مقالات
مدرسة الاجتهاد وجهودها في كسر احتكار المعرفة (3)
كان الأمر المتاح لدى دعاة المذهب الزيدي، لتحقيق مشروعهم السياسي في السلطة في ظل الظروف والأوضاع التي تواجدوا فيها، والبيئة الاجتماعية المحيطة بهم، هو احتكار النص الديني، وذلك لكي يكون الأساس الذي تُبنى عليه شرعية الحُكم.
وقد تم -من خلال استخدام النصوص الدينية، والتكلّف في تأويلها- منح النسب والسلالة هالة من القداسة، وأحقية في السلطة.
كما أعطت السير للأئمة مكانة كبيرة باعتبارهم ورثة النبوة، والإمامة، وما عدا ذلك باطل، فتم تدشين سياسة تقديس حقيقي للنّسب، يستمد نفوذه وقوته، وحضوره من تأويل النصوص.
لكن تلك الدعاوى، التي حاول دعاة النظرية السياسية للزيدية تأكيدها وفرضها على المجتمع، حول الشرف، والنسب، والفضل، والمعرفة، وجدت رفضا من داخل المذهب ذاته على أيدي علماء المطرفية، تلك الجماعة التي انشقت عن المذهب، وافترقت عن الزيدية المخترعة، وتميّزت برؤية مغايرة في عدد من القضايا والتفسيرات.
وكان من أهمها اختلافها عن بقية الزيدية في مسألة الاصطفاء، والتفاضل بالأنساب، واكتساب المعرفة، بحيث يتلخّص رأيهم في موضوع الفضل، والشرف، بأن كلاهما لا يحصلان ابتداء، وإنما يتم ذلك اكتسابا. فقالوا إن الإنسان يشرَّف بعمله، وليس بنسبه.
فصاحب "البرهان الرائق"، وهو المؤلَّف الوحيد الذي تبقّى من تراث المُطَرّفِيّة، يخصص بابا كاملا بعنوان "باب القول في الفضل".
وبحسب الدكتور علي محمد زيد، فإن المُطَرّفِيّة -كما يؤكد كتاب "البرهان الرائق"- تقول: "إن الناس لا يتفاضلون إلا بالأعمال الصالحة، مما يعني إبطال التفاضل بالانتساب إلى النبي (ص) أو إلى فئة كالقضاة أو إلى قبيلة كزعماء القبائل وأفرادها" [علي محمد زيد، "تيارات معتزلة اليمن في القرن السادس الهجري"، ص89]
ويؤكد سليمان المحلي -مؤلف "البرهان الرائق"- كما ينقل عنه الدكتور علي زيد: "وكلٌ يتفاضلون بالأعمال فيما بينهم على حسب اجتهادهم في طاعة خالقهم. ولا يكون هذا الفضل إلا بصالح الأعمال"، وزيادة في الوضوح يقول: "وهذا هو الذي نذهب إليه، خلافاً لما قاله قوم من أن فضل الشرف والرفعة قد يحصل بالخلقة (الوراثة) والأنساب، من غير عمل منهم ولا اكتساب" ["المصدر نفسه"، ص88].
ومن ثم يسرد مؤلف "البرهان الرائق" الشواهد لتأكيد ذلك من الآيات القرآنية، والسنة النبوية، والإجماع، وحجج العقل.
سعت المُطَرّفِيّة عبر شبكات الهجر العلمية، التي أقامتها، لنشر العلم بين عامة المجتمع، وفئاته الفقيرة، وكان نتيجة ذلك أن كسرت احتكار المعرفة، وفتحت التعليم أمام الجميع، "وغيرت بهذا المفهوم اتجاه التعليم من تعليم مقصور على أسر محدودة، تعتمد في نفوذها وفي توارث المعرفة على النسب، إلى تعليم مفتوح لكل راغب يستطيع أن يكابد مشقات التفرّغ لاكتساب المعارف" ["المصدر السابق"، ص80، 81].
وبذلك حرمت القائلين بحصر الإمامة في البطنين من تميّزهم، وتفوّقهم العلمي، حيث تعد المعرفة من أهم الأسس التي تشرعن قيام الإمامة، واختصاصها بآل البيت، والحصول على المكانة الاجتماعية المتميّزة داخل المجتمع، بل إنهم تفوّقوا على غيرهم، وقد أو ضح ذلك المؤرّخ أحمد بن عبدالله الوزير في تاريخ بني الوزير، بقوله: "وكانت المطرفية لسِعة علومهم، وسلامة تدينهم، وصبرهم على العبادة والقيام والصيام، يحتقرون معارف غيرهم، ويقع من بعضهم إعجاز بالتبحر في العلوم وللعلم طغيان كطغيان المال"، [أحمد محمد الشامي "تاريخ اليمن الفكري"، ص147 جزء 3]. وكان دعاة الإمامة، الذين دعوا لأنفسهم خلال توهج الفكر المطرف، يشعرون بغصة من مواقف علماء المُطَرّفِيّة، فهذا الإمام المتوكل أحمد بن سليمان يقول في رسالة له: "ومن عاداتهم -أي المطرفية- استحقار من عاصرهم من أهل البيت حتى جرى فيهم المثل: الشريف في وقش كالمشعل في سناع" ["المصدر نفسه"، ص148].
بل إن الهجَر، التي أنشأوها، كانت تقوم مقام الإمام الشاهر سيفه، وقد أكد ذلك مؤرخ المطرفية خلال تناوله لهجرة وقش، واصفا إياها بقوله: "هجرة تقام فيها الصلاة، وتؤدى فيها الفرائض، ويعبد الله فلا يعصى، ويتعلم العلم، ويحيا فيها الدين حتى قامت بالحجة على أهل العصر مقام الإمام الداعي إلى ربه المشهر سيفه، من تاب من أهل البلاد لجأ إليها، وفر بدينه إلى أهلها. ومن جهل شيئاً أتاها للبحث والسؤال عنه" [مسلم اللحجي "الجزء الرابع من كتاب أخبار الزيدية المطرفية"، ص173، تحقيق د. مقبل التام]. وبهذا كانت هجر المطرفية، وعلماؤها من خلال الدور الذي يؤدونه قد سلبوا الإمامة ما تدعّي بأنها جاءت لإقامته، واستطاع القلم أن يعطل السيف، لكن إلى حين.
كان دعاة الإمامة يستغلون الخطاب الديني لتقديم مبررات الخروج، والثورة، وحمل السيف، في سبيل الحصول على السلطة. وقد تمكن علماء المُطَرّفِيّة من خلال تحصيلهم العلمي الرفيع من مقارعتهم، وإبطال أي تميّز فكري، أو تفوق علمي لكل داعية إلى الإمامة، حتى لقد قال المؤرخ يحيى بن الحسين في كتاب "المستطاب" عن أحد علمائهم: "لو صلحت الإمامة في العامة (غير نسل فاطمة) لصلحت فيه" [نقلا عن علي محمد زيد، ص79]، لذلك حين وجد دعاة السلطة، والطامعون في الحكم أن موقعهم الاجتماعي بات مهددا من قِبل المطرفية، التي أوجدت سلطة معرفية بديلة كسرت احتكار آل البيت في فهم وتفسير النص الديني، سارعوا في البداية إلى العمل على استدعاء دعاة، وأئمة من طبرستان كالإمام أبي الفتح الديلمي، وقد قتل على يد الملك علي بن محمد الصليحي في ذمار سنة 444 هجرية. وحين بدأت النهضة التالية للإمامة، وكانت المطرفية قد توسّعت عبر شبكات الهجَر العلمية، التي توزعت في عدد من مناطق اليمن، وجدت الزيدية المخترعة نفسها في مأزق بسبب عجزها "عن التصدي لعلماء المطرفية، فقاموا بالاستعانة ببعض علماء مذهبهم من خارج اليمن" [د. عبدالغني محمود عبدالعاطي، "الصراع الفكري بين الزيدية والمطرفية"، ص33]. حيث بادر الإمام أحمد بن سليمان، الذي دعا لنفسه بالإمامة عام 533 هجرية، بإرسال القاضي جعفر بن عبدالسلام الأبناوي (ت 574هـ) إلى العراق، للبحث والحصول على كتب المعتزلة، وذلك من أجل الرد على المطرفية، كما تم استقدام القاضي زيد البيهقي من العراق بهدف مناظرتهم.
إن كسر المطرفية احتكار المعرفة، وإشاعتها للتعليم بين القبائل، والمزارعين، ونشره في أوساط العامة من البسطاء، والفقراء، أثار حفيظة، وخوف الإمامة التي تستند على دعاوى العلم، وتوارث المعرفة، في تأويل النصوص الدينية لخدمة اجندتها العشائرية، وأفزعها، وجعلها تسعى إلى القضاء على المطرفية بالسيف، بعد أن عجزت عن هزيمتها في ميدان الفكر.
إن الخوف من هيمنة الرؤى التنويرية، التي بثتها المُطَرّفِيّة في أوساط الفلاحين، دفع بالإمام عبدالله بن حمزة (توفي 614 هجري) للنيل منها بطريقة لم يعرف لها تاريخ اليمن مثيلا.
لقد حررت المطرفية المعرفة ووسعتها، لكن القلم الذي كان بيدها لم يتمكّن من كسر السيف الذي اعتمد عليه طلاب السلطة.