مقالات

أبو الروتي (8)

19/11/2024, 14:53:45

بعد أن وصلتني رسالة جدتي الغاضبة، التي تطلب مني فيها أن أخرج من المعهد العلمي الإسلامي وأدخل  مدرسة النصارى، بقيت حائراً لا أدري  كيف أتصرف!! ولا ماذا أفعل!!

كنتُ بعد دخولي السينما قد كرهتُ الدراسة، وتمنيتُ لو أن بمقدوري الذهاب إلى السينما بدلا من الذهاب إلى المدرسة.

لكني، ولشدة حرصي على إرضاء جدتي وعدم إثارة غضبها، قررت الذهاب إلى المدرسة، التي أوصتني بها؛ ولأني أجهل عنوانها رحتُ أسألُ الناس في الشارع عنها، ولم أكن أسألُ أي شخص أصادفه في طريقي، وإنما  أنتقي الرجل الذي يبدو لي من ملابسه بأنه متعلم، وكنت كلما رأيتُ شخصاً أنيقاً يلبس بنطلوناً، وفي جيب قميصه قلم حبر، أقتربُ منه، ورحت أسلِّم عليه، وبعد السلام كنت أسأله عن مدرسة النصارى، وأقول له:
"أين هي المدرسة حق النصارى؟!".

وكان بعضهم يُستفزُّ من سؤالي، ويلتفت إليّ التفاتةً غاضبةً؛ لكأني شتمته، وبعضهم كان ينهرني، ويقول لي:
"إمشِ من قدامي.. أنت باين ما فيش معك أهل يربُّمُوك".

وهناك من كان يقول لي إنه لم يسمع عن مدرسة بهذا الاسم.

وأكثر من واحد قال إنه سمع عنها، لكنه لا يعرف عنوانها.

وقال لي أحدهم إن المدرسة التي أسأل عنها موجودة في التواهي.

وثمة من كان يسألني، ويقول لي:
"ليش تسأل عن مدرسة النصارى؟ أيش تشتي منها؟".

وعندما أقول له إني سوف أسجّل فيها، يقول لي محذّرا:
"شوف لك مدرسة غيرها؛ لو تروح مدرسة النصارى با يُنصِّروك".

ولم أكن يومها أخاف من التنصير بقدر ما كنت أخاف من "الجَبَرْتْ".

وكان هناك من يخوّفني منهم، ويقول لي:
"يا وُلَيْدْ لا تخرج وحدك.. شوف واحد من أهلك يجي معك.. أنت في عدن.. ولو شافوك الجَبَرْت تمشي وحدك با يشمَّمُوك، ويشلُّوك لا بَنْجَلَة الشيطان".

ولم أكن قد سمعتُ عن "بَنْجَلَةْ الشيطان" هذه، وأما الجَبَرْت فكنت قد سمعت بهم وأنا مازلت في القرية، وفي تلك الأيام كانت الصحف العدنية وأئمة المساجد في خطب الجمعة والناس كلهم يتكلمون  عن "الجَبَرْتْ"، وعن "بنجلة الشيطان"، وعن الأطفال الذين يتم اختطافهم، وكذا عن الطلاب الذين يتم تنصيرهم في المدارس التبشيرية حتى أن أحدهم صرخ في وجهي قائلا:
"تشتي تدخل مدرسة النصارى على شان يخرِّجوك من دين الإسلام إلى دين الصليب".

وكانت كلمة الصليب جديدة عليَّ، فلم أفهم قصده، وسمعته يقول لرجل بجانبه:
"ما يجوز هذا، ما يجوز، أين هم أهله؟".

وراح يكلم الرجل عنِّي، ويقول له:
"هذا الابن الجاهل يسألنا عن مدرسة النصارى، الله أعلم من زاد علوه".

وصُعق الرجل، وقال لي:
"من هو اللي زاد علوك، وقال لك تروح تسجل بمدرسة النصارى؟!".

لكنّي بدلا من أن أدخل معهما في جدل، تركتهما؛ وواصلت السير، وعند اقترابي من البنك الأهلي رأيت رجلا نظيف الملبس يقفُ في الرصيف، وحين رحتُ أتفرّسُ في وجهه بدا لي وجهه مألوفاً، وشعرتُ كما لو أني أعرفه.

كان يلبس قميصاً أبيضَ، وبنطلوناً أزرقَ، وفي جيب قميصه قلم حبر، وحين سألته عن مدرسة النصارى ضحك ضحكةً أوجعتني، وجعلتني أنفرُ منه، وأبتعد عنه، وقلت  بيني ونفسي:
"هذا زنّاط، باين عليه عدني".

وكانوا قد قالوا لنا إن العدانية "زنّاطين"، يزنطون علينا، ويسخرون منّا -نحن الجبالية القادمين من الجبال ومن قرى الشمال- وينظرون إلينا بازدراء وباحتقار.

ثم وقد تركتهُ ومشيتُ، لحق بي، وقال لي، وهو يمسك بيدي:
" تعال يا بو الروتي ما تزعلش.. تعال بعدي وأنا أوريك مدرسة النصارى".

ولشدة غضبي، قلت له، وأنا أسحب يدي من يده: "فكّ لي".
 
كانت تلك أول مرة أسمع أحدهم يطلق عليّ "أبو الروتي"؛ وقد أوجعتني "أبو الروتي" هذه أكثر مما أوجعتني ضحكته الساخرة، وشعرتُ بأنه قالها عمداً ليهزأ بي، ويسخر منِّي.

قال الرجل، وقد شعر بزعلي: "ليش زعلت مني؟".

قلت غاضبا: "أول ضحكت عليّ، وبعدا تقول لي يأبو الروتي".

قال إنه لم يضحك عليّ، وإنما ضحك من اسم المدرسة.

وراح يصحِّح لي الاسم:
"اسمها البادري، وليس مدرسة النصارى".

أما عن "أبو الروتي"، فقال إنه لو كان يعرف اسمي لكان ناداني باسمي.

قلت : "من أين تعرفنا؟".
 
قال: "أنا ساكن قريب منكم، واشتري الروتي من حقكم الفرم".

قلت: "مش هو حقنا الفرم"؛
قلتها بغضب، لكن الرجل كان يبتسم من حماقاتي، وينوي مساعدتي.

وفيما رحنا نقطع الشارع، سألني عن هدفي من السؤال عن مدرسة "البادري"، فأخبرته  عن رغبتي في التسجيل فيها، وصمت الرجل، ولم يشأ أن يحبطني، ويقول لي إن مدرسة "البادري" لا تقبل الشماليين أمثالي؛ لكنه أيدى استعداده أن يأتي معي إلى المدرسة، ويساعدني.

ولحظتئذٍ، شعرتُ بوساوس، وبهواجس تغزو رأسي، وقلت بيني ونفسي:
"عدني ويشتي يساعدنا، أكيد له غرض!!".

وتذكرتُ كلام شباطة، فازدادت وساوسي، وهواجسي، ومخاوفي منه، وقلتُ له:
"لمو شتساعدنا، وانت لا أنت تقرب لي، ولا أنت من قريتي؟".
 
قال: "أنت سألتنا عن المدرسة، وأنا مستعد أساعدك، وأجي معك، ومش ضروري أكون قريبك، أو من قريتك!!".

قلت: "وبعد ما تجي معي، وتساعدنا، أيش تشتي مني؟".
 
قال: "أيش أشتي منك!! ولا شيء".

ومع أن كلامه لم يبدّد شكوكي وهواجسي، إلا أني كنتُ بحاجة ماسة إلى مساعدته.

 وفي طريقنا إلى المدرسة، سألني الرجل العدني، وكان  اسمه نجيب؛ وقال لي -بعد أن أخبرته باسمي:
"ليش -يا عبد الكريم- تشتي تدرس بالبادري؟ ليش ما تدرس في مدرسة بازرعة، أو في المعهد العلمي الإسلامي؟".

قلت له:
"قا كنتو سجلتو بالمعهد العلمي الإسلامي، لكن جدتي تشتينا أدرس بمدرسة النصارى".

وضحك نجيب ثانيةً، لكن هذي لمرة كنت قد فهمتُ سبب ضحكته، وقلتُ مصححاً الاسم:
"مدرسة البادري".

قال لي وهو مستغرب من كلامي عن جدتي:  
"هل جدتك درست، وتعلمت؟".

قلت: "لا".

وسألني: "هل هي موجودة في عدن؟".

قلت: "جدتي بالقرية".

وبدا كأنه لم يصدقني، وكيف له أن يصدق بأن امرأة أمية في قرية من قرى الشمال المتخلف، والمعشعش فيه الجهل، تبعث بحفيدها إلى عدن لغرض الدراسة، وتوصيه أن يلتحق بمدرسة "البادري" دون غيرها!!

وسألني نجيب، وقال لي: "ليش جدتك تشتيك تدخل مدرسة البادري؟".

قلت له: "أخي درس بها، وجدتي تشتينا أكون مثله على شان أتكلم نصراني، وأشتغل مع النصارى".

وراح الرجل يصحح كلامي ويقول لي:
"النصارى -يا عبد الكريم- ما يتكلموا نصراني".

قلت له: "وايش يتكلموا؟!".

 قال: "يتكلموا إنجليزي". ولحظتها شعرت بالحرج من جهلي، ومن جهل جدتي.

وفي طريقنا، التقى الرجل العدني بصديق له، ورأيتُ صديقه ينظر إليّ نظراتٍ أخافتني؛ وسرعان ما راح الاثنان ينزويان بعيدا عنّي، ويتكلمان بصوتٍ لا يكادُ يُسمع، حتى لقد شعرت كما لو أنهما يتآمران عليّ.

وكان ما فاقم من مخاوفي وشكوكي هو أن صديق نجيب كان أسود البشرة، وكنتُ قد سمعتُ بأن "الجَبَرْت"، الذين يختطفون الأطفال، هم من السود.

ولحظة رأيتهما يتكلمان همسا، ذهب بي خيالي إلى أقصى حدود الرعب، حتى لقد بدا لي ذلك المبنى الغريب (مبنى المجلس التشريعي) الواقف فوق تلك الصخرة الشاهقة بأنه "بَنْجَلة الشيطان"

وفيما كان عقلي يُوسوس لي أن أهرب، عاد نجيب إليَّ، وسألني عن قريتي، وهل فيها مدرسة، فقلت له: فيها مدرسة، وذكرت له اسمها: "مدرسة البعث".

وبدا مستغربا، لكأنه لم يصدقني، لكني -هذه المرة- كنت أحمل معي شهادة انتقالي من صف ثالث إلى صف رابع، وعندما أبصر الشهادة، وقرأ الاسم، قال لي:
"هل في قريتكم ناس بعثيين؟".
 
قلت مستغربا من سؤاله:  "بعثيين!!".

وشعر نجيب بأني لم أفهم سؤاله، فقال لي:
"هل في بقريتكم ناس في حزب البعث؟".

ولما تأكد من جهلي، وبأنه لا علم لي، لاذ بالصمت.

وعند وصولنا "البادري"، تبين لي بأنه شخصٌ معروفٌ، فجميع من قابلهم وسلَّم عليهم  كانوا يعرفونه، بما في ذلك المدير الذي استقبله في مكتبه بحرارة.

ومع المدير تكلم نجيب باللغة الإنجليزية، وحكى له حكايتي، وكيف أن جدتي أرسلتني من القرية لأدرس بمدرسته، لكن  المدير، الذي بدا منتشياً وسعيداً بما سمعه منه عن مدرسته، لم يوافق على قبولي؛ محتجا بقانون المدرسة، وحينها فقط قال لي إن المدرسة لا تقبل الشماليين القادمين من شمال اليمن.

وعندما قال لي ذلك، كدت انسحب واغادر، وأكتب لجدتي أخبرهر بأن مدرسة النصارى لم تقبلني، وأذكر لها السبب؛ لكني ما لبثت أن تذكرت كلامها مع نساء القرية، وقلت لهما:
"أخي -عبد الحليم- درس بمدرسة النصارى".
 
وبعد أن قلتها شعرتُ بحرج شديد؛ كوني مازلت أردد الاسم الخطأ، الذي أطلقته جدتي على أشهر مدرسة في عدن، لكن نجيب لم يضحك هذه المرة، وإنما قال للمدير باللغة الإنجليزية إن لي أخاً اسمه  عبد الحليم درس في "البادري"، وتخرج منها.

ولحظتها، استدعى المدير أحد الموظفين، وطلب منه أن يبحث في الإرشيف عن ملف الطالب عبد الحليم، ويأتيه به.

وأثناء الانتظار، راح الاثنان (المدير ونجيب) يواصلان الكلام، وأنا على قلق، ثم وقد عاد الموظف قال المدير مخاطبا نجيب - وهو يتفحص الملف - إنه لا يمكن قبولي في مدرسته.

وراح نجيب يترجم لي كلام المدير، ويقول لي:
"أخوك -عبد الحليم- درس في البادري؛ لأن عنده مَخْلِقَةْ أنت ما عندك".

ولم أكن أدري لحظتها ما هي المخلقة، وشرح لي نجيب، وقال لي:
 "المخلقة شهادة بأنك من مواليد عدن".

وعندها قلت لهما إن أخي -عبد الحليم- وُلد في القرية، وليس في عدن.

وضحك نجيب، الذي كان قد صار وكيلي والمتحدث باسمي، وراح يحاول مع المدير إلى أن أقنعه بقبولي.

ثم وقد تم تسجيلي، قال لي:
"الآن ما عاد باقي إلا تدفع الرسوم".

قلت: "بكرة أجي ومعي الرسوم".

وحين سألني عمن سيدفع لي رسوم المدرسة،  قلت له:
"أخي عبد الحليم".
 
-قال لي: "أين يشتغل؟".
 
-قلت له: "يشتغل بالتواهي، عند النصارى".
 
وبعد خروجنا، رحت أشكره، لكنه وقد عرف بأنني ذاهب إلى التواهي، سألني إن كنت أعرف من أين يركبوا إلى التواهي؟ فقلت له:
"أيوه أعرف".

لكن الحقيقة هي أني استحيت أقول له إني لا أعرف.

ومع أن محطة الباصات كانت على بُعد خمس دقائق من المكان الذي نحن فيه، إلا أنني بقيت اخبط اكثر من ساعة.

وفي الساعة الحادية عشرة ظهرا، ركبتُ الباص المتجه إلى التواهي، وعند وصولي المحل استغرب أخي عبد الحليم من مجيئي في ذلك الوقت، وكان أن صعد بي إلى سطح المبنى  المطل على البحر، وعلى السفن والمراكب، وأمام ذلك المنظر الساحر سألني عما جاء بي، وعن الهدف من زيارتي له، وعندها قلت له:
 "سجلت بمدرسة البادري، وطلبوا مني رسوم الدراسة".

وأمام ذلك المنظر الساحر، أرخى أخي -عبد الحليم- يدهُ ولطمني لطمةً لا مبرّرلها، حتى لقد دار البحر في رأسي، ودارت السفن والمراكب.

ويومها خرجتُ من عنده، وأنا منكسر وحزين وموجوع من لطمته تلك.

وكان أول شيء فعلتهُ، حين وصلت بيت الحاج عبد الله في كريتر، هو أنني أخذتُ المرآة وقرّبتها من وجهي لارى أثر اللطمة على خدي؛ لكني لم أرَ في المرآة سوى الدموع.

مقالات

ترامب ونتنياهو وصفقة القرن

ربما كانَ من الأنسب أن يكون عنوانَ هذا المقال «نتنياهو وترامب وصفقة القرن». فنتنياهو مؤلف كتاب «مكان بين الأمم»، والذي تُرجِمَ إلى «مكان تحت الشمس» هو الأساس. فـ«صفقة القرن»، وما تشربه ترامب منها، وصرّح به هي المبادئ الأساسية لـ«السلام من أجل الازدهار»؛ فمصدرها كتاب «مكان تحت الشمس»، وفي 28 يناير أعلن الرئيس الأمريكي، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، نص الصفقة.

مقالات

حلفاء أم محتلون؟

الأوضاع الاقتصادية الكارثية، التي نعاني منها اليوم، ليست سوى انعكاس أكثر بؤسًا وكارثية لوضع سياسي مخجل.

مقالات

من اليمن إلى العالم.. حينما تتحدث الموسيقى

الإبداع الفني ليس مجرد انعكاس للمهارة، بل هو ظاهرة اجتماعية تتشابك مع ثقافة المجتمع وتاريخه وقيمه، في هذا السياق كان الحفل الأوركسترالي اليمني في العاصمة السعودية (الرياض)، الليلة الماضية، الذي حمل طابعًا ثقافيًا عميقًا، حيث قدّم المايسترو اليمني محمد القحوم، وفريقه الموسيقي، عرضًا أوركستراليًا فريدًا احتفى بالموروث اليمني ضمن إطار فني عصري يعكس تاريخ اليمن وثقافته العريقة والمتنوعة.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.