مقالات
نداء سيادي في زمن التهدئة المضللة
في ظل تصاعد التهديدات البحرية وتنامي النفوذ الإيراني في اليمن، تعود خارطة الطريق التي توصلت إليها السعودية مع جماعة الحوثي إلى دائرة التساؤل، بعد دعوة رئاسية يمنية صريحة لإعادة تقييم المسار التفاوضي. فهذه الدعوة، التي أطلقها رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد العليمي، لا تُقرأ بمعزل عن المتغيرات الإقليمية والدولية الضاغطة، بل تُعدّ نقطة تحوّل سياسية مهمّة في توقيتها ومضمونها، ورسالة مبطنة للداخل والخارج على حد سواء.
أولًا: ما وراء دعوة الرئيس العليمي؟
جاءت دعوة العليمي في ظل جمود واضح في تنفيذ بنود خارطة الطريق، وتصاعد حدة تحرّكات الحوثيين عسكريًا واستخباراتيًا، خصوصًا في البحر الأحمر، كما وثّقنا ذلك في تحليلات سابقة تتعلق بتوسّع المشروع الإيراني في البحر الأحمر واستهداف الملاحة الدولية (انظر مقال "مشروع إيراني لتفجير أمن الملاحة" - يوليو 2025). وقد اعتبر العليمي هذا التصعيد دليلاً على أن الجماعة الحوثية لم تعد ملتزمة بالمسار السياسي، بل تستغله لكسب الوقت، وتعزيز سيطرتها، وتحقيق أهداف إستراتيجية لصالح حلفائها الإقليميين.
أهداف الدعوة كما يمكن فهمها:
1. تحذير مبكر من انزلاق المشهد نحو شرعنة الحوثي دون ضمانات حقيقية.
2. إعادة التوازن لصوت الحكومة الشرعية في العملية التفاوضية.
3. مطالبة ضمنية بضغط سعودي جديد على الحوثيين، أو على الأقل إعادة مراجعة إستراتيجية التهدئة.
ثانيًا: ما المؤشرات التي يتم البناء عليها؟
هناك عدة مؤشرات سياسية وأمنية دفعت بهذه الدعوة للواجهة:
1. تصعيد الحوثيين في البحر الأحمر
الهجمات المتواصلة على الملاحة الدولية، مثل استهداف سفينة الشحن True Confidence في مارس 2024، وغيرها، وآخرها إغراق سفينتين تجاريتين في البحر الأحمر؛ وهما "ماجيك سيز" و"إنيترنيتي سي"، ومقتل وفقدان بعض أفراد طاقم الأخيرة. كل هذا أظهر أن الحوثيين يستخدمون التهدئة كغطاء للتمدد العسكري وكسب الوقت لترتيب أوضاعهم وقدراتهم العسكرية، لا كمدخل لتسوية حقيقية.
2. التحرك الإيراني المتزايد
هناك دعم نوعي متواصل من إيران، يشمل تزويد الحوثيين بطائرات مسيّرة متطورة وصواريخ دقيقة، وتوفير دعم استخباراتي مباشر، ما يهدد أي صيغة سلام لا تستند إلى ضمانات أمنية متينة.
3. تهميش الحكومة الشرعية
اللقاءات الثنائية بين الحوثيين والرياض غالبًا ما استبعدت الحكومة اليمنية، مما عزز الشعور بأن خارطة الطريق قد تُختزل في تفاهمات بين قوتين على حساب الدولة اليمنية الشرعية.
4. عودة التصعيد العسكري الميداني
شهدت الأشهر الأخيرة تصعيدًا في مأرب، والضالع، وتعز، في خرق صريح لأي مسعى للتهدئة، بل وتحويل الوضع إلى "تهدئة هجومية" تخدم الحوثي ميدانيًا.
ثالثًا: ما المعطيات الجديدة؟
1. تغيّر الموقف الدولي
الولايات المتحدة وبريطانيا، اللتان دفعتا سابقًا باتجاه التهدئة، أصبحتا أكثر تحفظًا، خاصة بعد تعرض مصالحهما البحرية لهجمات حوثية مباشرة، مما دفعهما لإعادة تقييم المقاربة.
2. تحولات في أولويات السعودية
بدأت المملكة تدرك أن سياسة "السلام مقابل وقف النار" لا تكفي، وأن مصالحها الاقتصادية، خصوصًا في مشاريع "نيوم" وخطوط الملاحة في البحر الأحمر، معرضة لتهديد مستمر.
3. تصدّع داخلي محتمل داخل الحوثيين
تقارير غير رسمية تتحدث عن تباين داخل الجماعة بين الجناح السياسي المتجه نحو التهدئة، والجناح الأمني المرتبط بالحرس الثوري الإيراني، ما يزيد من غموض نوايا الجماعة وقدرتها على الالتزام بأي اتفاق.
رابعًا: هل تشجع الحسابات السعودية على إعادة المقاربة؟
نعم، وبصورة متزايدة. وتتجلى الأسباب في:
1. عدم وفاء الحوثيين بتعهداتهم التفاوضية والأمنية.
2. استمرار الهجمات غير المباشرة على المصالح السعودية في البحر الأحمر.
3. إدراك الرياض أن الضغوط الدولية وحدها غير كافية، وأنه لا بُد من أدوات أكثر تأثيرًا، من بينها تعزيز موقف الحكومة اليمنية كفاعل شرعي.
حيث تشير التحركات الأخيرة إلى انفتاح سعودي حذر على سيناريوهات بديلة، منها تعزيز التحالفات البحرية الإقليمية، وتفعيل دور الحكومة اليمنية مجددًا في التنسيق الدولي حول أمن البحر الأحمر.
- خلاصة تحليلية
دعوة الرئيس العليمي لا تُعد مناشدة سياسية فحسب، بل تشكل رسالة سيادية صريحة للرياض والدول المعنية مفادها: أن مسار السلام الحالي يتجه نحو تقويض الدولة اليمنية لا دعمها، ويُكرّس واقعًا عسكريًا جديدًا لمصلحة جماعة مسلحة مدعومة إيرانيًا.
قد تُمثل هذه الرسالة نقطة انطلاق لإعادة تموضع سعودي في الملف اليمني، لا سيما إذا ترافقت مع فشل التفاهمات السعودية - الإيرانية أو تصعيد حوثي جديد في الممرات البحرية الدولية.
مقارنة تاريخية: تدخل سعودي ناجح
تجربة المملكة في اتفاق الطائف 1989، الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية، تُعد مثالًا بارزًا على قدرتها على هندسة حلول سياسية مستدامة. نجحت الرياض حينها في فرض تسوية متوازنة حافظت على بقاء الدولة اللبنانية، ومنعت التقسيم، رغم تعقيدات الطوائف والمليشيات المسلحة. وهي مقاربة قابلة للاستدعاء في الحالة اليمنية، حيث الحاجة ملحّة إلى فرض اتفاق لا يكرّس المليشيات، بل يُعيد الاعتبار لمؤسسات الدولة.
- توصية ختامية
ينبغي ترجمة دعوة الرئيس العليمي إلى تحرك دبلوماسي يمني فاعل يشمل:
دعوة الأطراف الإقليمية والدولية إلى مراجعة اتفاق التهدئة ومحدداته.
عقد مؤتمر سياسي يمني برعاية عربية، يُعيد تموضع الحكومة الشرعية كممثل رئيسي في مستقبل الدولة.
التنسيق مع شركاء دوليين (مثل مصر والأردن) لتعزيز مقاربة أمن البحر الأحمر من منظور عربي، لا غربي فقط.
فقد أثبتت التجارب أن السلام الحقيقي لا يُبنى على حسن النوايا، بل على توازنات الردع ووضوح المصالح والسيادة.