مقالات
العَصّادَة حَمَام نَاشِر (2-2)
كان العاقل بجاش شديد الإعجاب بها وبعصيدتها، وعندما كان يأتيه عسكر من الحكومة، أو يأتيه ضيوفٌ يشعر بأن من واجبه أن يكرمهم، ويقدّم لهم عصيدة من عملها، وكثيرا ما كان ينادي ابنه حكيم، ويقول له كلما وصله عسكر أو ضيوف:
"روح -يا حكيم- لا عند حَمَام ناشر، وقلْ لها تجي تعصد".
وكانت حَمَام ناشر تأتي وتعصِد، وزوجته مَلاك تحبِس غضبَها في صدرها، وذات يوم -وقد نفذ صبرها- انفجرت، وقالت لابنها حكيم، وعمره سبع سنوات:
"لو تروح تدعي حَمَام ناشِر تجي تعصِد للضيوف، والله لا اقتلك".
ثم التفتت جهة العاقل، وقالت له وهي في ذروة غضبها:
"لمو تشا حَمَام ناشر تجي تعصِد للضيوف؟!".
قال لها العاقل بجاش:
"على شان تعاوِنك، وتربِّخ عليك".
قالت له، وقد فاقم كلامه من غضبها:
"مو تقول يا عاقل!! تجي تعاونِّي، وتربِّخ عليَّ، تحسبني هبله ما نيش داري!!".
كان لديها خوف من أن يفقد زوجها العاقل عقله ويطلقها، ويتزوج بها، وكان خوفها ذاك قد سمَّم حياتها، لكنها رغم خوفها منه، لم يحدث أن خافت أو شكَّت بالعصَّادة حَمَام ناشر، كانت ماتزال تستقبلها في بيتها، وتقدِّم لها القهوة والحلوى، ولا تصدق كلام النساء عنها، وعن كونها تتربص بزوجها، وتخطط لخطفه منها.
وكانت حَمَام ناشِر دائمة السؤال عن العاقل، تسأله عنه، وعن حاله، وتقول له كلما صادفته في طريقها أو عندما تأتي إلى بيته:
" كيف حالك يا خال بجاش؟!".
ولم يكن العاقل خالها، لكنها كانت تناديه يا خال من قبيل الاحترام، وعندما كانت النساء ينتقدنها لظهورها أمامه وهي بكامل زينتها، تقول لهن:
"يا نسوان العاقل بجاش عاقل القرية، وهو مثل أبي، مُوْ حرام لو ظهرتُو قُدّامُه واني مُحَوْمَر ومُبَوْدَر!!".
كان زوجها رشاد نعمان يحب الحياة والمرح والفنون بأنواعها، ومن حبه للرقص والغناء علمها تَرقص وتغنِّي، وكان الرقص والغناء هما عملها، بالإضافة إلى عمل العَصِيدة، أما بعد موته فقد كان الوقت كله ملكها، وتحت تصرفها، وكانت ما تنفك تقول للنساء اللاتي يَعِبْن عليها انشغالها بالرقص والغناء، وباللهو والمرح:
"أنتن -يا نسوان- معاكن أرض، ومعاكن أزواج، أني ما فيش معي لا أرض ولا زوج".
كانت بيضاء بياضاً مُشْرَبـاً بحُمرة، حتى إنها عندما تطلي شفتيها بأحمر الشفاه تبدو فاتنة وأكثر جمالا من كل الجميلات، وكان العاقل بجاش كلما أبصرها تدخل بيته وشفايفها مطلية بالأحمر يسيل لُعَابَه، ومعه يسيل عقله.
وذات يوم، وقد حضرت لتزور زوجته مَلاك، بُعَيْدَ ولادتها، دخل العاقل بجاش وقال لزوجته مَلاك بأنه سيبكِّر في الصباح يحرث في الوادي، وليس هناك من سيلقي البذور في الأثلام:
قالت له زوجته ملاك:
"حَمَام ناشر شتجي معك تذري".
والتفتت ناحيتها، وقالت لها:
"روحي اذري بدلي يا حَمَام أني فدا لك".
وفي الصباح، وقت شروق الشمس، خرج العاقل بجاش من بيته حاملا المحراث، وراح يسوق الثورين اللذين سيحرث بهما، ومن خلفه سارت حَمَام ناشر، وهي بكامل زينتها، وكأنها في يوم عيد، أو كأنها ذاهبة إلى عُرس، وعندما أبصرها أهل القرية تسير خلف العاقل بجاش، وهي بكامل زينتها، راحوا يتغامزون ويقولون:
"موذا؟! مو قافي؟! ما له العاقل؟!".
وحين تناهى إلى سمعهم صوتها، وهي تغنِّي جن جنون أولئك الذين يتمنونها زوجة لهم، وقالت النساء:
"حَمَام ناشر قليلة حياء".
ومن يومها لا أحد يدري ما الذي جعل ملاك زوجة العاقل بجاش تقطع علاقتها بها، وتمنعها من دخول بيتها بعد أن كانت تستقبلها بالقهوة والحلوى، وكان العاقل يحلف لها بأنه لم يحدث بينهما شيء في الوادي، لكن نساء القرية من كراهتهن لها رحن يختلقن حكايات وروايات؛ منها أن العاقل بجاش ذهب يومها إلى وادٍ غير الوادي، وحرث بسكة محراثه أرضا ليست أرضه، وغرس بذرهُ في حَوْلٍ ليس حوله، وقلن إن حَمَام ناشر لم تذرِ يومها، وإنما العاقل هو الذي ذرى وبذر. وكان كلامهن يصل إلى زوجته ملاك فتتألم وتبكي بصمت.
وكانت نساء القرية كلما دخلن عليها، ووجدن وجهها مغسولا بدموعها، يتعاطفن معها، ويزددن كراهية للعَصّادة حَمَام، حتى إنهن من كراهيَّتهن لها كن كلما تناهى إلى مسامعهن أن أحدهم تقدم لخطبتها يعتريهن شعور بالفزع، ويتفقن فيما بينهن على أن يُفشِلن الزواج بأيِّ طريقةٍ كانت، ولم يكن لديهن مانع في أن تتزوج من رجلٍ غريب يأخذها بعيدا عن القرية، ويخلِّصهن منها، ويحقق أمنيتهن ودعواتهن عليها.
لكن ما حدث هو العكس، مرضت ملاك زوجة العاقل، وأسعفها ابنها الكبير إلى المدينة، ولم يستطع الأطباء أن يشفوها من مرضها، وكان أن عادت إلى القرية وهي أشد مرضاً، وليلة عودتها راح العاقل يحوم حولها، وكله شوق، لكن ملاك قالت له، وهي تتوجع وتتألم:
"أني فدالك يا عاقل لا تقربش جِنَابي".
واقترب العاقل منها وراح يلامسها، وكانت هي تتألم من لمساته، وتتوجع، وتتوسل إليه أن يرحمها:
"أني مريض -يا عاقل- إرحمني".
لكن العاقل، الذي كان عقله في رأس ذَكَرِه، ظنَّ بأنها راغبة وتتمنّع مثلها مثل أي امرأة تعود من المدينة. وليلتها، وقد دخل عليها، ودخل فيها، شهقت شهقة الموت، وخرجت روحها.
وفي صباح اليوم التالي، شاع خبر موتها، وبكتها القرية كلها، وكعادتهن ألقت النساء باللوم على حَمَام ناشر، واتهمنها بأنها السبب في مرضها وموتها، لكن النساء اللاتي قمن بغسلها عرفن بأن العاقل جامعها، ولم يرحمها، فكان أن ألقين باللوم عليه، ورحن يتهمنه بالقسوة، وعدم الرحمة.
وعندما عرفت مِسْك علوان أن العاقل بجاش جامع بنتها مَلاك ليلة، وهي في أشد مرضها، أجهشت بالبكاء، وراحت تدعو الله أن ينتقم لبنتها منه:
"ربي -إن شاء الله- شِحَوِّل لك بمَرَةْ تفعل بك مثلما فعلت بملاك بنتي".
وبعد مرور أربعين يوما على وفاة زوجته مَلاك، شاع الخبر في "قرية العكابر " بأن العاقل بجاش تزوَّج العَصّادة حَمَام ناشر، وكان أن هاجت نساء القرية، وانتفخت صدورهن مثل بالونات من الغضب، وازددن كراهية لها.
وأما حَوْقَلة أم عبده قاسم فراحت تصرخ من سقف بيتها، وتقول بكل صوتها بأن حَمَام ناشر سمَّمت مَلاك، لكيما تتزوج بالعاقل بجاش.
وبزواج العاقل من حَمَام ناشر صار الاثنان: العاقل وحَمَام، هدفا لغضب نساء القرية وسخطهن، وأما الرجال والفتيان، الذين كانوا يتمنون الزواج بها، فقد حسدوا العاقل في قرارة أنفسهم، لكنهم في العلن راحوا يتهكمون عليه، ويسخرون منه، ويبشِّرونه بقرب أجله:
"قرب أجلك -يا عاقل بجاش- من قال لك تتزوج حَمَام ناشر؟!".
وكان العاقل يضحك من كلامهم، ويقول لهم:
"قلت أخليها لكم الشباب، لكن أنتم عيال أمهاتكم، تسمعون كلامهن، وتصدقوهن".
قالوا له: "نحنا شباب أنت قدك شيبة، ولو مِت بعد سبع سنين الزايد عندك".
وقال له بعضهم: "حَمَام ناشر منشار با تنشرك يا عاقل في سبعة شهور".
ومثلما كان رجال وفتيان القرية يسخرون من عاقل قريتهم، ويتهكمون عليه، ويخوفونه كانوا في الوقت نفسه يتهكمون على حَمَام ناشر ويسخرون منها، ويقولون لها:
- "مو صنّف لك -يا حمام- تتزوجي العاقل بجاش، وهو شيبة؟!".
وكانت حَمَام ناشر تقول لهم:
"شيبة ولا كل الشباب".
يقولون لها: "لكن حقُّه ناطِل مثل أذن العنز".
تقول لهم: "والله إنه بالليل يرتكز مثل منارة جامع ابن علوان".
ومن حين تزوجها العاقل بجاش، وهم يحسبون ويعدون الأيام والأشهر، وبعد مرور عام على زواجه، قالوا له:
"باقي من عمرك ست سنين يا عاقل".
وبعد مرور عامين، قالوا له:
"باقي من عمرك خمس سنين يا عاقل".
وكان العاقل يضحك، ويقول لهم إن ساعة مع حَمَام ناشر تساوي سنة من عُمر الواحد منهم. وسنة معها تساوي عُمُرا.
وكان ذلك يغيظهم، ويفاقم من حسدهم، لكن وكيل الشريعة حَمود السَّلتُوم كان أكثرهم حسدا، وكان ينتظر بفارغ الصبر مرور السبع السنوات؛ ليرى نهاية العاقل بجاش.
لكنه لسوء حظه مات، والعاقل مازال يعيش، وقد تفاجأ أولئك الذين خافوا، وأحجموا عن الزواج بالعَصّادة حَمَام ناشر بأن العاقل بجاش لم يمت رغم مرور السنوات السبع، وأما حين أبصروه، وهو بكامل صحته وعافيته، فقد زعلوا من أمهاتهم اللاتي خوفنهم من حَمَام ناشر، وشعروا بأنهن خدعنهم، وكذبن عليهم، وقالوا إن كراهيَّتهن لها أفقدتهن صوابهن وجعلتهن يصدرن أحكاما ظالمة في حقها.
وأما الفتيان منهم فقد راحوا يقتربون من العاقل بجاش الذي كان حينها في السابعة والتسعين، وراحوا يسألونه عن السبب في أنه لم يمت رغم زواجه بالمرأة المنشار حَمَام ناشر؟!
رد عليهم العاقل بالكلام نفسه الذي كانت تقوله حَمَام ناشر:
"أبُتكم كانوا يعاجلوا مع نسوانهم، وكانين يزعلين منهم، ويدعين عليهم، ويقولين لهم:
لِمَوْ تِعَاجِلوا ربنا يعجِّل بأيامكم،
وربنا كان يعجل بأيامهم، وكانوا يموتوا قبل أمهاتكم".
قالوا له: "وانت يا عاقل؟!".
قال: "أنا كنتُ أبطِي واطوِّل مع نسواني، وكانين يفرَحين، ويدعين لي، ويقولين:
ربنا يطوِّل بعمرك يا عاقل بجاش".
ويومها أدرك شباب القرية أن البطء فضيلة، والعجلة رذيلة، ومن حينها راحوا يتعلمون من العاقل بجاش فلسفة البطء، ويبطئون في جماع زوجاتهم.
وفي المقابل، راحت زوجاتهم يسرعن في تجهيز وتقديم العصيدة لهم، ورحن يطلبن من بناتهن أن يذهبن إلى بيت العاقل "بيت العصيد"؛ ليتعلمن من زوجته حَمَام ناشر ألف باء العصيد، وأسرارها، وأركانها.
وفي خلال ثلاث سنوات، كانت العَصَّادة حَمَام ناشر قد علمتهن ومحت أميتهن، وصارت كل بنت في قرية "العكابر" تعصد مثل أمها، وأفضل من أمها.
وبعد أن كن يعصدن بدون رغبة، صرن يعصدن بحب، وصارت العصيدة وجبة مقدَّسة يعشقها الكبار والصغار؛ النساء والرجال، ومن حبهم للعصيدة صاروا يأكلونها في كل وقت، وفي كل عرس، وفي كل عيد.
وأما حَمَام ناشر، التي كانت في نظر أهل القرية رأس الفتنة، أضحت حمامة سلام، وكان الحب والغرام بينها وبين العاقل بجاش قد انتقل بالعدوى إلى كل بيت.
لكن العاقل بجاش، وقد بلغ المئة عام، مرض مرضا شديدا، وأسعفه أكبر أولاده إلى المستشفى نفسه، الذي أسعفت إليه زوجته ملاك، لكنه مثل زوجته ملاك عاد إلى القرية وهو أشد مرضا.
وليلة عودته، اقتربت منه زوجته حَمَام ناشر، وهي بكامل زينتها، وبكامل رغبتها، وراحت تلصق به، وتقول له:
"مشتاق لك يا عاقل".
قال لها العاقل بجاش، وهو يتألم:
-"أنا مريض يا حمام مرض الموت".
قالت له وهي تزداد التصاقا به: "والله إنك عادك شتتعمر مية سنة فوق المية".
وراحت تلامسه وتقبله وتتحرش به، وهو يؤكد لها أنه مريض، وليس بمقدوره أن يفعل ما تريده منه.
قالت له، وهي تلامس الأماكن الحساسة من جسده:
-"والله انك تقدر يا عاقل.. اني داري بك، وداري مو معي".
قال لها، وهو منزعج منها، ومن تمسّحها به:
" قلت لك أنا تعبان يا حمام.. تعبااااان ما تصدقيناش".
قالت، وهي منزعجة من تمنُّعه:
-"أكَّهْ مو شُوْقَع يا عاقل لو عملنا!!".
قال لها العاقل بجاش، وهو يتوجَّع من مرضه:
"يا حمام، ارحمينا، قلتو لك أنا مريض بالموت".
قالت، وهي تمسكه من أضعف نقطة فيه: "داري يا عاقل إنك مريض، ومصدقك، لكن أنت مريض، ولا علوك شي، ارقد بس على ظهرك، والباقي علي".
ولأنه يحبها، استسلم لها، وامتدَّ على ظهره، ولم يقم بعدها.
وفي الصباح، شاع خبر موته، وقيل إن روحه خرجت من ذكَرِه، وخرج معها دمٌ غزير.