مقالات
عن أول كُتب الدكتور أبو بكر السقاف ومجلة "الكلمة"
(1)
باستثناء مسودات الكُتب، التي صادرتها الأجهزة الأمنية حينما داهمت بيته في صنعاء (1)، فللدكتور أبو بكر السقاف مجموعة من الكُتب المتداولة (2)، يعود أبكرها إلى العام 1977م، وعنوانه "دراسات فكرية ونقدية"، (3) وصدر عن سلسلة كتاب "الكلمة"، بتقديم للدكتور عبد العزيز المقالح، وهو الذي سنركِّز عليه في هذه الوقفة، بمرور أربعين يوماً على وفاته، هناك في منفاه الاختياري في العاصمة الروسية موسكو، ودفنه فيها، ومرور خمس وأربعين سنة على صدوره..
جاء في تقديم الدكتور المقالح للكتاب:
أن من بين الباحثين الكبار هنا من ينتظر كتابات "أبوبكر" في الكلمة، ويراها من أجود ما تقدمه المجلة، إن لم يكن أجودها. ولهذا وذاك فإن جمع بعض كتاباته الأدبية والفكرية وإصدارها في هذا العدد من كتاب "الكلمة" حدثٌ يستحق التنويه، وهو في الوقت ذاته حظ حسن لهذه السلسلة من كتاب "الكلمة"، الذي يسعى إلى خلق كيان متقدّم لثقافة وطنية حديثة وجادة" (4).
أما مجلة الكلمة، التي قصدها المقالح، فهي أول مجلة ثقافية خاصة، ساهم في تطويرها في سنوات التأسيس الأولى نخبة من المثقفين والأدباء اليمنيين (أبوبكر السقاف، وعمر الجاوي، وعبد العزيز المقالح، وعبد والودود سيف، وأحمد قاسم دماج وعبد الباري طاهر، وصالح الدحان، وإبراهيم المقحفي).. أسس المجلة الدكتور محمد عبد الجبار سلام في مدينة الحديدة، وصدر أول أعدادها في ديسمبر 1971، وكانت إلى جانب مجلة "الحكمة"، التي أعاد الراحل عمر الجاوي إصدارها في إبريل 1971 في عدن، باسم "اتحاد الأدباء والكُتاب اليمنيين"، ومجلة "اليمن الجديد"، التي أصدرتها وزارة الإعلام في صنعاء في العام 1972، ورأس تحريرها الشاعر والناقد عبد الودود سيف، ومجلة "الثقافة الجديدة"، التي أصدرتها وزارة الثقافة في عدن في الفترة ذاتها، ورأس تحريرها فريد بركات، هي المنابر التي لاذ بها المثقفون اليمنيون، وكان أكثر الكتاب الناشطين في مجلة "الكلمة" الراحل السقاف، لأسباب تفسَّر بدرجة رئيسة قرب المجلة من حزب العمل اليمني اليساري، الذي أسسه سياسيون ونقابيون قريبون من السقاف، منهم صديقاه عمر الجاوي وعبد القادر هاشم.
(2) كتاب "دراسات فكرية ونقدية" أشبه بكشَّاف كبير يعرض تنوع نتاج السقاف بين الكتابات الفكرية والأدبية والترجمة والموسيقى، والمنفتح على أكثر من مستوى زمني وجغرافي وثقافي.
أقدم الموضوعات في الكتاب أنجزه - حسب التنويه أسفل ص7- في ديسمبر 1970م عن بتهوفن.. "موسيقى لكل العصور"، واعتبرها محاولة للتعبير عن أحاسيس متذوق لموسيقى، وهي تبعاً لذلك لا تتطرق إلى المعايير الموسيقية، التي يعنى بها عادة المتخصصون، لكنها تكتفي ببعض المسائل التي يحفل بها علم الجمال.
كان بتهوفن مثل أبناء عصره العظماء (كانط، نتشه، هيجل، شيلر) معجباً بالثورة الفرنسية، ومتحمساً لها أشد الحماس، ولذا عدها المؤرخون من مصادر إلهامه.
بلغة أدبية طرية قام بترجمة العديد من نصوص الشاعر الروسي ليرمنتوف مع مقدمة مكثفة عن تجربة الشاعر الذي عدَّه الروس خليفة لشاعرهم القومي بوشكين. ترجمة السقاف للقصائد 'حسب واحدة من إشارته- تعود إلى الفترة بين 61- 63، وهو طالب علوم إنسانية في موسكو، التي لم يمض على وجوده فيها غير عامين، وشغفه هو الذي قاده إلى هذه المغامرة.
وترجم أيضاً سيرة وبعض من قصائد الشاعر الروسي بلوك (بلوك الكساندر بتروفتش)، الذي يعده الروس أكبر ممثل للرمزية في تسعينات القرن التاسع عشر، الذي امتاز شعره بالعمق الفلسفي والصدق وجودة الصناعة، كما يقول
من ليرمنتوف وبلوك يعود إلى الزبيري متتبعاً، وبواسطة نتاجه الملموم تجربته الشعرية ونزعته الفكرية في دراسة أسماها "الزبيرى شاعراً ومفكراً"، وهو الموضوع الذي سيعالجه من زاوية جديدة في كتابه الثاني حين يطرق موضوع (في الوطن والوطنية) كإسهام ثالث في السجال الكبير الذي دار بين عمر الجاوي وزكي بركات حول الشاعر الزبيري، هل هو شاعر الوطنية -كما وصفه الجاوي- أم شاعر الحرية -حسب تعليلات بركات- لينحاز في نهاية المطاف لرأي بركات.
يتخذ من تسلم "سيمون دي بوفوار"، في العام 1975، جائزة منحها العدو الصهيوني لها "جائزة القدس لحرية الفرد في المجتمع"، ليعيد تسميتها بـ"يسمون دي صهيون"، مشتغلاً -في الوقت ذاته- على الخلفية الثقافية لنشوء الوجودية، واليسار الجديد الراديكالي الذي نظّر له الفيلسوف الألماني هربرت ماركيوز، حين صارت كتاباته موضة في العالم وقتذاك، تلقفها العرب بنوع من الانبهار، فأعاد السقاف التذكير بمقولة ابن خلدون (المغلوب يقلد الغالب). والتذكير أيضا بكتاب المفكر محمود أمين العالم (ماركيوز أو فلسفة الطريق المسدود) في نقد وتحليل أفكار الألماني المتصلة بالقضية الفلسطينية، وكشف ارتباطها بالفكر السياسي الصهيوني المعاصر.
ينطلق في ملاحظاته النقدية للمركزية الأوروبية من الارضية الفلسفية، وإن ما يصدق على الفلسفة -من وجهة نظرة- يصدق على شتى المجالات الفكرية الأخرى، ذلك لأن المركزية الأوروبية مناخ يتنفس فيه المفكرون البرجوازيون على اختلاف مشاربهم وميولهم، فهذا الفكر -منذ آماد بعيدة- يعيش في عالم لا تشاركه في صنعه الحضارات الأخرى.
أكثر أدوات المركزية الأوروبية في حضورها الثقافي المتعالي كانت حركة الاستشراق، التي اقتصرت في بدايتها على المبشرين والسياسة والخبراء الذين لا يهدفون إلى البحث العلمي بقدر ما يسعون إلى تحقيق أهداف محددة تساعد على توطيد سلطة المستعمر واطالة عمره، لتصير مع الوقت المحرك الخفي للتعالي العنصري على الآخر المفقر والمتخلف بفعل السياسات الاستعمارية ذاتها.
التاريخ المهمل للمعتزلة عند الباحثين العرب المعاصرين، وكذا مؤرخي الفِرق القدامى، هو الجانب الاجتماعي والسياسي، وأن الاقتصار على ذكر المظاهر العامة للحركة لا يؤدي إلى صياغة محددة واضحة للجذور الاجتماعية لحركة الاعتزال. وهذه المسألة -من وجهة نظره- بحاجة إلى المزيد من الفحص والدراسة. فليس الإشارات المشتتة بين مهن البعض منهم، أو انسابهم إلى المواضع السكنية التي أقاموا فيها، دليلاً حقيقياً للبناء عليه في دراسة هذه الأصول.
_______________
(1) ينظر في (البدء كان السقاف)
https://www.cratar.net/archives/167002
(2) إلى جانب كتاب (دراسات فكرية ونقدية 1977)، صدر له أيضاً ( كتابات1) عن مؤسسة 14 أكتوبر في عدن 1981، و"الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في اليمن الشمالي" 1988- صدر أولاً باسم الدكتور محمد عبد السلام، قبل أن يصدر باسمه الصريح بطبعة ثانية منقحة في 2020 بصنعاء، (دفاعاً عن الحرية والإنسان) 2011، وقام بإعداد مادته منصور هايل.
(3) دار العودة، الطبعة الأولى يناير 1977.
(4) دراسات فكرية ص9