مقالات
ليلة وقوعي في الحب(4)
كان المجنون علي الزيلعي واحدًا من أشهر مجانين الحديدة. وكان قوي البنية، ضخم الجثة، طويل القامة، شبه عار، وشَعره مشعث ومتّسخ، والوسخ المتراكم فوق جسده كأنه جلد آخر، لكنه كان طيبًا وهادئًا ومُسالمًا، ولم يدخل يومًا في عراك مع أحد. حتى إن الناس، من حبهم له كانوا يودّونه ويعطونه ويتصدّقون عليه ويعتبرونه وليًّا من الأولياء، لذلك كان حظه من الصدقات كبيرًا، وكان "القات" يتوفر له بكميات كبيرة، ويظل مخزنًا من الظهر إلى ما بعد منتصف الليل، ولا ينام إلا بعد أن ينام الجميع.
لكنه، على عكس المجانين والمتسوّلين، لم يكن يحب أن ينام في الشارع على الأرض أو فوق الإسفلت، وإنما كان يمرّ على أولئك النائمين فوق أسرّتهم، والذين يغطّون في النوم، ومن يرى أنه يستحق بركته يحمله بيديه القويتين وينزله من فوق سريره، ويضعه على الأرض في مكان آمن، وينام بدله.
لكن أولئك الذين كان يأخذهم من فوق أسرّتهم لم يكونوا يزعلون منه عندما يستيقظون في الصباح ويجدون أنفسهم في الأرض. بالعكس، كانوا يعتبرون ذلك دليلًا على أن الزيلعي ميّزهم وباركهم ورفعهم عندما أنزلهم.
أما بالنسبة لي، ولأنني لم أكن أعرفه، فبمجرد أن استيقظت من نومي، ووجدت نفسي نائمًا في الأرض وهو نائم فوق سريري، زعلت ورحت أصرخ فيه. لكن الرجل كان غارقًا في النوم، وكان من الضخامة حتى إني حين هممت بسحبه من فوق سريري لم أستطع من شدة ثقله.
ثم إن الذين يعرفونه عندما أبصروني أصرخ فيه وهو نائم، راحوا يلومونني ويقولون لي:
-"هذا الزيلعي يا مجنون".
قلت لهم، وقد استفزني كلامهم: "من المجنون أنا وإلا هو؟!".
قالوا: "هو المجنون، لكنه ولي، واحمد الله أنه نزّلك من فوق القعادة ونام بدلك".
وراحوا يحدثونني عن كراماته، وقالوا إنه مادام الزيلعي المجنون نام فوق سريري، فمعنى ذلك أنني محظوظ، وأن البركة تحل عليَّ، والأبواب المغلقة سوف تنفتح لي.
ويومها، ولأول مرة منذ التحاقي بالعمل في الجيش، حصلت على عشرة ريالات مكافأة، وهو مبلغ كبير حينها.
وفي عصر اليوم نفسه، ذهبت أبحث عن سكن، لكنني هذه المرة ذهبت باتجاه البحر، ورحت أمشي جنوبًا بمحاذاة الشاطئ. وبعد أن مشيت قرابة ساعة، وصلت إلى قرية صيادين، ورأيت امرأة تقف أمام عُشّة كبيرة عند مدخل القرية. وأول ما أبصرتها اتجهت إليها وسألتها عمّا إذا كان هناك عُشّة للإيجار.
استغربت المرأة حين سمعتني أسأل عن عُشّة للإيجار، وحين راحت تتطلع في ملابسي وهيئتي ظنت بأني لست جادًا، وقالت إن الناس أمثالي يفضلون السكن في الحُديدة، وفي بيوت حديثة، وليس في عُشّة في الخلاء. وأما بعد أن تبين لها أنني جاد، أشارت إلى عشّة صغيرة جنب عشّتها، وقالت إن بمقدوري أن أسكن فيها.
ولما سألتها عن إيجار العشّة، قالت لي: "ماشاش منك بياسو".
وعندما أخرجت من جيبي خمسة ريالات وناولتها، زعلت ورفضت تأخذها، لكني أصررت وقلت لها -بما معناه- إن عدم أخذها الفلوس يعني أنها لا تريدني أن أسكن في عُشّتها. وعندها استحت وأخذت الفلوس واقتادتني إلى داخل العُشّة.
وكانت العُشّة، رغم صغرها، جميلة ونظيفة ومؤثثة على الطريقة التهامية، وبدت لي كما لو أنها قصر صغير من القش والقصب.
ولشدة ما فرحت بها، تذكّرت الزيلعي المجنون، وقلت بيني ونفسي:
ـ "هذا كله ببركة المجنون علي الزيلعي".
وفيما كنت وصاحبة العُشّة في الداخل، تناهى إلى سمعي صوت فتاة تنادي أمها. وحين جاوبتها المرأة من داخل العُشّة، عرفت أنها بنتها. وما لبثت البنت أن دخلت العُشّة لترى ما الذي يجري في الداخل، وعند دخولها تفاجأت بجمالها وبقوامها الممشوق، وبدت أشبه ما تكون برُمح من رماح قبيلة الزرانيق.
ولأن واحدًا من أكبر عيوبي هو سرعة وقوعي في الحب، وقعت في حبها. وأول ما نظرت إليَّ شعرت كما لو أنها سددت لي طعنة في القلب، وبدلًا من أن يسيل دمي، سال اللعاب من فمي، وبدوت مثل أولئك البُلهاء الذين يسيرون وأفواههم مفتوحة ولعابهم يسيل.
كانت القرية تتألف من مجموعة عُشّش، وكل سكانها من الصيادين. وصادف أن أبصرت "متوسيكل" أمام بيت من بيوت القرية، وطلبت من الأطفال أن ينادوا صاحب "المتور" ليأخذني إلى الحُديدة. فرح الأطفال وذهبوا إليه، وكان مخزّنًا مع أهل قريته الصيادين، وكانت الشمس لحظتها على وشك الغروب.
ومع صاحب "المتور" ذهبت إلى "شارع المِطراق"، وأخذت ملابسي وكتبي وحاسبت "الدُّوبي" (كم يؤسفني أنني نسيت اسمه، خصوصًا وأنه كان طيبًا معي).
وعلى طريق عودتي مررت على "مطعم الفيلق" في "شارع صنعاء"، وأخذت عشاء ثلاثة أنفار، ثم مررت على سوق "القات" وأخذت "قاتًا" للسمرة.
وعند وصولي القرية، استقبلتني الأم عند مدخل عُشّتها الكبيرة، وأعطتني فانوسًا. وحين أخبرتها بأنني عازمها وبنتها على عشاء، احتجّت وقالت إنني ضيف، وإن ابنتها في الداخل تجهز العشاء.
وكانت الأم وابنتها، واسمها تغريد، تعتبراني ضيفًا وليس مستأجرًا، وقد تفاجأتا عندما عزمتهما على عشاء. ومثلما زعلت الأم، زعلت البنت، لكن الأم وابنتها قبلتا عزومتي.
وبعد أن تعشّينا في عُشّتي الصغيرة الجميلة، أخرجت "القات" وناولته الأم، واعتذرت البنت، وقالت إنها لا تُخزّن.
وليلتها، وأنا مخزّن وسامر في العُشّة مع الأم وبنتها، بدت لي الحياة جميلة... جمال البنت تغريد.
كنت أنا فوق القعادة مثل ملك، والأم وبنتها فوق تخت. وليلتها راحتا تسألاني عن حياتي، ومن أين أنا؟ وماذا أشتغل في الحُديدة؟ ولم أقل لهما إني في الجيش، حتى لا أثير مخاوفهما.
وعرفت ليلتها أن الأم أرملة صيّاد، وأن بنتها تغريد، بعد موت أبيها، تذهب إلى البحر كل صباح بالقارب، وتصطاد ما يكفيها ويكفي أمها، وما تبقّى تبيعه أو توزّعه على فقراء القرية.
وقالت لي البنت تغريد إن أباها، وهي لم تزل طفلة، كان يأخذها معه في قاربه ويدخلها البحر، يمشيها بالقرب من الشاطئ. وكانت عند خروجه للصيد تظل تبكي، وتريد أن تخرج معه للصيد، وكان أبوها يقول لها إنه عندما تكبر سوف يأخذها معه ويدخلها مدرسة البحر لتتعلّم لغة البحر وألف باء الصيد.
ثم، وقد كبرت، راح يأخذها معه ويعلّمها. وفي مدرسة البحر تعلّمت تغريد، على يد والدها الصياد، فنون الصيد.
وفيما كانت تحكي حكايتها مع البحر، هاجت مشاعري، والتهب خيالي، وتخيلت نفسي معها وسط البحر، في القارب نفسه.
ثم، وقد انتهت من سرد حكايتها، أخرجت كتابًا. وفي ظني أن الأم وبنتها حين تريان الكتاب في يدي سوف تنصرفان وتتركانني لوحدي، لكن الأم حين أبصرت الكتاب فرحت، وظنت أنني سيّد من السادة الروحانيين، وطلبت مني أن أفتح الكتاب لبنتها تغريد، لترى ما الذي ينتظرها، وماذا يخبِّئ المستقبل لها!!
ولحظة طلبت مني فتح الكتاب، شعرت بإحراج شديد وتلعثمت، ولم أدرِ ماذا أقول ولا بماذا أرد على الأم الطيِّبة، ذلك لأن الكتاب الذي كان في يدي هو:
"البيان الشيوعي" لكارل ماركس وصاحبه فريدريك إنجلز.