مقالات
مصير المكتبات الخاصة!
إذا وجَّهتَ سؤالاً لأي مثقف يمني أو عربي حول بداية تكوينه الثقافي لوجدت أنَّ الكثيرين جداً يتشابهون في أن الأرصفة والأكشاك المتواضعة كانت بداية تكوينهم وحياتهم الثقافية المبكرة، وأبجديات التثقف والقراءة ومتابعة ما يصدر من الدوريات والصحف والمجلات- ثم تأتي بعد ذلك الكتب بأنواعها وتخصصاتها، والعناوين والمراجع ودواوين الشعراء والروايات الصادرة من الشرق أو الغرب، أو أمريكا اللاتينية أو أوروبا أو الوطن العربي.
وتبدأ هذه المكتبات الخاصة بالتراكم من حيث النوع والكيف بحسب ثقافة صاحبها وتخصصه، ونهمه القرائي والمعرفي، وسعة تخصصه يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، وسنة بعد سنة، ليجد الواحد نفسه وقد امتلك العالم من أطرافه، والثقافة الجميلة والعقل المتفتح، والتفكير الخلاَّق والمبدع.
ولاشك أن لثورة ٢٦ سبتمبر أكبر الأثر في التنوير والحداثة الثقافية، التي امتدت في اليمن وبين اليمنيين وخلقت جيلاً استثنائياً لن يتكرر في المدى المنظور؛ لأنها كانت ومازالت وستظل ثورة ثقافية ثم تحررية، ولعل أهدافها الستة تلخص ذلك، عكس ٢١ سبتمبر ٢٠١٤، التي يحاول الكهنوت إجبار اليمنيين على التغنِّي والاحتفال بها على حساب ثورتهم الحقيقية، التي سكنت اللحم والعظم والوجدان والوجود والأحاسيس، لذلك نجد اليمني مخلوقاً سبتمبرياً منذ ٦٢ عاماً، عكس الانقلابات الظلامية التي تريد العودة باليمنيين إلى ما قبل 1400 عام- ولطالما ردد الكهنوتيون أن ثورة سبتمبر كانت انقلاباً، وظلوا يطرحون هذا في سياق الجدل البيزنطي طوال العقود الماضية دون أن يدرك الكثيرون أنه كان سؤالاً إمامياً كهنوتياً ماضوياً.
وقبل أيام، دارت مثاقفة طويلة حول مصير المكتبات الخاصة التي نمت وترعرت في رفوف المساكن الخاصة، ورفوف قلوب أصحابها من المسكونين بالمعرفة والثقافة والمثاقفة، وغادرها أصحابها أو بعضهم ـ وهم كثيرون ـ الدنيا تاركين إياها لمصيرها المجهول بكل أسف، والذي قد يختلف من بيت إلى بيت ومن أسرةإلى أسرة، ومن جيل إلى جيل، وقد تبدأ هذه المكتبات بالتسرب إلى البقالات أو محلات بيع السندويتشات ومقاصف المدارس في أسوأ الأحوال، وهذا هو منبع الخوف الأول.
وبعض هذه المكتبات قد تجد أبناء بارين بآبائهم وكُتبهم؛ فيحافظون عليها، ويستفيدون منها، ويفيدون غيرهم، أو عن طريق إهدائها لمكتبات مدرسية أو مكتبات جامعات أو مقرات ثقافية لها علاقة بالأدب والثقافة.
وبعض هذه المكتبات يكون مصيرها التراب والفئران، وهو أمر في غاية الأسف والمرارة لعشاق الكُتب وأربابها، وخاصة الآن وقد ارتفعت أسعار الورق عالميًا، ويصعب تعويض أي كتاب ورقي تعرّض للإهمال، وفي وضع اقتصادي صعب للغاية، منذ عشر سنوات، يعجز القارئ عن شراء كتاب، وانقطاع اليمن، أو نصفه، عن العالم بكل تطوراته..
ولعلّ هناك جيلاً من أبناء أصحاب المكتبات الخاصة لديهم رؤى للكتب الإليكترونية، ويعتبرونها أجدى نفعاً، وخاصة اليوم مع تطوّر وسائل ووسائط الرقمنة.
ولابأس عندما نؤكد أننا مازلنا مشتتين بين عالمين؛ عالم الكتب الورقية وعالم الكتب الإليكترونية، فكثيرون جداً مازالوا متعصبين للكتب الورقية باعتبارها الأكثر حميمية، والأقرب للقارئ النبيل والأصيل.
بالنسبة لكثيرين مازالوا حتى اليوم لا يطيقون ولم يتأقلموا مع الكتب الإليكترونية باعتبارها سارقة للعيون بأضواء الأجهزة بمختلف أنواعها، ولعلنا نجزم أن الجهد المبذول لقراءة هذا النوع من الكتب يكون أضعاف الجهد المبذول لقراءة كتاب ورقي، حسب آراء كثيرين.
والحقيقة أنَّ كثيرين من الذين اقتنوا كُتباً من الأرصفة، أو من أسواق الكتب القديمة، التي انقرضت بعد يوم ٢١ المشؤوم، تفاجأوا بأن عددا كبيرا من الكتب، التي كانت معروضة للبيع، مكتوب عليها، أو كانت خاصة بمثقفين معروفين، أو أشخاص أهديت إليهم هذه الكتب، ومن باب الحاجة قاموا ببيعها وتدويرها.
ولا نشك للحظة واحدة أن كثيرين مدينون للأرصفة بما وصلوا إليه من ثقافة متنوعة، كأساس ومدماك ثقافي بنوا عليه، ومن خلاله شخصياتهم التي نعرفهم بها اليوم.
ولا شك أن عُزلة اليمن الثقافية الجزئية اليوم فيما يخص الكتاب الورقي والمطبوعات والدوريات والصحف، التي كانت تصل إلى اليمنيين يومياً، بل وكل ساعة قد أحدثت فجوة كبيرة، فيما يتعلق بالتواصل الثقافي والحضاري مع الكتابة، أو مع الورق المكتوب بين اليمنيين والعالم كله، وغاص القارئ اليمني بوحل الكهنوت، الذي يمد رجليه ولا يبالي -بكل أسف.
ولذلك، نحن مع كل صاحب مكتبة خاصة إذا لم يجد من أولاده محباً للقراءة أن يتم إهداء هذه المكتبات لمكتبات مفتوحة أمام الباحثين والقُراء.
ولعلّنا لا نخفي أمرًا أن كثيرين من أصحاب المكتبات الخاصة الذين نزحوا بسبب الحرب في اليمن إلى مدن مختلفة يجدون صعوبة كبيرة في نقل مكتباتهم؛ بسبب تعنّت نقاط الكهنوت بالسماح لهذه الكتب بالوصول إلى أي مكان في اليمن، وهنا تبدر مشاكل أخرى تهدد الكثيرين بفقدان مكتباتهم الخاصة.
ودعونا لا ننسى ما حدث للمكتبات الخاصة في زبيد وبيت الفقيه وغيرهما من المدن اليمنية، التي كانت مواطن للثقافة والتأليف-د، وهي مكتبات كانت تمثل إحدى أهم الثروات المعرفية لليمن تاريخا وثقافة وحضارة، وموضوع الكتاب والمكتبات الخاصة حديث ذو شجون يمكن العودة إلى طرحه مستقبلاً؛ أو أن يكون مشروع كتاب أو كتب.