مقالات

أبو الرُّوتي (25)

05/03/2025, 13:34:05

بعد انتقالي إلى فُرْن العيدروس تعلمتُ صناعة الكيك والبسكويتات، وترقّيتُ من مساعد معلم إلى معلم.

وبعد أن عرف ربُّ عملِي بأنني اتقنتُ الصِّنعة، وصرتُ ماهراً فيها، عاملني كما يتعامل مع غيري من العمَّال، وقرر لي أجراً يومياً.

ولأول مرَّة، منذ نزولي من القرية واشتغالي بالأفران، صرتُ أكسب المال مقابل عملي، وصارت الفلوس تدخل جيبي بسهولة.

وبعد أن كنت أبدِّدها في لعب القِمَار، صرتُ بعد الصفعة، التي تلقَّيتها من أخي سيف، احتفظ بها، وأخبِّيها في سقف الفُرْن، تحت اللوح الذي كان لي بمثابة سرير.

ومن تلك الفلوس، التي صرتُ أكسبها بعَرَقِي وتعَبِي وجهدِي كنت أدفع رسوم الدِّراسة، وكذا أجرة السيارة التي تنقلنا من مدينة عدن إلى كلية "بلقيس"، في الشيخ عثمان.

وبعد أن كُنتُ في صف خامس أدرس في الفترة المسائية، صرتُ بعد انتقالي إلى صف سادس ابتدائي أدرس في الفترة الصباحية.

وكنا نحن الذين ندرس في "بلقيس"، ونقيم في عدن، نلتقي كل صباح في ساحةٍ خلف البنك الأهلي قُبَالة "المجلس التشريعي"، ونظل ننتظر وصول السيارة التي سوف توصلنا إلى الكلية.

ولكثرة عددنا، كنا نظل واقفين، وملتصقين ببعضنا، ومتزاحمين.

لكن رحلتنا تلك، كانت رحلة سحرية؛ فيها الكثير من الجمال والسحر، والكثير من المرح والضحك، وكان أسوأ ما فيها هو منظر الجنود البريطانيين في نقطة التفتيش في جولة "كالتِكْسْ"، وهم يمارسون سلطتهم كمحتلين.

كانت تلك النقطة العسكرية  هي أشهر وأوسخ نقطة تفتيش في المستعمرة البريطانية (عدن)، وكان الجنود البريطانيون يوقفون السيارات ويفتشونها، ويأمرون الرُّكاب بالنزول، ويقومون بتفتيشهم  وإهانتهم وامتهانهم.

وأما نحن الطلبة فكانوا يسمحون لسيارتنا أن تمر بسلام، لكن تسامحهم معنا كان يؤذي مشاعرنا، ويشعرنا بأننا في نظرهم مجرد أطفال لا نمثل خطراً على وجودهم كمستعمرين ومحتلين.

وحتى نثبت لهم أننا جزء من الثورة، ومن الشارع الذي كان قد وصل إلى درجة الغليان، رحنا نتحرَّش بهم، ونرفع أصبعَي السبابة والوسطى ونرسم بهما "علامة النصر"، وكانت تلك العلامة تستفزهم، وتثير حنقهم وغضبهم، وبعد أن كانوا متسامحين معنا ويسمحون لسيارتنا بالمرور بسلام، ومن دون توقيف ولا تفتيش، صاروا يوقفونها، ويطلبون منا النزول، وبعد نزولنا كانوا يقومون بتفتيشنا وتفتيش حقائبنا، ويتسببون بتأخيرنا.

وعندما كنا نصل الكلية متأخرين، لم نكن نشعر  بالخوف من أن نتعرَّض للعقاب، وإنما كنا نشعر بالزهو، وحين كانوا يسألوننا عن سبب وصولنا متأخرين؛ يكون مبررنا هو أن الجنود البريطانيين في جولة "كالتِكس" أوقفونا، وأنهم السبب في تأخيرنا. نقول لهم ذلك ونحن على يقين بأنهم لا يجرؤون على معاقبتنا، أو حتى على لومنا.

وأما الطلبة فكان هناك من يحسدنا؛ لكوننا نصل متأخرين، ونفلت من العقاب. والبعض يعتبر توقيف الجنود البريطانيين لنا، وتفتيشنا دليلا على أهميتنا، وكان مرورنا من نقطة التفتيش، واحتكاكنا اليومي بالجنود البريطانيين قد جعلنا نجوماً مقارنة ببقية الطلاب.

وذات مرَّة، تعطَّلت سيارتنا، وتسبب عطلها في تأخيرنا، وعندما سألونا عن سبب تأخرنا، لم نقل لهم إن السيارة تعطلت، وإنما -ومن أجل أن نحافظ على نجوميتنا- رحنا نكذب، ونقول لهم إن اشتباكات حدثت في نقطة جولة "كالتِكس" بين الفدائيين وبين الجنود البريطانيين، وأن تلك الاشتباكات هي السبب في تأخيرنا؛ وبسببها كنا على وشك أن نفقد أرواحنا.

وكان أن راحت الأسئلة تنهال علينا، ورحنا بدورنا نجيب على أسئلة الإدارة، وعلى أسئلة الطلاب، ونواصل الكذب من دون خجل أو حياء.

وبالنسبة لي فقد كان مروري  يوميا بنقطة كالتِكس الملتهبة قد ألهب مخيِّلتي، وكنت عند عودتي إلى الفُرْن أحكي لربِّ عملي عن رحلتي اليومية إلى كلية "بلقيس"، وعما رأيته وشاهدته في النقطة.

وكثيرا ما كنت أحدثه عن أحداث لم تحدث، وعن وقائع لم تقع، وعن مشاهدات لم أشاهدها، وكنت أحكي بطريقة تثير لديه الدهشة، والرغبة في الضحك.

وكان رب عملي شخصاً طيباً لديه قابلية للتصديق، وقابلية أكثر للضحك، وكثيرا ما كان يقول لي وهو يضحك من قلبه:
- "أنت شيطان ياعبد الكريم".
   
وعندما عرف أن جدتي هي  التي أرسلتني إلى عدن لأواصل دراستي، قال لي إن جدتي لم تفعل ذلك معي إلا لأنها تعرف بأنني ذكي. وكنت أستغرب من قوله ذاك، فقد كان رسوبي في المعهد العلمي الإسلامي أكبر دليل على أنني غبي، لكن الحقيقة هي أن كلماته تلك عن ذكائي لامست شيئا في نفسي،  فبدأت باقتناء الصحف من الأكشاك، ورحت أقرأ صحيفة "الأيام"، وصحيفة "فتاة الجزيرة"، وصحيفة "الفضول"، ثم اشتركت في مكتبة "مِسْوَاطْ"، ومنها رحت أستعير القصص والكُتب، وأقرأها في وقت الفراغ.

ومع أن السينما كانت تراودني إلا أن وجودي في فُرْن العيدروس جنب أخي سيف، وصديقه شُبَاطَة، حال بيني وبين الذهاب إلى السينما. لكن، ربّ عملي فاجأني ذات يوم، وقال لي:
"ما رأيك -يا عبد الكريم- تجي معي السينما؟!".

وبمجرد أن ذكر لي السينما حتى سرت في جسدي قشعريرة رعب، وخفت من أن يعرف أخي سيف، وصاحبه شُبَاطَة، فقد كانا مثل كل أهالي قريتنا يكرهان السينما كُرها شديدا، ويعتبران كل من يذهب إليها غير جدير بالاحترام.

وعندما أعربت له عن مخاوفي من أخي سيف وصاحبه شُبَاطَة، راح يطمئنني، ويقول لي إن ذهابنا إلى السينما سر بيننا، ولن يعرف به أحد.   

وليلتها ذهبنا إلى سينما "بلقيس" في "حُقَّات"، وشاهدنا الفيلم الهندي "سانجام"، وكان فيلما رومانسيا أبهرني، وخرجت منه وأنا مبهور، وشبه مسحور، وبدت لي السينما الهندية أشبه ما تكون بالسحر، وأما الفيلم "سانجام" فقد بدا لي عملا من أعمال كبار السحرة.

ومن شدة إعجابي به، وبالممثلة الهندية، تذكرت البنت كافيتا في شارع الاتحاد، واشتقت لها، وعقدت العزم على زيارتها؛ بعد أن غبت عنها أكثر من عام.

مقالات

التنوير المظلم!

هذا العنوان، الذي اخترته بشكل يبدو متناقضًا، سبق وأن تم طرحه بأشكال مختلفة في أعمال فكرية مهمّة؛ مثل الاستنارة المظلمة، وفكر حركة الاستنارة وتناقضاته، وغيرها الكثير بعناوين أخرى تناقش المضمون نفسه، ومعظمها أعمال غربية، ويهمنا منها تلك الأعمال التي فرضت نفسها في العلوم الاجتماعية للتعبير عن المدرسة النقدية ولمواجهة المدرسة الوضعية؛ مثل بعض أعمال "ماكس فيبر" عالم الاجتماع الكبير والشهير، وأعمال مدرسة فرانكفورت، وعبدالوهاب المسيري عالم الاجتماع والمفكر العربي الذي يعد ضمن هذا التيار، ولكن بتجربة لها فرادتها وتميّزها وإضافاتها.

مقالات

نظرة اليمني لذاته في المرآة

تقريبًا لا توجد كتابة موجَّهة للعقل والعين معًا، باتت أغلب الكتابات في زمن الأضواء واستقطاب المشاهدين موجهةً للعين فقط، ولهذا لا تصمد، وتنتهي بمجرد انتهاء الموسم، ويختفي بريق الأسلوب والمضمون.

مقالات

علي محسن حميد وَاحدٌ من أبناء الثورة

في العام 1948، وفي مدينة النادرة، كانت ولادة علي محسن حميد، تلقى تعليمه الأولي في مكتب هذه المدينة التابعة للواء إب. واصل الدراسة في مدينة المفاليس التابعة لتعز؛ حيث كان والده أستاذًا في مدرستها. التحق بالمدرسة الأحمدية بتعز (القسم الداخلي) في 1956.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.