مقالات
العم سعيد .. قُبلة وداع
نجمٌ آخر في فلك سبتمبر وأكتوبر يترجَّل. وعلمٌ آخر من الأعلام، التي تأسست على مداميكها خيمة الوطن، يُحفظ في ذاكرة التاريخ. وهو اسمٌ جدير بذلك، ورقمٌ يستحقه تماماً.
للأستاذ سعيد أحمد إسماعيل علي الجوفي الأغبري الجناحي رصيد نفيس جداً في غير مجال من مجالات النضال السياسي السلمي وميادين الفكر والكلمة والتاريخ الوطني المُوثّق. والعناوين، التي أنجزها للمكتبة الوطنية، تستحق الوقوف قبالتها ملِيَّاً ومراراً، ولعمري يكفيه منها الزاد الوثائقي الموسوعي الموسوم "الحركة الوطنية اليمنية من الثورة إلى الوحدة".
للعم سعيد (المولود في أغابرة الحُجرية العام 1937) سِفْر نضال شهدته عدن وصنعاء - منذ خمسينات القرن الماضي - كأحد شباب حركة القوميين العرب، مع رفاق دربه: عبدالفتاح إسماعيل، وفيصل عبداللطيف، وسلطان أحمد عمر، وقحطان الشعبي، وعبدالقادر سعيد أحمد طاهر، وآخرين عديدين.
ولم يتوقف مشواره في هذا الدرب أبداً، لا بعد انتصار ثورة 26 سبتمبر ولا إنجاز استقلال 30 نوفمبر، ولا قيام وحدة 22 مايو، فقد كان دائماً ما يتخلَّف عن ركب المناصب، ويتقدّم في ركب المواكب التي ألقت بالمناضلين الحقيقيين في شَرَك المصائب!
ولم أجد ثمة ضرورة حقيقية للتنويه بسيرته العطرة في عناوينها المُبهرة ومحطاتها الباهرة، فتلك - كلها أو جُلها - مطبوعة ومبثوثة في وسائط الإعلام وأقنية الصحافة ومراجع المكتبات ومصادر المراكز، ووثائق صدر بعضها والآخر ينتظر، ويحتفظ السيّد "جوجل" بقدر كبير منها، كلها بالمفردات الغليظة والبنوط العريضة.
وقد قال لي يوماً - على هذا الصعيد - إنه لن يترك شيئاً من وثيقة ولا قدراً من حقيقة إلاَّ ويكرع به إلى النور قبل أن يدركه ملاك الموت، فقد شهد وشاهد ما يحدث لبعض كنوز التاريخ السياسي الوطني من مصير حقير، وكنا يومها نتحدث عمّا حدث لبعض محفوظات العزيز الراحل سعيد محمد الأبّي "عبدالوارث"!
فقط، في هذه اللحظة الدامعة بالذات، أحاول أستعيد ذكرى مواقف شخصية وأُسرية ومهنية واجتماعية جمعتني بالعم الأستاذ الرفيق الزميل الصديق سعيد، منذ أن جمعتني به علاقة خاصة منذ أواخر العام 1985. ويسقط بي فلاش الذكرى - مثالاً - إلى ليلة 28 ديسمبر 1986، والعم سعيد يتقدّم نحوي باعتباره الصديق الوحيد الذي جاء ليلتها إلى حفل عُرسي (هو وابنة عمه الصديقة العزيزة آسيا عبدالفتاح إسماعيل)، حاملاً باقات الورد لي ولعروسي، مع هدية جميلة وثمينة. لم يكن يومها ثمة محلات لبيع الورد في عدن حسب علمي، فسألته مُمازحاً: من فين نهبتها يا شيبة؟.. أخبرني بأنه قطفها من حديقة منزل أحد الأصدقاء الأعزاء.
ولازلت أتذكر نقاشاته الحيوية والساخنة مع العزيز الراحل الأستاذ المناضل يوسف الشحاري والصديقين عبدالواحد المُرادي وعبدالرحيم محسن وآخرين، في مقيل منزلي بصنعاء، كل يوم خميس منذ العام 1991 ولعدة سنوات تالية. وثمة جلسات مماثلة في شقته في عدن، أو في مكتبة منزله العامرة في صنعاء، أو في مكتب صحيفة الأمل في عدن قبل وبعد توقفها.
وأتذكر أشياء وأشياء وأشياء، تُرهق الذاكرة وتُحزن السريرة وتقهر النفس، فقد ولّى زمن جميل للغاية - بأشيائه وأشخاصه وأحداثه ووقائعه - وحلَّت بدلاً عنه أمور تُدمي وتُدمِع وتقمع، أكان على صعيد الذات أو الموضوع، فالذين رحلوا - لعمري - هم الأجمل في كل شيء.. في كل شيء!
كان العم سعيد قد انقطع عنا منذ فترة ليست بالقصيرة، جراء متاعبه الصحية الشديدة. ولم نستطع اللقاء سويةً إلاَّ في ضيافة العزيز الراحل علوان سعيد الشيباني - قبل نحو عامين - في فندقه "شهران" بصنعاء.
ويومها كانت جلستنا تضجّ بالشكوى من متاعب صحية تعمّقت لديه، فيما كانت بادئة عندي. وقد أرهقته تلك المتاعب كثيراً في السنين الأخيرة الماضية من حياته، مثلما آلمته متاعب أخرى مصدرها بعض الساسة وبعض الناس الكُناسة!
للعمة حُسْن وللعزيزين جميلة وأحمد وأخوتهما جميعاً وجميع أفراد الأسرة الكبيرة الكريمة كل العزاء الجميل الجليل.
عزائي لرجل أجمل من الصداقة، وأكبر من مجرد ذكرى، وأكثر من علاقة مهنية ورفاقية، وأنبل من مشوار إنساني، في زمن وفي يمن لم تعد لمفردات الصداقة والرفاقية والإنسانية وحتى المهنية معنى حقيقي، بعد أن صار كل شيء في هذا الوطن وفي هذي الحياة مجرد مجاااااز!