مقالات

مدرسة الإحياء واليقظة الوطنية (3-3)

30/08/2021, 16:44:13
بقلم : محمد صلاح
المصدر : غرفة الأخبار

كان وراء بروز عدد من العلماء المصلحين، الذين ظهروا في اليمن بعد القرن السابع عشر الميلادي، عدد من الأسباب -وقد أوضحنا بعضها في المقالين السابقين- منها توسّع الدولة القاسمية، وسيطرتها على كامل الرقعة الجغرافية للبلد، وقد تحقق لها ذلك بخروج العثمانيين من اليمن عام 1635م، الأمر الذي كان يحتّم على الإمامة أن تبدأ بالتحول من طور الدّعوة والثورة إلى طور الدولة، وأن توسّع من تحالفاتها، وتغيّر من طريقة أدائها، غير أن مبادئ المذهب الزيدي، الذي أعطى لكل فاطمي أحقية الخروج شاهراً سيفه، والدعوة لنفسه بأحقيته في الإمامة، قد حال دون ذلك التحوّل، وجعل كل إمام جالس على كرسي السلطة يعطي جلّ اهتمامه وانتباهه لمواجهة الخصوم والخارجين عليه من قرابته، ويبحث عن مصادر لتمويلات الحروب ضد الخارجين عن سلطته.

وفي ظل وضع كهذا، كان الاستقرار أمراً شبه معدوم، وكان الرعايا هم الذين يتحمّلون عبء وتكاليف تلك الحروب، الأمر الذي جعل عدداً من مناطق البلاد تخرج عن سلطة الدولة القاسمية، بسبب المظالم، وتحميل الفلاحين تمويل الصراعات، فظهر عدد من العلماء الذين وقفوا في وجه السلطة الإمامية، رافضين الانتهاكات التي كانت تقوم بها، من مصادرات لأموال الناس، فكان موقف علماء مدرسة الاجتهاد، أمثال العلامة الجلال في رسالته "براءة للذمة"، الموجّهة للإمام المتوكل على الله إسماعيل، صرخة البداية، ثم توالت المواقف المنددة والرافضة من قِبل العلامة ابن الأمير لحُكام عصره، ثم مجدد العصر شيخ الإسلام الشوكاني.

بعد أن امتدت دولة الإمامة وسيطرت على كل الرقعة اليمنية، وغدت تشمل سلطتها كافة الجغرافيا، ظلت في أعماقها أسيرة لمبادئ المذهب الثورية، ومتشككة من قدرتها، وإمكاناتها في البقاء والاستمرار، وذلك أنها ظلت تحرص على تقديم الدّعوة على الدولة، وبسبب مبادئ المذهب، التي لم تعمل على تقنين أحكام تضمن نقل السلطة، بل تركت الأمر متاحاً للغلبة بالسيف، حتى وقد غدا الحكم محصوراً في آل القاسم، وبين الأُسر التي ترجع إليه، وجد عدد من أئمة البيت القاسمي أنه لن يكون بوسعهم حُكم اليمن بالاستناد على أيديولوجية المذهب، خصوصا وأن  مناطق قد خرجت تباعاً على سلطة الأئمة، لذلك كانت الضرورة تحتّم عليهم البحث عن أطروحات تساعد، أو تواكب، وتسند قيام وبقاء الدولة ممتدة على أوسع رقعة جغرافية، وتمنحها غطاءً شرعياً خارج حدود تواجد اتباع المذهب، وهي المناطق الخصبة التي تستطيع تغطية نفقات قِيام الدولة وبقائها، إذ أن مناطق اليمن الأعلى وإمكاناته من الناحية الاقتصادية لا تستطيع أن تعيل قِيام دولة، إضافة إلى أن الاستناد على قاعدة مذهبية خالصة كأيديولوجيا حاكمة للسلطة، والهيمنة خارج حدود مناطق تواجد المذهب، كان أمراً عسيراً وصعباً، لا سيما بعد أن تجاوزت دولة آل القاسم مرحلة الفتوّة.

خلال هذه الفترة، كان قد برز علماء في اليمن رفضوا التمذهب، وخرجوا عن قواعد الزيدية الهادوية، التي تعدُّ الأساس الأيديولوجي لسلطة الأئمة، فظهر علماء داخل مؤسسة الإمامة تبنّوا مقالات السُّنة ورجال الحديث، وهم رجال تخلّوا عن المقالات الموروثة عن المذهب الزيدي الهادوي، الذي قامت عليه الإمامة في اليمن، وفضلوا بدلاً عن ذلك اكتساب هُوية غير مذهبية.

وقد رعت الدّولة علماء الحديث الذين بدأوا -في المقابل- إصلاح المجتمع اليمني وفقاً لمقالاتهم الدّينية" [برنارد هيكل - الإصلاح الدّيني في الإسلام تراث محمد بن علي الشوكاني- ص19- 20، ترجمة علي محمد زيد]، كانت الفوضى الإدارية، ومصادرة أموال الرّعية، أهم الأسباب التي تدفع سكان المناطق للتمرّد، والخروج على السلطة، وكان فقهاء السلطان، من المتمذهبين، والمتعصبين، يقدّمون الفتاوى التي تُبيح فرض الضرائب الباهظة، ومصادرة أموال الرّعايا في المناطق ذات المذهب المختلف، فكتب الإمام الشوكاني -قبل اتصاله بالحكم- رسالته المعنونة ب"الدواء العاجل في دفع العدو الصائل"، وقدّمها للإمام المنصور، ومن أسباب تأليفه تلك الرسالة تفكيره فيما أدى إليه الحال في اليمن من انتشار الفوضى وتعطّل أسباب المعيشة بسبب الفوضى الإدارية، فاستدعاه بعدها الإمام المنصور، وكلّفه بصياغة مرسوم للإصلاح السياسي والاجتماعي. 

لم يتوقّف تأثير الشوكاني على اليمن، بل امتد إلى مصر، وبلاد الشام، وغيرها، فروّاد النهضة العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، أمثال: جمال الدّين الأفغاني، والإمام محمد عبده، والإمام محمد رشيد رضا وغيرهم، كانوا -بحسب المفكر المصري أحمد أمين- قد تأثروا بفكر الإمام الشوكاني.

و"هل ترانا نبعد إن زعمنا أن دعوة الشوكاني للاجتهاد وتيسيره لشروطه وتسهيله لأسبابه إنما تندرج في إطار مشروع نهضوي شامل يجعل لفقيه صنعاء الأثر الكبير في مجال إصلاح الفكر الدّيني، ويجعله الرائد الأكبر للنهضة الدّينية التي حمل لواءها جمال الدّين الأفغاني وجماعته من بعده"، [محمد بن الطيب - مفهوم الاجتهاد عند الشوكاني- ص 213، مجلة حوليات الجامعة التونسية، عدد 41، يناير 1997]، لقد قدر لاجتهادات ومؤلفات المدرسة اليمنية أن تنتشر في العالَمين العربي والإسلامي، وأن يتلقفها زعماء الإصلاح عند مطلع القرن العشرين، ومع تبلور أفكار النهضة، وكان هدف دعاة الاجتهاد اليمني هو تحريك الركود والجمود الحاصل في البلاد الإسلامية.

فالإمام الشوكاني كان يدرك ما يجري في اليمن، وبقية بلاد الإسلام، من انهيار وتفكك وتهتك، وشاهداً على ذلك الضعف الذي جعل من فرنسا تنقضُّ على قلب العالم الإسلامي، وأمام ذلك كان عليه أن ينطلق في مشروعه التنويري والتجديدي ليفتح المجال للاجتهاد، لإخراج المجتمع من أسر التقليد والجمود "استجابةً منه لواجب الوقت ومهام المرحلة التاريخية، وشعوراً مرهفاً بضرورة الإصلاح الشامل في واقع الانحطاط والجمود، وفي هذا الإطار نفهم حملته العنيفة على التقليد والمقلّدين في سائر مؤلفاته"، [محمد بن الطيب -مصدر سابق- ص214]. 

كما كان للكتابات الفكرية للمجتهدين اليمنيين العامل الأهم في إذكاء الروح الوطنية، في اليمن منذ ثلاثينات القرن العشرين، حيث "رأى فيها الأحرار الوطنيون منهلاً لثقافتهم، فانكبوا عليها ينهلون من علومها، مما كان لها الأثر الكبير في تشكيل ثقافتهم الوطنية، حيث كان لانتشارها، وما تحتويه من أفكار، الدور الأكبر في تزايد أعداد المناضلين الأحرار، وبخاصة من الذين تخرجوا من دار العلوم والمدرسة الشمسية بذمار"، [عبدالله البردوني -الثقافة والثورة- ص114]. يعد روّاد التنوير في اليمن شمالا وجنوبا، خلال النصف الأول من القرن العشرين، في غالبيتهم -إن لم يكن جميعهم- من أتباع مدرسة الاجتهاد اليمنية، وقد أسهمت طباعة كُتبهم -في النصف الأول من القرن العشرين- في انتشار أفكارها وسهولة تداولها في أوساط القُراء. و"كان المبدأ العام لفكر أعلام الإصلاح الدّيني، كالشوكاني وزملائه، أن يحل التقارب الفكري والعقائدي محل التناحر والخلافات المغطاة بقشرة المذهبية السطحية"، [د. عبدالعزيز المقالح - قراءة في فكر الزيدية والمعتزلة- ص73].

وقد ظهرت ملامح هذا المشروع، وتلك المبادئ بصورة كبيرة، مع مجلة الحكمة اليمانية، التي صدرت في صنعاء أواخر عام 1938، وصدر منها 28 عدداً، لكن سرعان ما بادر الإمام يحيى بإيقافها، مطلع عام 1941، خشية تأثير مواضيعها في المجتمع.

وكان رائد التيار المعبِّر عن تلك الفكرة الهادفة إلى إزالة الخلافات المذهبية هو الأديب اليمني أحمد بن عبدالوهاب الوريث، رئيس تحرير المجلة، الذي اخترمته المنية وهو في أوج عطائه العلمي، ولم يتجاوز الثلاثينات، حيث كان يسعى في كتاباته لصياغة وحدة دينية تتجاوز المذاهب، وذلك لتسهل عملية التغيير في اليمن، إذ كان يرى أن التغيير -قبل صياغة هذه الوحدة- سوف يقود إلى صراعات لا تنتهي، وأن الإمامة سوف تستغل الخلافات المذهبية لتأجيج الصراع، من أجل أن تعود إلى السلطة.

وإذا كان مجتهدو اليمن سعوا لمحاربة التعصب والتمذهب، فقد حذا الوريث حذوهم في ذلك، حيث سعى في مشروعه التنويري، من أجل التغيير، للعمل على نبذ التفرقة المذهبية، ومحاربة العصبيات، وإزالة رواسب الاختلاف بين اتباع العقائد، وذلك أن "توحيد العقائد أخصب لتقبل الدعوة حتى لا ينهج كل فريق نهجاً مغايراً فيتحول الإجماع الثوري إلى تناحر طائفي"، [عبدالله البردوني - قضايا يمنية]، وهو المنهج الذي سار عليه من قبل علماء اليمن المجتهدون.

ويواصل الوريث نقده للجمود الدّيني فيقول: "حظروا على الناس مخالفة ما ورثوه من أسلافهم، وما تلقوه عن آبائهم من العبادات والفنون والعادات والهيئات، ولو كانت لا يوافق عليها العقل ولا يرضاها الشرع، فصار عندهم كل شيء يألفونه مقدساً ولو كان مضراً (والمضر كثير)، ونفورهم من كل جديد نافع بدعوى أنه بدعة، وكل بدعة ضلالة"، [مجلة الحكمة اليمانية - عدد 8 - السنة الأولى- المجلد الأول، جمادى الآخر 1358]، وهو الصوت ذاته الذي كان يطلقه المجدد وداعية الاجتهاد شيخ الإسلام الشوكاني.

وقد كان لأفكار الوريث الداعية إلى نبذ الجمود والدعوة إلى الاجتهاد والتجديد "أبلغ الأثر في صفوف الأحرار، بل إنها صارت مرشداً هاماً للحركة السياسية التي قادت عملية التغيير في اليمن"، [د. عبدالملك المقرمي - التاريخ الاجتماعي للثورة اليمنية- ص271]. 

وقد استأنف الرائد والمناضل اليساري الراحل عمر الجاوي مشروع مدرسة الحكمة، التي أسسها الوريث عام 1938، وقام بإصدار مجلة تحمل العنوان نفسه، وكانت لسان حال اتحاد الأدباء والمفكرين اليمنيين، أول منظمة يمنية وحدوية بعد قيام الثورة، وخلال التشطير، وقد صدر أول عدد منها بتأريخ 15 أبريل 1972. يقول الاستاذ عبدالباري طاهر عن الجاوي، بعد عودته من موسكو عام 1966: إنه "كان من أكثر الشباب نشاطا وفاعلية وتأثيرا، كان يوزِّعُ وقت عمله في الوكالة (وكالة سبأ للأنباء)، أو في الجامع الكبير للاطلاع، وقراءة مجلة (الحكمة) التي كان مهتمًّا بها"، الأمر الذي يؤكد على تأثره الكبير بتيار رواد التنوير الذين كانوا يشكلون امتدادا لمدرسة الاجتهاد اليمنية.

ويجب التأكيد أن التسنّن في اليمن لم يكن مرتبطا بالانتماء إلى أي من المذاهب السنّية المعروفة، أو تقليدا لأحد أئمة المذاهب الأربعة، بل التسنن هو التحرر من أسر التقليد، لأي مذهب، والاجتهاد، بالعودة إلى الكتاب والسُّنة الصحيحة، بعيدا عن الحمولات التي علقت بها من مقولات وأحكام، وكان التسنن -قبل ثورة سبتمبر في عهد الإمامة- يشير إلى التغيير والثورة، يقول الدكتور المقالح، الذي كان يدرس في مطلع الخمسينات في حجة، وكان أساتذتهم في المدرسة من أحرار ورجال ثورة 48، الذين ألقى بهم الإمام أحمد في غيابات السجن: "وكان أستاذنا الشيخ عالماً جليلاً وصل في علمه إلى درجة 'التسنن'؛ وكان التسنن يومئذ إشارة النضج وعلامة الاجتهاد. وعندما كان يردد كلمة 'مذهب'، وهي ترد في ثنايا الكتاب أكثر من مرّة في الصفحة الواحدة، كان يطلق الكلمة بصوت عال ثم يتلفت يميناً وشمالاً ثم يقول بصوت خفيض: "مذهبهم"، يعني مذهب الزيدية. وقد شجعنا هذا التصرف على الثورة منذ وقت مبكر على الزيدية، ودفعنا إلى تقليد الكبار في التسنن بالرغم من استنكارهم ونصائحهم الغالية بهجر التقليد، لأن التشبه بهم تقليد وليس ثورة"، [المصدر السابق- ص6].

وفي منتصف القرن العشرين قام رواد التغيير في اليمن من ورثة مدرسة الاجتهاد اليمني، التي تلاقحت ثقافتهم مع أفكار وثقافة رواد النهضة العربية، وثقافة عصر الأنوارفي أوروبا للقيام بمحاولة أول تغيير في البلد، استهدف ضرب الأصول الدينية للدولة في الوعي الاجتماعي، وقد ساعدهم على ذلك ما قدمته مدرسة الاجتهاد اليمني من خلخلة أسس الإمامة الدينية، خلال قرنين من الزمان، حيث كان قد "رفض علماء الحديث دور المرشد الذي تمنحه الزيدية للأئمة من آل البيت، باعتبارهم قادة مفترضين للأمة الإسلامية. ويرون أن المرجع الثقة علماء الحديث، في حين يجد الزيدية مرجعهم لدى أئمتهم. [برنارد هيكل -الإصلاح الديني في الإسلام - ص400، 401 - ترجمة الدكتور علي محمد زيد]. 

وإن لم يكتب لمشروع ثورة الدستور عام 1948 النجاح، فإنها قد مهدت لقيام ثورة سبتمبر وإعلان قيام النظام الجمهوري، وهو الغاية الأخيرة لمشروع التجديد الذي تواصل طوال قرنين، الذي ابتدأ بعملية إصلاح لمنظومة الفكر، وانتهى بإصلاح، وتغيير المنظومة السياسية لليمن.

مقالات

أبو الروتي ( 14 )

كان المعهد العلمي الإسلامي يتبع الشيخ محمد سالم البيحاني -خطيب وإمام مسجد العسقلاني في كريتر- وكان مدير المعهد هو الأردني ناظم البيطار، الرجل الذي كان مجرد ظهوره يثير فينا الرعب.

مقالات

ما العمل؟

عندما قرأ مقالي «ماذا ننتظر كيمنيين؟»، عَقَّبَ الأستاذ المفكر الإسلامي زيد بن علي الوزير بسؤال: «ما الحل؟»، و«ما المخرج؟»؛ وهو «سؤال العارف». وقد وردَ في الأثر: "ما المسئول بِأعلمَ مِنْ السائل".

مقالات

"أيوب طارش".. اسم من ذهب

ما أكثر ما تعرَّض أيوب طارش لعداوات ساذجة من بعض المحسوبين -بهتانا- على رجال الدين، وخطباء المنابر المنفلتة، ليس آخرهم عبد الله العديني، الذي أفسد دينه ودنياه وآخرته بإثارة قضايا هامشية لا تهم أحدا سواه

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.