وللسلطات العامة على أساس الشراكة مع الأقوام والشعوب والجماعات التي ينتمون إليها.
ويوصي الشيعة في كل مجتمع من مجتمعاتهم، وألّا يبنوا علاقاتهم على أساس التمايز الطائفي والمذهبي، وأن يتجنّبوا في كل موطن لهم شعار "حقوق الطائفة"، والمطالبة بحصص في النظام. ويعلق الباحث: وبتقديري أن في ذلك دعوة جريئة للإقرار بالدولة الوطنية، والمطالبة بالمواطنة المتساوية، وعدم التمييز كأساس للمشاركة والشراكة في الوطن مع بقية الشركاء. (ص 173).
ويرى -محقًا- أن إعلاء شأن مرجعيّة السيستاني ترفعه إلى مرتبة ولاية الفقيه، وتجعله فوق مرجعية الدولة، أو إحداث نوع من التراتب بينه وبين الدولة؛ حتى وإن لم يُنص عليها في الدستور صراحة، لكن ذلك جاء في ديباجته التي وضعها بمنزله عُليا. (ص 182). ويقدم الباحث نقداً صارمًا لولاية الفقيه. ويشير إلى تبادل رسائل بين السيستاني، وبريمر تتجاوز الثلاثين رسالة لم يفصح بريمر عن مضمونها، وهو ما جاء في كتابه "عام قضيته في العراق"، كما يمكن الاطلاع على مقالة شعبان المنشورة في جريدة النهار "السيستاني أو ولاية الفقيه غير المعلنة"، والتي يعبّر فيها عن الطبعة السيستانية لولاية الفقيه.
ويرى الباحث المناظر: إن مكان رجال الدين من الفريقين: الشيعة، والسنة، وبوجه عام: المسلمين، والمسيحيين وغيرهم هو المساجد، والجوامع، والكنائس، ودُور العبادة والعلم، وليس الانخراط في العمل السياسي. (ص 186).
المناظرة الحادية عشرة: الفيدرالية، والفدرلة، والتقسيم
يناقش شعبان السيّد الحسني البغدادي حول مشروع الفيدرالية، ويقول له: إن ما ورد في الدستور الدائم لا علاقة له بالنظام الفيدرالي، وأن في الدستور ألغامًا كثيرة؛ لانبنائه على أُسس المحاصصة المذهبية، ويقوم على الزبائنية، وتوزيع المغانم، ويرى البغدادي أن فيدرالية الدستور العراقي لا تستهدف وحدة العراقيين، وإنما تمزيقهم. وقد طرح بايدن- نائب الرئيس الأمريكي عام 2007 مشروع التقسيم، ووافق عليه الكونجرس: ثلاث فيدراليات: شيعية، وسنية، وكردية.
ويشرح شعبان لمناظره الفرق بين الفيدرالية والتقسيم، ويحدد بدقة طبيعة النظام الفيدرالي وقوانينه العامة مع خصوصية الوضع العراقي، ولا علاقة لها بالمظلومية؛ أو الغبن التاريخي أو النسيج المذهبي أو التمييز، تلك التي تندرج عادةً في الدساتير في باب الحقوق والحريات. (ص 190). أمّا الفيدرالية فتتعلّق بنظام الحكم المطبّق في أكثر من 40 بلدًا، ومعظمها تجارب ناجحة، إذا ما اقترنت بطائفة من الإجراءات والقوانين السليمة وبممارسات صحيحة وشفافة.
المناظرة الثانية عشرة: مصادر التشريع: الإجماع، والشهرة
يشير الباحث أن البغدادي في كتابه المهم "التفسير المقاصدي"، يتناول مسألة الإجماع بوصفه أحد مصادر التشريع الإسلامي، وهي: القرآن، والسنة النبوية- أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيحة المعتمدة، وأفعاله، وإقراراته المؤكدة، والإجماع، والقياس.
وقد عدّ الشيعة الإماميّة العقل، والاجتهاد مصدرًا أساسيًا، ويستدلون بقصة معاذ بن جبل في جوابه على سؤال الرسول في حال عدم وجود نص فماذا يفعل؟ فأجاب: أجتهد رأيي. فزكَّاه الرسول. ومعروف في المذاهب السنية وجود خلاف حول حجية الإجماع، والقياس. (الكاتب).
المناظرة الثالث عشرة: الردّة والمرتدّ ومَنْ في حُكمهما
بعد فذلكة يسأل شعبان البغدادي: هل صحيح أن حكم الفقه الشيعي على المرتد الذي يتم تكفيره أشد قسوة من الفقه السني؟ ولماذا؟
يفرق البغدادي بين الارتداد والتكفير؛ مذكِّرًا بتكفير الشيوعيين الذي قام به السيّد محسن الحكيم، وأن رأيه مختلف، ويقسم الشيوعيين إلى ملاحدة فلسفيًا ومؤمنين وهم الغالبية. ويحترم قناعاتهم ؛ خصوصًا دفاعهم عن الفقراء. (ص 217-218).
ويسأله هل ناكر الإمامة كافر؟
فردّ البغدادي: إن العدل الإلهي، والإمامة الشيعية من أصول المذهب، ومن أنكرها ليس شيعيًا إماميًا، لكننا لا نقول بكفره، فنحن لا نكفّر أهل السنة والجماعة- منكري الإمامة (هذا اجتهادهم).
ويتناول الباحث مواقف الوهابية، والتيارات التكفيرية، وتكفير السنة للشيعة. بل تكفير السنة للسنة؛ وهو موجود بين مختلف المذاهب السنية، وأحيانًا داخل المذهب الواحد، والأمثلة كثيرة، أبرزها تكفيير الدواعش لعموم المسلمين. (الكاتب).
ويورد الباحث الآيات القرآنية الرافضة للتكفير، مستنكرًا الحكم على سلمان رشدي، ومحمد محمود طه في السودان، وفرج فودة في مصر، وجار الله عمر في اليمن؛ داعيًا إلى إلغاء نظام العبودية كلها، وأن يكون للمؤمن وغير المؤمن نفس الحقوق، وعليهم نفس الواجبات، وأن قتل المرتد غير شرعي وهو من اختصاص الله في اليوم الآخر، وليس لأحد الحق في تجريمه أو ارتكاب فعل القتل دون وجه حق (خارج القانون).
المناظرة الرابع عشرة: هل المرأة عورة وناقصة عقل ودين؟!
يتناول الباحث المناظر موقف النصوص الدينية الممتزجة بالقيم والتقاليد القبلية والسلطوية، وهيمنة الذكورية، والمجتمعات التقليدية، والأحاديث، ومدى إيمان العلامة البغدادي بها.
ويرد البغدادي أن "الإنسان" مفردة حياتية ترمز إلى الرجل والمرأة، ويكذب ما نُسِب زورًا إلى الرسول والإمام علي. ويرى أن لا فرق بين الرجل والمرأة، وأن الإسلام ساوى بينهما في الحدود والقصاص وسائر العقوبات، وتحمل كل التكاليف، وللمرأة نفس الثواب، نافيًا كونها عورة، وأن ذلك لا علاقة له بالإسلام وهو جزء من موروث التخلف.
ويأتي المناظر على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، وردود الفعل إزاءه، لاسيّما في قضية الميراث وتحديد سنّ الزواج وتسجيله مدنيًا عبر المحكمة، وإلّا سيكون غير معترف به، ويرد البغدادي بأن المرأة ترث في أكثر من ثلاثين حالة مثل نصيب الرجل، ويعدد هذه الحالات.
ويتناول الباحث قضية المساواة التي طرحها الرئيس التونسي القائد السبسي، وتكفيره من قبل الإسلاميين، وناقش موضوع تعدد الزوجات، وقوانين الأحوال الشخصية، والقانون التونسي المتقدّم بهذا الخصوص (1956)، والقانون اليمني (1974)، ويعتبر البغدادي أن للتشريع الإسلامي منهجًا خاصًا في قضية تعدد الزوجات، وبأن الرجل ملزم بتطبيق العدالة؛ وبالتالي الزواج مشروط بشروط لا تتحقق في الأمور الطبيعية الاعتيادية؛ وهذا -بحسب الظاهر- سحب للتعددية؛ يقصد تعدد الزوجات لا تجويز لها. انتهى كلام الحسني البغدادي. (ص 235).
ويسأله عن زواج القاصرات؟ ويكون الجواب متمدنًا ومتحضرًا، ويتفق مع الاعتراضات التي ذهبت إلى اتفاقية مكافحة التمييز ضد المرأة.
ويرى الباحث أن هذا الموضوع مثار جدل في الفقه منذ تأسيس الدولة العراقية؛ حيث تصدرت معركة السفور والحجاب، وتعليم المرأة عناوين السجال الدائم في هذا الحقل. (ص 137).
ويتناول حقوق المرأة كمقياس لا يخطئ لمعرفة تقدّم أي مجتمع، وخصوصًا مساواتها مع الرجل. ويتناول قضايا الزواج والطلاق والقانون رقم 188 لعام 1959، الذي اعتبره البعض خطوة متقدمة، ومطالبة البعض بإلغائه.
المناظرة السابعة عشر: العصمة والمعصوم
يسأل المناظر هل هناك بشر معصومون؛ أي أنهم فوق البشر؟ وهل انتهى عهد العصمة، أم ثمة بشر يرتقون اليوم إلى هذه المنزلة، ومنهم بعض الفقهاء الذين يطلق عليهم اسم المرجعية، أو آية الله، أو المرشد الأعلى، أو الشيخ؟ والموقف من العصمة والمعصوم؟
ويتناول المناظر معنى «العصمة» في اللغة والاصطلاح، كما يقرأ عصمة الرسل والأنبياء، ويتناول العصمة في الفقه الشيعي والسني.
ويرى المناظر انفراد الاثنا عشرية بالقول بعصمة الأئمة الاثنا عشر، وتعد من جاء من نسل الإمام علي وفاطمة معصومين، وينسب إلى الحلي القول بأنهم لا ينسون ولا يخطئون.
ويرد البغدادي بأن العصمة موهبة إلهية يتفضل بها الله على من يشاء من عباده الصالحين. ويفسر العصمة بالصيانة في الفكر والعزم. فالمعصوم المطلق من لا يخطئ في حياته، ولا يعصي الله في عمره، ولا يريد العصيان، ولا يفكر فيه؛ مؤكدًا على أن الإمامة أصل من أصول الدين لدى الشيعة كحفظ لوظيفة النبوة والرسالة السماوية، والأئمة معصومون من الخطأ والهوى والزلل والمعصية؛ وهو ما يميزهم عن سائر البشر العاديين. وإذا كان الأمر يتعلّق بالأصل فهناك من يريد أن يسحبه اليوم إلى الفرع، أي نائب الإمام الغائب؛ وهذه مسألة تتعلّق بولاية الفقيه والحكومة الإسلامية ودور المرشد الأعلى، وهي مسألة سياسية اعتقادية يجري تهويلها والمبالغة فيها أحيانًا. (ص 267).
ويتناول العصمة في كتاب "منهاج السّنة"، لابن تيميّة والذي ردّ به على "منهاج الكرامة في إثبات الإمامة"، لابن المطهر الحلي. ويعتبر الرازي العصمة في إجماع الأمة، بينما يراها ابن تيمية في القراء والفقهاء والمحدثين.
ويضيف المناظر: وهنا يشترط ابن تيمية العصمة لضمان حفظ مضمون الشريعة كما هي الحال عند الآخرين من الشيعة وغيرهم. ويتساءل: فما الذي أجازها لمجموعة، ومنعها عن فرد؟ (ص271).
ويتوافق رأي المتناظرين في هذه القضية، والأهم استدلال البغدادي ببشرية النبي صلى الله عليه وسلم؛ مستشهدًا بالآية الكريمة: "إنما أنا بشر مثلكم" (سورة الكهف - الآية 110).
ويخلص الباحث المناظر أن العلامة البغدادي لا يريد أن يخالف الرأي السائد والمألوف في خصوص عصمة الأئمة الإثنا عشر، وأنه لايريد أن يغرد خارج السرب؛ فتلك قناعته التي ينبغي أن تحترم.
وأخيرًا، تحيّة إعزاز وإكبار لـ"دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع"، وللأستاذة الجليلة الشاعرة سعاد الصباح باختيارها الموفق تكريم المعلّم المفكّر والإنسان الدكتور عبد الحسين شعبان المدافع عن الحرّيات العامة والديمقراطيّة وحرّية الرأي والتعبير وقضايا أمّته العربيّة وحقوق الإنسان في كل مكان.