مقالات

كيس النوم.. كيس البول

18/10/2024, 11:15:55

كان أهالي قريتنا،الذين سبقونا إلى المدينة (عدن)، لشدة خوفهم علينا نحن الأطفال الذين وصلنا للتو من القرية يحذروننا من ثلاثة أشياء، جميعها تبدأ بحرف السين:
سينما
سيكل
سيكريم

والويل لمن يذهب السينما أو يركب الدراجة الهوائية (السيكل)، أو يلعق الآيس كريم.

كانت السينما هي أكبر وأعظم خطيئة يمكن اقترافها، وإذا جاز لنا استخدام مصطلحات العُرف القبلي فقد كانت السينما هي"العيب الأسود"، وهي أم الخطايا، وأم الكبائر، ويكفي أن يشهد أحدهم بأنه شاهدك عند باب السينما حتى يفتضح أمرك، وينتشر خبرك، وتصبح  سمعتك في الحضيض :
كلمتك غير مسموعة
وشهادتك غير مقبولة
وصلاتك باطلة، والكل سوف يزدريك ويمقتك، ويشيح بوجهه عنك، ويلعنك في السر والعلن.

 وأول ما وصلت عدن، قال لي الحاج عبد الله -وهو يقرص أذني:
سينما!! لا
سيكل: لا
سيكريم: لا

ثم راح يحذرني من الذهاب للسينما، ومن ركوب السيكل، ومن تناول الآيسكريم، ووعدته صادقا بأني لن أقترف أي خطيئة من هذه الخطايا الثلاث.

وقتها لم أكن أعرف ما هو السيكريم، ولا ما هو السيكل، ولا ما هي السينما.

كان يكلمني وأنا محشور داخل كيس نومي في سقف بيته المطل على سقف الفرن، بحضور أولاده وأحفاده. وكان بي خوف من أن يكتشفوا  خطيئتي التي حملتها معي من القرية، التي هي أكبر وأعظم من الخطايا الثلاث التي يحذروني من اقترافها.

كانت أمي -خوفا عليّ من الفضيحة- قد وضعت ملابسي في كيس النوم، وأصرت رغم معارضتي لها أن آخذ معي كيس نومي إلى عدن، ونصحتني بالنوم داخل الكيس، حتى إذا اقترفتُ تلك "الخطيئة العظمى" خطيئة التبول اللا إرادي "أثناء النوم، أتبوَّل داخل كيس نومي، وليس فوق فراش أهل البيت.

كان التبول اللا إرادي أثناء النوم هو نقطة ضعفي.. لكن أن تتبول في بيوت الآخرين فذلك عيب كبير.

أتذكر مرة أني ذهبت إلى منطقة "عيريم" في" القبيطة" مرافقا لبنت أخي "لُوْلاَ" المريضة. وكان هناك إجماع بأن مرضها شيطاني، وأن هناك في عيريم بالقبيطة شخصا مشهورا بمعالجة هذا النوع من المرض ؛ هو السيّد هاشم، وطلبوا مني تجهيز الحمار، ومرافقتها في تلك الرحلة الطويلة، التي بدت لي كما لو أنها رحلة إلى آخر الدنيا، وإلى الطرف الآخر من العالم.

ولأن المنطقة بعيدة، ولا يمكننا أن نذهب ونعود في اليوم نفسه فقد كان علينا أن نبيت هناك.

أتذكر أني ليلتها، ولخوفي من أن أتبوّل رفضت أشرب شاهي، وعملت بنصيحة أمي التي كثيرا ما كانت تنصحني بعدم شرب أي شيء قبل النوم، بما في ذلك الماء.

لكن، الذي حدث هو أني حين استيقظت في الصباح واكتشف بأن فراشي أخضر مبتل، وأني  "نهلتُ جرّة"؛ وهو تعبير تستخدمه أمي، فقد كانت تبدأ يومها بتحسس فراشي، وتقول لي حين تجده مبتلا:
"اليوم  نهلت جرة".

يومها كنت شديد الخجل من نفسي، حتى لقد ساورني شعور بأن الكل في بيت السيّد هاشم يعرف بأني بِلْتُ فوق الفراش،  لكن أكثر ما آلمني هو أن بنت أخي "لُوْلَا" راحت بعد عودتنا إلى القرية تقول لأمي وأخواتي، ولكل من يسألها عن الرحلة، إني تبوّلت في بيت السيّد هاشم.

وكان أن انتشر خبر تبوّلي  انتشار النار في الهشيم، وسمع به كل أهل القرية، وجميع أترابي، وأما جدتي فعندما عرفت أن حفيدها تبوّل في بيت الرجل المقدّس ساورها شعور بالفزع.

ولشدة خوفها من أن يحدث لي مكروه، راحت تلقي باللوم على أمي؛ كونها أرسلتني إلى بيت السيّد، وهي تعرف بعاهتي. ولشدة ما كانت متألمة من هبالة أمي، قالت إنه ما دام قد أرسلتني إلى بيت السيّد كان عليها أن تبعث معي هدية له، وتطلب منه أن يشفيني من عاهة التبوُّل بدلا من أن ترسلني لأكْرَع بَوْلِي في بيته الطاهر.

وكان السيّد هاشم سيّدا عابرا للقرى، ومشهورا في قريتنا، وفي قرى ناحية القبيطة، بكراماته، وبقدرته على شفاء الأمراض التي لا شفاء لها.

كان اسمه محاطا بهالة من القداسة، حتى إن الناس من قريتنا، ومن جميع قرى الناحية، كانوا يقدّسونه، ويلوذون به، و يفزعون إليه،  ومنه ينتظرون الشفاء من أمراضهم، وينذرون له النذور.

وكان يكفي من المريض أو من قريبه أن ينذر له نذرا، ويتواصل معه روحيا، ويطلب منه أن يشفيه من مرضه، حتى يُشفيه عن بُعد، ومن دون أن يذهب إلى قريته.

وهذا ما فعلته جدتي بعد عودتي؛ بعثت له بهدية، وتواصلت معه روحيا، وطلبت منه أن يشفيني، ويمن عليّ بالشفاء.

وذات ليلة، استدعتني، وقالت لي إني قد شُفيت بفضل كرامة السيّد هاشم، وطلبت مني  ليلتها أن أنام عندها في المفرش لتثبت لي صحة كلامها.

وفي الصباح حين اكتشفت بأني تبوّلت، بدت محرجة مني، وكنت أنا محرجاً منها؛ كوني فعلتها في بيتها.

لكن جدتي راحت تبرر ما حدث، وتقول إن الحمَّار قاسم سيف لم يوصل الهدية، ولو أنه أوصلها لكنت شفيت من عاهة التبوُّل.

وقاسم هذا الذي ألقت جدتي اللوم عليه حمَّار عابر للقرى، ويقوم بدور ساعي البريد؛ ينقل الرسائل والأخبار من قرية إلى أخرى، وكانت جدتي قد أرسلت معه الهدية للسيّد هاشم، والمؤكد أنه كان قد أوصلها إليه، لكن جدتي يستحيل تعترف بهزيمتها أو بهزيمة السيّد هاشم وعجزه عن حبس البول في مثانتي، وهو المشهور بكراماته العابرة للقرى، وبقدرته على ربط ما هو أعظم من مثانة طفل.

أيامها كان خبر تبوّلي في بيت السيّد قد أضرّ بي، وكان يكفي أن أختلف مع واحد من أترابي أثناء اللعب حتى يُعيّرني بعاهتي، ويُعيد ذكر فضيحتي:
-"أنت بوّال.. بلت ببيت السيّد".

ومن حينها، كنت أرفض النوم في أي بيت غير بيتنا؛ خوفا من أن أتبول أثناء النوم، وبعد وصولي مدينة عدن كان خوفي من التبوُّل في الفراش قد أفسد فرحتي.

ولشدة خوفي من أن أتبول في بيت الحاج، رفضت شرب الشاي، وغيره من المشروبات الغازية، وفوق هذا رحت أقاوم النوم، لكني من تعب السفر نمت ليلتها في سقف البيت نوما عميقا.

وفي أول صباح لي في مدينة عدن، وقبل شروق الشمس، استيقظت من النوم لأجد كيس نومي مبتلا، ومغمورا ببولي، ومثل المجرم حين يتخلص من أي أثر أو دليل على جريمته رميت به من سقف البيت إلى سقف الفرن.

ولم يكن في علمي أن العمال ينامون في سقف الفرن، وكان أن وقع الكيس فوقهم، ويومها أخبروا الحاج عبدالله بأن أحدهم ألقى فوقهم كيس بول.

وكان الحاج يستغرب، ويقول لهم:
 "كيس بول!! من أين أجا الكيس؟!".
 
قالوا له: "من سقف بيتك".

لكن الحاج كان على يقين بأنه لا أحد في بيته، ولا حتى في المدينة عدن ينام في كيس نوم؛ ليس فقط لأن عدن مدينة شديدة الحرارة، وإنما لأن النوم في الأكياس كان دليل تخلف.

وعندما عاد إلى البيت، وسأل أولاده الذين ناموا معي في السطح، أخبروه بأنني نمت داخل كيس جئت
به من القرية، وصاح الحاج:
"جزع معه كيس من القرية من شان يبول داخله، ويرجم به فوق العمال، وهم رقود بسقف الفرم؟!!".

لكن الحاج لم  يتكلم معي بشأن كيس النوم، أو كيس البول، وإنما قال لي إن عليَّ أن أنهض من نومي باكرا، وأذهب أصلي صلاة الفجر في المسجد.

ولأول مرة في حياتي استيقظت فجرا، وذهبت للصلاة في مسجد سوق الحراج، وبعد الصلاة عدت إلى الفرن، وأعطاني الكَرَّاني "عانتين" اثنتين؛ أخذتهما وذهبت مباشرة إلى المقهى، طلبت واحد شاهي، وحبة خمير.

وعند خروجي من المقهى، عدت إلى البيت لأواصل نومي، وفي ظني أن "العانتين" مقابل استيقاظي فجرا، وذهابي لصلاة الفجر في المسجد، لكن الذي حدث بعد أن عدت من المقهى إلى البيت أنهم استدعوني إلى المخبز، وأعطوني سلة كبيرة، وطلبوا مني الذهاب مع أحد العمال -اسمه منصور- لجمع قوارير فاضية، ولم أكن أعرف لماذا علينا أن نجمع قوارير فاضية؟ وما الفائدة منها؟

وفي طريقنا لجمع القوارير، شاهدت مبنىً رائعاً في ناصية الشارع المؤدي إلى مبنى البريد، وأول ما أبصرته سألت العامل، وأنا أشير جهة المبنى، وقلت له:
"هي هذي السينما؟".

ضحك العامل منصور من هبالتي، وقال لي:
"هذا بنك مش هو سينما".

ولم أكن أعرف ما هو البنك،
ثم سألته عن السينما، وقلت له:
"أين هي السينما؟".
 
وكان أن نظر إليَّ نظرة تشي بالانزعاج من سؤالي، وقال لي: "السينما حرام.. لو يعرف الحاج أنك سألتنا عن السينما با يزعل".

وكان رده قد أخافني وجعلني أحجم عن طرح الأسئلة، وأمشي خلفه صامتا.

وبعد أن وصلنا إلى الساحة، لاحظت العامل منصور يفرح بالقوارير التي مازال فيها بقايا، وبعد أن يلتقط القارورة يرفعها إلى مستوى فمه، ويكرع ما تبقى فيها في بطنه قبل أن يضعها في سلته.

ولم أكن أعرف نوع ذلك المشروب المختلف ألوانه، الذي يكرعه في بطنه، ولا يهمني أن أعرف، وكل ما كان يهمني معرفته هو السينما، وأين هي؟! وكيف شكلها؟! وما هو الذي فيها؟ وكيف يمكنني دخولها؟!.

وفي طريق عودتنا رأيت العامل منصور مبتهجا ومنتشيا على عكس ما كان عليه أثناء ذهابنا؛ فقلت أسأله عن السينما، وهل دخلها؟

فقال لي إنه دخلها مرة قبل أن يشتغل عند الحاج عبد الله،
وسألته عنها، وقلت له: "كيف هي السينما؟!".

قال لي: "السينما جنة الله - يا عبد الكريم".
 
ثم راح يحذرني من دخولها، ويقول لي:
"لو الحاج وأهل قريتك عرفوا أنك دخلت السينما، والله ما يرحموك".

قلت له: "مُوْ درَّوْ الحاج أننا دخلت السينما!؟".

قال: "الحاج يدري بكل حاجة.. معه جواسيس. ولو هو ما دراش الكراني با يدري وبا يكلمه".

ولم أكن أعرف وقتها معنى جواسيس؛ لكني فهمت من  كلامه بأني لو ذهبت إلى السينما، وعرف الحاج، سوف يزعل، ويغضب، وربما يطردني من بيته، ويلقي بي في الشارع.

ولشدة خوفي من حديث السينما، لُذت بالصمت، ولم أعد أسأل العامل منصور، وكنت كل يوم أنهض فجرا، وأذهب إلى الصلاة في مسجد سوق الحراج، وبعد الصلاة أعود ويعطيني الكراني "عانتين"، وأمضي إلى المقهى في الناصية، وأطلب حبة خمير وواحد شاهي.

وبعد خروجي من المقهى، أعود إلى الفرن، وأحمل سلتي، وأذهب مع العامل منصور نجمع القوارير الفاضية، وبعد عودتنا نقوم بغسلها بالماء والصابون، ثم نعبئها بالماء، ونضعها في الثلاجة لتبرد  وهكذا كل يوم.

وبعد مرور سبعة أو عشرة أيام على وصولي عدن، خرجت العصر من البيت، وقلت أتمشى، وأشوف عدن، وخوفا من أضيع بقيت في سوق الطويل أمشي   فيه ذهابا وإيابا لعدة مرات، وكان الشارع مزدحما بالدكاكين والناس.

وبعد أن ذرعته عدة مرات وأشبعت فضولي، حدثتني نفسي بأن أسأل عن مكان السينما، وأين تقع، وكيف يمكن الذهاب إليها؟

ولأني لم أجرؤ أسأل الكبار، رحت أسأل الأطفال، كنت كلما أبصرت طفلا استوقفته، ورحت أسلم عليه، وأسأله عن السينما؟ وأغلب من سألتهم لم يكن قد سمعوا بها، والذين سمعوا بها لم يكونوا يعرفون مكانها، وفيهم من كان يتعجب من سؤالي، ويقول لي إن السينما للكبار.

وصادف أن سمعني أحدهم، وأنا أسأل عن السينما، فاقترب مني، وقال وهو يقرص أذني:
"أنت بلا تربية، ما فيش معك أهل يربوك، بدل ما تسأل عن المسجد تسأل عن السينما؟ وسأل ابن من أنا؟! وأين أقيم؟!
وطلب مني أن أدله على عنواني ليشكوني إلى أهلي.  

وعندها بكيت، وتجمع الناس، وكان بعضهم يعرفه، وعندما قال لهم إنه سمعني أسأل عن السينما، بدوا مندهشين ومستغربين، لكنهم حين عرفوا بأني جئت من القرية، ولم يمضِ على وصولي إلى عدن سوى عدة أيام، شفعوا لي عنده.

وعندئذ تركني أمضي في حال سبيلي، لكني مضيت أبعد مما يجب، فكان أن تُهتُٰ، وضِعتُ، وأضعت طريق العودة إلى البيت، واختلطت عليَّ الجهات، وتشابهت مداخل الشوارع والأسواق، وكان اسم الشارع الذي أسكن فيه هو: "سوق الاتحاد"، يقع بين سوق البُهرة وسوق الحراج، لكني كنت قد نسيت اسمه فضلا عن أنني كنت أخطئ في المدخل.

وبدلا من أدخل فيه دخلت سوق البهرة، ورحت أخبط فيه؛ بحثا عن فرن الحاج، ثم عدت  ثانية إلى سوق الطويل؛ وكان سوق الطويل شارعا مزدحما بالناس والدكاكين.

ولأن وقت المغرب كان مازال بعيدا، لم اكترث بضياعي، ولم أقلق لعدم معرفتي طريق العودة، وكنت على يقين بأني سوف أعثر على طريقي، حين يحين وقت عودتي.

 وفيما رحت أتلفت يميناً وشمالاً، أبصرت طفلا بعمري  يمر من جنبي راكباً فوق آلةٍ من حديد لها عجل، ولحظة رأيته فرحتُ، ورحتُ أجري خلفه،  وحتى لا يختفي ويغيب عن ناظري جريت بأقصى ما أستطيع؛ لألحق به، لكن آلته كانت أسرع مني، وأسرع من حماري، الذي أخذه السيل في "وادي الشوَّيْفَة".

وفي الأخير، وقد يئست من اللحاق به، توقف عند أحد الدكاكين، وعندئد جريت ناحيته، وقلت له، وأنا ألهث من التعب:
"أيش هو ذا؟".

قال لي -وهو مشمئز من مظهري القروي، ومن سؤالي الأهبل: "سيكل".

قلت: هاااااا، هو ذا السيكل؟!!
 
وشعرت في قرارة نفسي برغبة عارمة في ركوب هذه الدابة المصنوعة من الحديد، التي تتفوق على حماري في سرعتها، وبدافع الفضول رحت أحملق في سيكل الولد العدني، وأدور حوله، وأتمسح به.

ثم مددت يدي ورحت ألمسه وأتحسسه بالطريقة نفسها التي كنت أتحسس بها حماري؛ لكن الولد العدني حين أبصرني، وقد تماديت، راح يهش يدي وكأنها ذبابة، ويقول كلاما بالعدني لم أفهم منه سوى كلمة واحدة "جبلي"، و لم أكن أعرف ماذا يقصد بقوله لي إني جبلي، ولم يخطر في بالي أنها شتيمة، لكني شعرت من نظراته ومن تعابير وجهه بأنه قد ضاق بي وبوجودي قريبا منه.

وكان  في نيتي، وأنا أركض خلفه أن أسأله عن سيكله، وهل اشتراه أم  اكتراه، لكن السؤال تجمد في طرف لساني، بعد أن رأيته يهشُّ يدي، ويبعدها من فوق دراجته، كما لو أنها ذبابة.

ومع أن شعورا بالغضب كان يدفعني للاشتباك معه؛ بسبب الطريقة التي عاملني بها، إلا أن صوتاً في داخلي كان يمنعني، ويقول لي: "لا، انتبه هذا عدني".

وشعرت لحظتها بأن هناك مسافة بيني وبين الولد العدني.. بين القرية التي جئت منها.. وبين المدينة التي ينتمي إليها.. بين حماري وبين دراجته.. بين مظهري القروي البائس وبين مظهره المدني المترف.. بين حضوري البليد وبين حضوره الذكي والمدهش.

لكني بعد أن تركته وعدت إلى سوق الطويل، تنامى لديَّ هذا الشعور بالمسافة، وبقدر ما كنت أحاول الاقتراب من الناس كانوا يبعدون، وكلما وقفت للسلام وللكلام يمرون من جنبي مرور اللئام، فلا يردون السلام مثل أهل قريتنا ولا يسلِّمون، ثم وقد غربت الشمس وحان وقت عودتي؛ داهمني شعور بالخوف، وحين كنت أسألهم عن فرن الحاج    لا يردون على أسئلتي، ولا يعيرونني أي اهتمام، وإنما كانوا يهشونني من طريقهم، وبالطريقة نفسها التي هش بها الولد العدني يدي عندما لمست دراجته.

وعلى الرغم من أن شمس الكهرباء أنارت الشارع والحوانيت، ووجوه المارة بعد غروب الشمس، إلا أني لحظتها رأيت الشارع مظلما، والحوانيت مظلمة، ووجوه المارة والمدينة كلها مظلمة، والشيء الوحيد الذي رأيته واضحا على ضوء الكهرباء هو ضياعي.

وفي تلك اللحظة، تذكرت قريتي، وندمت على مغادرتها، واجتاحتني رغبة عارمة في العودة إليها، ورحت وأنا أواصل البحث عن الشارع الذي أضعته ألوم جدتي، التي قذفت بي إلى المدينة (عدن) بالطريقة نفسها التي قذفت بي للبركة؛ كي أتعلم السباحة.

وتذكرت كلامها وهي تودعني، وقولها لي إن جدي علي إسماعيل سوف يكون في استقبالي عند وصولي عدن، وسيكون معه إخوتي وأخوالي، وإني لن أضيع.

لكني بعد وصولي عدن لم أجد أحدا في استقبالي، لا جدي ولا إخوتي ولا أخوالي، وعندما تذكرتُ أن لا أحد من هؤلاء استقبلني أو زارني أو سأل عني تعاظم شعوري بالضياع، وانفجرت أبكي.

وحين تحلق الناس حولي، وراحوا يسألونني عن سبب بكائي أخبرتهم بأني أضعت طريقي إلى البيت؛ وحين عرفوا بأني لا أعرف اسم الشارع الذي أقيم فيه طلبوا مني أن أذكر لهم اسم الشخص الذي أقيم عنده، فذكرت لهم اسم الحاج عبد الله.

وقلت لهم إنه ابن عمي، وعندما تبين أن لا أحد يعرفه، ذكرت لهم اسم جدي علي إسماعيل، وكنت على يقين بأن شهرة جدي في عدن توازي شهرة جدتي في القرية، وأن الكل يعرفه، ويعرف دكانه.

لكن، لا أحد من كل أولئك الذين تحلقوا حولي كان يعرف جدي، أو يعرف دكانه، أو حتى سمع به، ثم سمعت أحدهم يقول لي:
"أنا أعرف دكان جدك علي إسماعيل، تعال معي".

وعندها -لشدة فرحي- رحت أكفكف دمعي، وأمضي خلف الرجل، الذي قال لي إنه يعرف  دكان جدي.
 
وفي الطريق سألني: كم معك فلوس؟
قلت له: خمسة شلن.
قال: هاتها أركبك تاكسي لا عند جدك.
وكانت تلك الشلنات الخمسة قد أعطتني إياها جدتي وهي تودعني، ومعها أعطتني إيجار السيارة من الراهدة إلى عدن، وكانت تلك الشلنات الخمسة قد خبأتها بنية أن أدخل بها السينما.

وبعد أن أعطيته إياها، طلب مني أن انتظره في الرصيف ريثما يحضر التاكسي، ووقفت انتظره في ناصية الشارع وقلبي مغمور بالفرح؛ لسببين:
أحدهما: أن الرجل يعرف جدي علي إسماعيل.
والثاني: هو أنني سأركب التاكسي، وكانت كلمة تاكسي -التي أسمعها لأول مرة في حياتي- لها وقع جميل في أذني، ولم أكن أعرف حينها أن التاكسي سيارة من تلك السيارات التي كنت أراها في الشوارع.

وبعد أن تبين بأن الرجل نصب عليّ، تفاقم شعوري بالضياع، وفي تلك اللحظة التي فقدت فيها الأمل، وفقدت فلوسي، لمحت شخصا طويلا يمرا أمامي في سوق الطويل، وبمجرد أن لمحت صورته عرفت أنه شُبَاطَة، ومن شدة فرحي لحقت به، وسلمت عليه:
"السلام عليكم يا شباطة".

لكن شُبَاطَة بدلا من أن يرد السلام؛ راح يحملق فيَّ  بعينين دهِشَتين، وكأنه لم يعرفني.

قلت له: مُوْ ما عرفتناش!!

قال: مِنُو أنت؟
قلت له: أنا بن ثابت حميد.
قال: أنت محمد!!
قلت: لا، أنا عبد الكريم.

قال لي، وقد تذكرني:
"هاااا، أنت عبد الكريم "المُمْخِطْ"!!.

وشعرت لحظتها كما لو أنه صفعني بجزمة.

مقالات

عن القضية الفلسطينية مرّة أخرى

أعتقد أنه لا يصح الحُكم على القضية الفلسطينية بالسياسة وحدها، فهي أكبر من ذلك بحكم طبيعتها، وينبغي أن نبني الأحكام في شؤونها بالمعرفة والأخلاق والإنسانية أيضاً، ويجب علينا -نحن اليمنيين والعرب- (الشعوب التي لا يمكن لها إلا أن تتورط بشكل أو بآخر في القضايا الكبرى لهذه الأمة)، أن نضع الحدود بينها وبين الاعتبارات السياسية الأخرى.

مقالات

لا تتركوه من صالح دعواتكم

شخصية الرئيس هادي بحاجة إلى دراسات معمقة. دراسة سيكلوجية لمعرفة الأسباب النفسية التي دفعته لتحطيم الدولة، وتسليمها إلى قبضة مليشيات متنافرة في الشمال والجنوب، متواطئا مع دول إقليمية ودولية.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.