مقالات
فلسطين حروب مستمرة ومبادرات خائبة
فلسطين حروب مستمرة، ومبادرات كاثرة، وهدن مؤقتة، وحلول زائفة، وقرارات لا تنفد، هذه هي محنة فلسطين.
يشير الأستاذ محمود عبد الحليم في كتابه «الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ» أن الهدنة الأولى في 5 يونيو 1948، ويسميها الكارثة العظمى، وإنه بينما المجاهدون يوجهون ضربات مركزة في كثير من المناطق، ويعدون أنفسهم للوثوب على القدس الجديدة، إذا بالدول العربية تقبل الهدنة الأولى، وتصدر أوامرها لجيوشها بوقف إطلاق النار لمدة أربعة أسابيع.
يضيف: "ولم تكن الهدنة الأولى إلا أسلوبًا جديدًا ابتكرته هيئة الأمم؛ لمساعدة اليهود وتمكينهم من جلب الأسلحة الثقيلة والذخائر. وكانت الهدنة الثانية في أكتوبر من نفس العام؛ لتتيح للجيش الإسرائيلي محاصرة الجيش العربي، وإرغامه على التقهقر والانسحاب". (ص 425، و 426).
لم يكن الاستعمار البريطاني بعيدًا عن اللعبة؛ وهو ما يدرسه عميقًا المفكر القومي قسطنطين زريق في كتيبه «النكبة». كان حل الدولتين بموجب القرار الأممي (181) لصالح إسرائيل، ومع ذلك لم تنفذه أو تلتزم به؛ لأنها حسب المخطط الصهيوني الاستعماري الأوروبي تسعى لإقامة الدولة اليهودية من البحر إلى النهر.
الفكر العالمي قائم على حقيقة أن العوامل الداخلية هي الأساس، وأن العوامل الخارجية تأثيرها ثانوي ومساعد، ولكن في حالة ضعف العوامل الداخلية تصبح العوامل الخارجية هي الأقوى والأساس؛ وهو ما يشير إليه المفكر الإسلامي مالك بن نبي ويسميه «قابلية الاستعمار»، ويناقشه باستفاضة قسطنطين زريق في كراستيه: «النكبة»، و«النكبة مجددًا» عن 1948 و1967.
يقول زريق: "سبع دول تتصدى لإبطال التقسيم، وقمع الصهيونية، فإذا بها تخرج من هذه المعركة وقد خسرت قِسْمًا لا بأس به من أرض فلسطين، بل من الجزء المُعْطَى للعرب في التقسيم، فإذا بها تُقْهر قهرًا على قبول هدنة لا مصلحة لها فيها".
ويدرس المفكر زريق حالة الضعف والتخلف والتبدي، وحالة التفوق والقوة الأوروبية والأمريكية والإسرائيلية. هزيمة 1967 كانت أقسى من كارثة 1948، ومع ذلك، فقد قبل الزعيم العربي بوقف إطلاق النار، ولكنه عمل، ومنذ اليوم الأول، على إعادة بناء الجيش، واستمر في حرب الاستنزاف، وشجع المقاومة الفلسطينية ودفع بها إلى الواجهة. التزمت الأنظمة العربية بالهدنة، التي فرضتها الأمم المتحدة، ولم تلتزم بها إسرائيل.
وفي حين راحت إسرائيل تبني كيانًا عسكريًا قويًا وحديثًا انشغلت الأنظمة العربية بالخلافات والصراعات البينية والداخلية؛ حتى تكررت الكارثة الثانية 1967، وهي أسوأ من الأولى؛ لأنها أضاعت الضفة الغربية والقطاع وسيناء من مصر، وأجزاء واسعة من الأردن والجولان السورية.
ظل التزام الهدنة قائمًا من جانب النظام العربي الرسمي، بينما شهدت سبعينات القرن الماضي صعود نجم المقاومة الوطنية الفلسطينية، وحققت إنجازات مهمة في مقاومة المحتل، ووضع القضية الفلسطينية في قلب العصر، وجعلتها محورًا من محاور حركات التحرر الوطني.
كان إنجاز الانتفاضتين الفلسطينيتين: انتفاضة أطفال الحجارة 1987، والانتفاضة الثانية عام 2000؛ فقد فرضت الأولى عودة قيادة السلطة إلى الضفة والقطاع، بينما فتحت الثانية الباب مجددًا أمام مقاومة الداخل: الضفة، والقطاع.
مثلت «اتفاقيات أوسلو ومدريد» نكوصًا عن المقاومة، وتراجعًا عن الحق الفلسطيني في التحرر والاستقلال، أو ما يسميه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد «سلام أمريكي أو سلام بلا أرض».
"السلام الأمريكي أو السلام بلا أرض" هو ما تسعى إليه أمريكا وأوروبا الاستعمارية، وترفضه إسرائيل تكتيكيًا. حرب الـ7 من أكتوبر 2023 اعتبرتها إسرائيل الفرصة الذهبية لبناء الدولة اليهودية من البحر إلى النهر، وقذف الفلسطينيين خارج وطنهم، وليس من وسيلة أو سبيل غير حرب الإبادة.
لأول مرة تنخرط أمريكا ومعها بريطانيا وإيطاليا وفرنسا للمشاركة في الحرب بالقوة العسكرية والأمنية، والدعم المالي والتأييد السياسي المطلق، وكان الموقف العربي الرافض للحرب ضعيفًا وخائفًا، بينما وقف "محور المقاومة" موقف المساند، وتميز الموقف اليمني بالانخراط في ضرب السفن الإسرائيلية أو المتجهة لإسرائيل؛ وهو ما دفع أمريكا وبريطانيا وبعض الدول للحرب ضد اليمن.
يصر الكيان الصهيوني بشقيه: اليمين العلماني، والديني على استمرار حرب الإبادة عبر الحرب والحصار والتجويع حد التمويت وتدمير كل معالم الحياة. عجزت الحرب عن طرد الفلسطينيين، وهذا معناه فشل الحرب، وفشلها تشكيك في الأساس الذي قامت به وعليه دولة خرافة «وعد الرب من النيل إلى الفرات»؛ وهو ما ينقل المعركة إلى الداخل الإسرائيلي، وقد يدفع إلى صراع مؤشراته قائمة في دولة مواطنوها غالبيتهم آتون من أمم وشعوب وبلدان أخرى، ويمتلك الكثير منهم مواطنة مزدوجة، لا يتحملون الهزيمة، أو العيش في بيئة غير آمنة.
كما أن الاستعمار القديم والجديد يفقد أهم موقع له في قلب المنطقة العربية - منطقة الثروة والثورات وخط عبور طريق الحزام والحرير. هدنة 1948 مكنت إسرائيل من بناء كيان يتهدد الأمة كلها، ويفرض التطبيع على العديد من دولها.
التطبيع وإن كان مُعْطَى من معطيات الهزائم العسكرية للأنظمة العربية، والضغط الأمريكي الباتع والتواطؤ، إلا أنه لا يقل خطورةً وضررًا من الهزيمة العسكرية. فالهزيمة العسكرية -عبر التاريخ- خسارة معركة، أما التطبيع فمهادنة العدو، وتخلي عن القضية.
الأفدح أن مصر وسوريا اللتين حققتا نصرًا بمستوى معين تم الالتفاف عليه من قِبَل السادات بكامب ديفيد، وكان اتفاق مدريد وأوسلو أقسى من الهزيمة العسكرية؛ لأنه أتاح لإسرائيل التمدد في الضفة، وربط السلطة بالتنسيق الأمني، ووضعها تحت رحمة الاحتلال.
ما عجزت عنه إسرائيل في نكبة 1948 حققته بريطانيا عبر الأمم المتحدة بالهدنة، وأتاح وقف إطلاق النار فيما بعد حرب أكتوبر 1973 فرض التطبيع، وإبعاد مصر عن زعامة الأمة وقيادة المنطقة. حرب الـ7 من أكتوبر (طوفان الأقصى) هي الأقسى على جيش هو المؤسس الحقيقي للكيان الصهيوني.
فرغم تدمير كل معالم الحياة والعمران، وتقتيل أكثر من ثلاثين ألفًا في الضفة والقطاع، وعشرات الآلاف من المخفيين والمدفونين تحت الأنقاض، وآلاف المعتقلين، وفرض الحصار حتى التمويت، إلا أن العجز عن إرغام الفلسطيني على مغادرة وطنه المدمر هو المعنى الحقيقي للهزيمة التي لا تقدر إسرائيل على تحملها؛ فهي لا تستطيع البقاء إلا كبديل لشعب فلسطين. لا تستطيع إسرائيل على التعايش؛ لأنها قائمة على نظام الفصل العنصري، والتطهير العرقي، وأكذوبة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض».
المبادرة الأخيرة المقدمة من أمريكا والقائمة على هدن مؤقتة هدفها تسويق وهم السلام، وتقديم الحَلَمَة الكاذبة (حل الدولتين). والأهم إنقاذ الكيان الصهيوني، وفرض التطبيع على السعودية، والضغط بالأنظمة التابعة، وبأقسى الإجراءات، بما فيها إلغاء دعم الأونروا، على المقاومة الفلسطينية للقبول بما هو أدنى.