مقالات

ملك التعب (2-2).. العبور من جَرْف النمر

09/06/2024, 20:27:25

 

كان المشاء زيد الحمزي، وهو عضو فرقة الاستطلاع، قد عاد من "جرف النمر"، وقال الكلام نفسه الذي قاله المشاء عبد الله الشرعبي؛ وهو أنه "لا يوجد طريق من جهة الوادي، وإن علينا أن نعود من الطريق الذي جئنا منه".

لكنه حين أبصرني في غاية التعب، ولمس إصراري على مواصلة السير، قرر البقاء إلى جانبي، وكان رجوعه معي عملا بطوليا ورجوليا، وفي الوقت نفسه عملا جنونيا، أقول عملا جُنُونيا؛ لأنه رجع معي مع علمه باستحالة العبور من "جرف النمر"، فضلا عن أنه كان متعبا وكان عليه أن يساعد نفسه ويواصل طريقه إلى قرية "برحان"، حيث رَكَنَ سيارته. لكن؛ لأنه رجل شهم ونبيل، عاد معي وكان وجوده إلى جانبي قد رفع معنوياتي، وارتفعت أكثر حين لحق بنا العضو الثالث لفرقة الاستطلاع، معاذ الحُسَام.

ومع هذين المشاءين الملاكين (زيد ومعاذ) رحتُ أواصل السير، وأواصل السقوط.

وفيما كانت روحي ما تزال في أجمل حالاتها كان جسدي في أسوأ حالاته.. كنت أمشي وأسقط، أمشي وأكبو.. أمشي وأقع.. وكان المشاء زيد الحمزي يبذل كل ما بوسعه ليرفعني ويجعلني أقف على قدميَّ. 

ولشد خوفه من أن يهبط الظلام ونحن في الوادي طلب من المشاء معاذ الحسام أن يلحق بالمشاءة فاطمة الأغبري، ويأخذ منها مصباحا كان قد أعطاه لها أثناء عودته من جرف النمر؛ وبعد ذهاب المشاء حسام واصلنا السير ببطءٍ شديد، وكنت أحيانا لعدم قدرتي على المشي استعيض عن المشي بالزحف، وكان زيد لا يكتفي بمد يده لمساعدتي، وإنما كان إلى جانب الجهد الذي يبذله ينفخ فيَّ من روحه، ويشجعني بكلماته، وبالطريقة نفسها التي يشجِّع فيه الآباء والأمهات أطفالهم حين يبدأون في تعلم المشي.

وعندما أكون في ذروة تعبي وعجزي يطلب مني أن آخذ راحة، وكانت تلك اللحظات، التي أستريح فيها، أجمل لحظات الرحلة، وفيها كنت أنفرد بنفسي، وأتأمل في تعبي وفي معنى التعب، ومعنى الحياة، وبدلا من القول: "الحياة تعب" كنت أبتسم من داخلي وأقول:  

- "التعب حياة"*. 

كان المشاء معاذ الحسام قد لحق بالمشاءة فاطمة الأغبري، وأخذ منها المصباح، وجلس ينتظرنا، وعند وصولنا ارتحنا لدقائق، ثم واصلنا السير، وكان الاثنان (زيد ومعاذ) قد راحا يمسكان بي، ويبذلان ما بوسعهما لمساعدتي على السير، لكني من شدة تعبي وعجزي، وتلك الرعشة في ساقي، كنت أجد نفسي عاجزا ومنهكا، وفي تلك اللحظة التي كنت فيها قد وصلت إلى ما بعد التعب، وما بعد العجز، أبصرت ما يشبه الشجر، وأبصرت صبايا ونساء يحتطبن، وأول ما أبصرتهن فرحت، وقلت لنفسي: 

- "حيثما تكون المرأة تكون الحياة".  

وبعد أن اقتربت منهن أخبرتهن عن حاجتي لحمار أستأجره، وسألتهن عما إذا كان هناك حمار للإيجار، وكان ردهن بأن الحمير لا يمكنها السير في الوادي، وليس بمقدورها أن تعبر من جرف النمر.

ولشدة ما كُن مستغربات من وجودنا في الوادي، رحن يسألننا من أين نحن؟! ومن أين جئنا؟! وما الذي جاء بنا؟! 

ولأني كنت في غاية التعب وعاجزا عن الكلام، فقد لِذتُ بالصمت، ولم أدرِ ما الذي دار بينهن وبين المشاءين (زيد ومعاذ)؛ لكني كنت قد سمعت إحداهن تقول: 

- "هولا مجانين".  

عند وصولنا جرف النمر كانت بطارية جسدي قد انطفأت بالطريقة نفسها التي تنطفئ بها بطارية الهاتف، وكان الرجل الطيب صاحب العصا ينتظرني عند مدخل الجرف ليأخذ عصاه، وصادف أن الكابتن مبخوت الماوري وصل في اللحظة نفسها، التي وصلنا فيها، ليساعدنا على عبور جرف النمر، وقد بدا لنا الجرف أشبه ما يكون بكابوس من الحجارة والظلمات. 

كان ثمة ظلام فوقنا وتحتنا؛ ظلام ومياه تجري وصخور راسيات كأنها المراكب، وكنا ونحن نعبره كأننا نعبر الصراط المستقيم.

ولشدة خوفنا من السقوط إلى الأسفل، رحنا نتحرك ببطءٍ وحذر شديدين، لكن المريع في هذا الجرف اللعين ليس فقط أنه مظلم، وإنما كان متعرجا وملتويا، وأشبه ما يكون بالمتاهة، وعن نفسي كنت بعد هذه الرحلة الكابوسية قد تحولت تحولاً عظيماً، وغدوت مِسخاً أعظم من مسخ كافكا "جريجوري سامسا"، حتى إنني رحت أزحف مثل صرصار ضخم. 

 * 

عند خروجنا من ظلام الكهف، كان الظلام في استقبالنا، وكنت قد انطفأت تماما، وحتى أُعيد شحن بطاريتي المنطفئة دخلت تحت شلالٍ يندفع بقوة من داخل الجرف، لكن الشلال، وبالرغم من قوة اندفاعه، لم يستطع أن يعيد شحن بطاريتي.

ولأنني كنت منطفئا تماما، وفي ذروة عجزي، ساورني شعور بأنني هذه المرة لن أنجو مثل كل المرات، ولن عود إلى البيت، ولا حتى بمقدوري الوصول إلى القرية. 

وكان ثمة صوت يصيح بي، ويقول لي: 

- "يا رازحي خلاص لا تزيد تتعب، زيد ومعاذ يكفيهما ما عاناه من أجلك، لقد فعلا ما بوسعهما، وعليك أن تشكرهما، وتصرفهما، وتوصيهما إن كان لك وصية تريد منهما أن يوصلاها لأهلك". 

وفي تلك اللحظة، التي راح  فيها زيد ومعاذ ينفخان من روحيهما في جسدي المطفأ وفي روحي المطفأة، كدت انفجر فوقهما، وأطلب منهما أن ينصرفا ويلحقا ببقية المشائين في قرية "صيح"، ويتركاني أموت واحقق أمنيتي التي تمنيتها، وكنتُ لحظتها قد شعرتُ كما لو أنني عالة عليهما، وأنني السبب في تعبهما ومعاناتهما وتأخيرهما، وكذا في معاناة وتأخير أعضاء الفريق. وفي تلك اللحظة، التي كانت روحي تهبط وتكاد تخرج من قدميَّ، أخرج المشاء زيد الحمزي من جيبه لوزا ومكسرات وحبة شوكولاتة وناولني؛ لكني أعدت إليه اللوز والمكسرات، واكتفيت با بالشوكولاتة -وكانت قد ذابت من الحرارة - أخذتها منه ورحت أُديرها داخل فمي وألعقها على مهلي، وأمتص رحيقها، وكانت حبة الشوكولاتة تلك من اللذة إلى درجة أنها ذكَّرتني بأول حبة شوكولاتة تذوقتها، وشعرت لحظتها بمعنوياتي ترتفع، ورحت أتقدم وأردد بيني وبين نفسي مقولة جبران خليل جبران: 

- "تقدم ولا تتوقف ففي التقدم الكمال".  

ولأن تعبي كان قد اكتمل، وبلغ الكمال، رحت أتعثر في سيري، وكان زيد ومعاذ يواصلان جهودهما، ويحشدان ما تبقى لهما من قوة لمساعدتي على التقدم، وهناك عند مدخل القرية سقطتُ سقطتي الأخيرة، لكأنها سقطة الوداع، وكانت موجعة، لكنني  وبمساعدة الملاكين زيد ومعاذ نهضت، ورحت أتقدم وأواصل التقدم.

وعند مدخل القرية، أبصرت حمارا وكأنه وقف هناك لاستقبال أخٍ له، وبمجرد أن رأيته فرحتُ، واعترتني المشاعر نفسها التي اعترت الأمير "ميشكين" في رواية "الأبله" حين أبصر حمارا في مدخل مدينة سويسرا. 

من قرية "صيح"، الواقعة على تخوم مديرية الحيمة، ركبنا سيارة شاص إلى منطقة الأهجر، وهناك التقينا بالمشاء عبد الله الشرعبي، وكان الشرعبي، الذي عاد عن طريق الجبال، قد أحضر سيارة زيد الحمزي من قرية "براح" إلى  منطقة الأهجر.

وفيما ركبنا -نحن الأربعة- سيارة زيد، ركب بقية المشائين الباص.

وفي الطريق إلى صنعاء، رحت استرجع واستحضر كل السقطات والكبوات والعثرات، وكل الخدوش والجروح والرضوض والكدمات، وكل حصيلتي من التعب، وبعد صمت طويل نطقت وتكلمت وقلت لهم: 

- "أنا ملك التعب" 

ومع يقيني بأن كل المشائين تعبوا، وعانوا في تلك الرحلة الكابوسية، إلا أن تعبي كان الأشد والأعظم، ولو أن الملوك يصيرون ملوكا بقدر تعبهم، لكنت أنا يومها ملك الملوك، لكن الفرق بيني وبين الملوك المشائين هو أنهم أبصروا الجمال، وشاهدوا تلك الجنة الخضراء، التي أبصرناها في الصباح من ذرى الجبال.

أما بالنسبة لي أنا الذي كنت أكثرهم إصرارا وحماسا للوصول إلى جنة "صيح" فإن الشيء الوحيد الذي رأيته هو الحمار.  

 *

وصلت الساعة الحادية عشرة ليلا، وشعرت وأنا أدخل البيت شعور جنرال يعود من معركة وهو مثخن بالجروح والطعنات. وفي الصباح شعرت بألم شديد، لكأنَّ جسدي كله جرح، وكانت أعظم وأصعب وأشق رحلة بعد عودتي من الرحلة الكابوسية هي رحلتي من غرفة النوم إلى الحمام.  

إذ لأول مرة في حياتي أذهب إلى الحمام متوكئا على عصا  ههههههههههه

مقالات

حكاية الرَّجل المَيِّت (الفصل الخامس)

عندما عرَف أهل القرية من سُفَرجَلة أن عساكر الدولة لاذوا بالفرار، داخلهم شعور بالخوف من الرجل المَيِّت، وأولئك الذين كانوا غير مصدقين بأن سلطان المِلْح عاد من البحر ميِّتا صدقوا بعد هروب العسكر، وقالوا:

مقالات

حرب إيرانية رسمية ضد اليمن.. ما رد الفعل؟

قبل أيام أعلنت الحكومة الإيرانية تعيين سفير جديد لدى مليشيا الحوثيين في صنعاء. لاحقاً جرى استقبال السفير رسمياً في القصر الرئاسي، وفُرش له السجاد الأحمر، واستعرض حرس الشرف. لا يمكن قراءة الأمر إلا باعتباره تصعيداً إيرانياً، أو أنه عودة إلى نقطة البداية، باعتبار طهران ما زالت تخوض حرباً ضد الحكومة اليمنية.

مقالات

"سلطان الغناء اللحجي"

الغناء اللحجي يبث فيك الفرح حتى لو كنت تعاني سكرات الموت. ينتَعك من رتابتك وجمودك، ويوقظ فيك نشوة تقلّب مزاجك 180 درجة، دفعة واحدة.

مقالات

لا للتطبيع

يمتاز المثقف عن السياسي في مضمار التعاطي مع القضايا العامة (القضايا المتصلة بالدولة والمجتمع) أن السياسي قد يُغلِّب حالةً من الديماغوجيا أو البراجماتيا في اتخاذ هذا الموقف، أو إبداء ذلك الرأي تجاه هذه القضية أو تلك المسألة، أما المثقف فالمتوقع منه، أو المفترض فيه أن يكون أكثر احتكاماً إلى صوت العقل والضمير في مواقفه وآرائه؛ لأنه أكثر التصاقاً بالغالب الأعظم من الجماهير من جهة، ومن جهة أخرى يكون أكثر قلقاً وحذراً تجاه أحكام التاريخ والأجيال بهذا الصدد.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.