مقالات
أبو الروتي ( 14 )
كان المعهد العلمي الإسلامي يتبع الشيخ محمد سالم البيحاني -خطيب وإمام مسجد العسقلاني في كريتر- وكان مدير المعهد هو الأردني ناظم البيطار، الرجل الذي كان مجرد ظهوره يثير فينا الرعب.
كان قد استدلّ من رائحتي على جريمتي، وراح يصرخ في وجهي ويقول لي كلاما كبيرا، وكان ما فهمته من كلامه هو أن هناك من سقاني خمرا، وأرسلني إلى المعهد بهدف تشويه سمعة المعهد.
وظل يضغط عليَّ، ويطلب منِّي أن اعترف بشربي الخمر، وكنت أنا أنكر وأحلف له يمينًا بأني لم أشرب خمرا، لكنه لم يقتنع.
وعندما كنت أحاول التغلب على خجلي، وأهمُّ أن اعترف له بالحقيقة، كان يسكّتني، ولا يريد أن يسمع غير الكلام الذي في رأسه؛ ثم إنني كنت أتكلّم بلهجة قريتي، التي لا يفهم منها شيئا، وكانت لهجتي القروية تثيره، وتوتّر أعصابه، وتضاعف من غضبه عليَّ، ومن شكوكه بوجود مؤامرة لتشوية سمعة المعهد العلمي الإسلامي.
وفيما هو يواصل التحقيق معي، دخل نائب المدير، وجلس صامتا ينصت للمدير الأردني وهو يصرخ فوقي، ويواصل ضغطه عليّ.
وعندما عرف نائب المدير التهمة، التي أوصلتني إلى الإدارة، اقترب منِّي، وراح يتشمَّمني، ويشم نخسي، ويسألني عن الرائحة التي تفوح منِّي ومن أين؟! وكيف التصقت بي؟!
وطلب منّي أن أكون صريحا، وأخبره بالحقيقة؛ ولأن نائب المدير كان لطيفا معي، وطلب منّي أن أكون صادقا، معه قلت له:
"الصبح بدري أبكر أُلقّط قوارير الخمر، وأطرحهن داخل السلة، وبعدما أتحمل السلة فوق رأسي، الخمر ينطُف من القوارير اللي بداخل السلة لا فوقي، والناس لما يشمونا يحسبونا....".
ولشدة شعوري بالمهانة لم أستطع أواصل الكلام، واختنقتُ بالبكاء.
بعدئذٍ، وقد لمس نائب المدير الصدق في كلماتي المبتلة بدموعي، لم يطرح عليَّ أسئلة مثل كيف؟
ولماذا نجمع قواريرالخمر؟ ولأي غرض؟ وكان رأيه أن أعود إلى الفصل.
لكن المدير الأردني ناظم البيطار بقي عند رأيه، وعلى عناده، وطلب منِّي -وهو يشير إلى الباب- أن أنصرف، وأذهب لإحضار ولي أمري.
ويومها خرجت من المعهد وأنا منكسرا وحزينا. وخوفا من أن يسألوني عن سبب عودتي المبكرة من المدرسة، ذهبت باتجاه البحر لقربه من المعهد، وكانت تلك أول مرة أذهب فيها إلى البحر، وأول مرة أقف أمامه وجها لوجه، وأنا بكامل حزني، وشرودي، وبقيت أمشي في الساحل، وأفكر في ولي الأمر الذي عليَّ إحضاره لمقابلة المدير.
ورحت أتساءل بيني وبين نفسي:
"من هو ولي أمري؟! ومع من أتكلم وأطلب منه الحضور لمقابلة المدير؟!!".
وتذكرت أن جدتي، وأنا في" مدرسة البعث" بالقرية، كانت هي ولي أمري وهي التي تحضر المدرسة حين يُطلب منِّي إحضار ولي الأمر، وأما في عدن فكان الأمر صعبا.
أخي سيف من حين وصلت من القرية لم أبصره ولا أدري أين هو؟! أخي عبد الحليم، من بعد أن لطمني، خفت لو ذهبت إليه يلطمني ثانية. وأخي عبد الحكيم يشتغل في دكان جدي، ثم إن الموضوع الذي بسببه طلب المدير إحضار ولي أمري موضوع خطير، ولم أكن أريد أن يعرف إخوتي أو أخوالي أنني أبكِّر الصباح أجمع قوارير الخمر، وأذهب إلى المدرسة ورائحة الخمر تفوح منِّي.
وفيما كان الطلبة يدرسون، كنت أنا في الساحل أذهب وأجيء، وأفكر في ولي الأمر الذي عليّ إحضاره، وبقيت في الساحل من الصباح إلى الظهر.
وبعد خروج الطلبة من المعهد، عدت وكلمت عامل الفرن منصور بالموضوع، وقلت له إن المدير طلب إحضار ولي أمري، وسألني منصور عن السبب، وما الذي فعلته حتى يُطلب إحضار ولي أمري؟!!".
قلت له: "شمُّونا، ويحسبونا أشرب خمر".
وضحك منصور، وأبدى استعداده أن يأتي معي لمقابلة المدير ناظم البيطار. وفي الصباح، ونحن في الساحة نجمع القوارير، راح كعادته يكرع بقاياها في بطنه، ولخوفي من أن يشمّه المدير، رحت أتوسل إليه، وأقول له:
"أنا فدالك -يا منصور- لا تشربش اليوم".
لكن منصور لم يسمع كلامي، وشرب يومها إلى أن سلطَن، وجاء معي وهو شربان، وقدم نفسه للمدير على أنه أخي. وكنت خائفا، وبي خوف من أن يشم المدير رائحة الخمر، تفوح منه. لكن المدير البيطار، الذي شمّني ووبّخني واتهمني وطلب مني إحضار ولي أمري، فقد حاسة الشم امام عامل الفرن منصور، وراح يسأله عنِّي وعن الرائحة التي تفوح مني؟!".
قال له عامل الفرن منصور:
"عبد الكريم -يا مدير- من حبه للدراسة يشتغل ويدرس".
وسأله المدير عن الشغل الذي اشتغله فقال له:
"يبكر الصبح بدري يلقط قوارير الخمر من قدام المخمارات".
وكان المدير ينقبض من كلامه، وهو يتكلم عن قوارير الخمر، وقال له:
"ليش قوارير الخمر؟".
قال له منصور: "صاحب المحل، الذي يشتغل عنده عبد الكريم، معه ثلاجة كبيرة، والقوارير اللي يلقِّطهن عبد الكريم الصباح قبلما يروح المدرسة يغسلهن بالماء والصابون، بعد رجعته من المدرسة".
وكان المدير ينصت له، وهو يواصل الكلام:
"وبعدما يغسل القوارير بالماء والصابون يعبِّيهن ماء، ويطرحهن بالثلاجة يبردين".
ويبدو أن المدير شم رائحته، أو ربما عرف من طريقة كلامه أنه شربان، وطلب منه أن يسرع، وينهي الموضوع.
قال له منصور: "وبعدما يبردين -يا مدير- يبيعهن صاحب المحل (بانَيْسْ)" ماء بارد.
وبعد أن انتهى منصور من حل لغز الرائحة، التي أحملها معي كل صباح،
قال له المدير إنه طالما أنني أغسل قوارير الخمر بالماء والصابون، فالأولى أن اغتسل قبل مجيئي للمعهد.
وقال له عامل الفرن منصور إنني لا أجد وقتا لأغتسل، ولو أني اغتسلت سوف أتأخر، ولن أصل المعهد في الوقت، وسوف أتعرض للعقاب بسبب تأخّري.
لكن المدير البيطار قال إنه لن يسمح لي بدخول الفصل إن أنا حضرت للمعهد ورائحة الخمر تفوح منِّي.
وكان البيطار مديرا صارما وشديدا، حتى إنه يومها لم يسمح لي بالعودة إلى الفصل. لكني فرحت ولم أزعل، فقد كنت أكره الدراسة من طفولتي وأدرس غصبا عنِّي.
ثم إن المعهد العلمي الإسلامي كان أشبه ما يكون بمعتقل، وفيه المدرسون جادون وغاضبون، ومبرطمون لا يضحكون ولا يبتسمون.
لكننا من بعد اللقاء مع المدير، رحنا، من صباح اليوم التالي، نسرع في إنجاز عملنا، ونسرع في العودة من ساحة القوارير، وكنت أجد متسعا من الوقت لأغتسل بالماء والصابون قبل ذهابي إلى المعهد.
ومن حين اختفاء تلك الرائحة اللعينة، اختفى كل أولئك الملاعين الذين كانوا يقومون بوظيفة الكلاب.