مقالات
العيد الواحد والستون ومجد الثورة
يحتفل شعبنا اليمني اليوم بالعيد الواحد والستين لثورة الرابع عشر من أكتوبر 1963. كانت ثورة الاستقلال ثمرة كفاح مدني عمالي وفني وصحفي، ونشاط ثقافي وأدبي، وحوارات سياسية وأدبية وفكرية، شهدها اليمن شمالاً وجنوبًا منذ ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي.
تمثل هذا بالحركة النقابية العمالية في عدن في الصدارة، والصحافة العدنية وباكورتها الأولى «فتاة الجزيرة»، وصحافة المهجر «السلام» في كارديف، والصحافة الحضرمية في شرق آسيا، والصحافة العدنية، والنضال النسوي، والتعليم الحديث، ودور المغتربين والطلاب، ومن ثم رياح القرن العشرين التي هبت على أمتنا العربية.
سطع فجر السادس والعشرين من سبتمبر 1962 على المتوكلية اليمنية ذات النظام القروسطي، كما أن ثورة 23 يوليو المصرية فتحت الأبواب في الشمال، وكسرت الحواجز، وفتحت النوافذ أمام رياح العصر، وكانت تحولاً نوعيًّا في الكفاح الوطني لاستقلال الجنوب.
استهانة بريطانيا بالكفاح السياسي والنضالات المطلبية للعاملين نقطة البداية. وحقًّا، فإن أثر النضال العمالي، والأحزاب السياسية، ودور الصحافة العدنية، والوعي الذي راكمه التعليم الحديث، وهبوب رياح العصر على حركات التحرر الوطني- كان الرافعة لمناضلي الـ14 من أكتوبر 1963 الذين انطلقوا من جبال ردفان كتعبير عن الإرادة القومية للخلاص من الاستعمار البريطاني.
لم تمضِ إلا بضعة أعوام حتى كانت أحياء عدن وشوارعها تحتضن المناضلين لميلاد فجر التحرر والسيادة والاستقلال.
كانت ثورة الرابع عشر من أكتوبر الرد العملي على محاولات دحر الثورة في الشمال، وفرض عودة الملكية بالقوة، وقد تصدى ثوار أكتوبر للمؤامرات الاستعمارية البريطانية والأمريكية والرجعيات العربية لقهر الثورة السبتمبرية في الشمال ووأد ثورة الرابع عشر من أكتوبر في الجنوب.
انتصرت ثورة الـ14 من أكتوبر في الجنوب في الثلاثين من نوفمبر 1967؛ أي بعد بضعة أشهر من هزيمة 1967؛ فكانت هزيمة بريطانيا الضالعة مع أمريكا إلى جانب إسرائيل في هزيمة الأمة العربية- هي الرد القوي على الهزيمة؛ وهو ما عبر عنه الزعيم العربي جمال عبد الناصر للوفد الزائر من صنعاء بعد كسر الحصار وهزيمة الملكيين.
حققت الرابع عشر من أكتوبر إنجازات عظيمة في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، ومن أهمها الحفاظ على السيادة والاستقلال وبناء أنموذج للتحرر الوطني في مستوى كوني، وكان العدل الاجتماعي، ومساواة الرجل والمرأة في سن قانون أسرة يمثل الأنموذج الديمقراطي الأرقى في الوطن العربي والعديد من بلدان العالم، وقد قطع الجنوب شوطًا بعيد المدى في التعليم الحديث، ومكافحة الأمية، وبناء جيش وطني حديث ومُسَيَّس ودارس.
وحقًّا، فإن الثورتين اليمنيتين: 26 سبتمبر 1962 و14 أكتوبر حققتا إنجازات لا يُستهان بها في الانفتاح على العصر، وإحداث نقلة مجتمعية في الحياة العامة وبناء الكيانين الوطنيين، والخلاص من نظامي الحكم الرجعي والاستعماري البريطاني.
إنَّ إيجابيات الثورة اليمنية سبتمبر، وأكتوبر لا يمكن دفنها أو نسيانها، ولكن الأخطاء الكبيرة والكاثرة هي ما يجب دراستها والوقوف بصدق وشجاعة أمام مساءلتها وقراءتها بدقة ونقدها بموضوعية. كثيرًا ما ردد الرفاق في الحزب الاشتراكي أنهم الحزب الوحيد الذي انتقد نفسه وتجربته؛ وهم صادقون في ذلك، إلا أن نقدهم كان محدودًا وخجولاً، ويكاد ينحصر في النقد داخل مسار الحزب وأخطائه ضد نفسه، ولم يصل النقد إلى عمق الأزمة.
كان جوهر المشكلة الاحتكام إلى السلاح وتصفية الحساب به مع المختلف، والاعتقاد أن السلاح -والسلاح وحده- هو من أوصل الجبهة القومية إلى الحكم، إضافةً إلى حظر الأحزاب، وإدارة الظهر للمجتمع المدني- المدماك الأساس لتحقيق الاستقلال، ومصادرة الحريات العامة والديمقراطية، وتغليب المجتمع الأهلي على المدني، ومصادرة حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة حتى المؤيدة منها أو الناقدة بحرص كـ «الأيام»، و«فتاة الجزيرة».
كان المفكر العربي الدكتور أبو بكر السقاف -ضمن قلائل- تصدى لنقد التجربة بعمق ومسئولية؛ فقد كتب في العام 1995 مقاله الناري «في ذكرى الاستقلال الذي ضاع غير مرة!»، ويقرأ لحظتها «أزمة الوجود»، وغياب المؤسسات السياسية الراسخة منذ حركة 26 / 9 / 1962، والثورة الوطنية ضدًا على الاحتلال البريطاني، ويقول: "فنحن على مستوى البُنَى لم نقم بأية ثورة، وإن كان حظ الجنوب أوفر من الشمال؛ بسبب جهاز الدولة الذي ورثه عن الاستعمار، وساهم أبناؤه في صنعه عبر مثاقفة جدلية ترفض الاستعمار وتقبل حداثته".
وينتقد بمرارة الوحدة الفورية الاندماجية، والفساد في تسلط الدولة المالكة، ويرى أنَّ اليمن لم تحقق اندماجًا وطنيًّا، وأنَّ السلطة في اليمن تمتلك المال بالسلطة؛ عكس البلدان الأخرى؛ فمحتكر السلطة يعزز نفسه ونفوذه باحتكار الثروة؛ وهذا لا ينهك المجتمع وحده فحسب، بل والدولة أيضًا بما هي كيان جامع؛ فيحرمها من أهم مقومات الاستمرار والبقاء؛ وعلى رأسها تمثيل الشعب كله.
ويضيف: "إن أزمة الوجود في الصومال، وما في حكمها بدأت بالتنافس، ثم بالاقتتال في ميدان احتكار السلطة والثروة؛ فالفساد يقوّض لا أخلاقيات الضرورة للاقتصاد السليم، بل وتلك اللازمة لبناء الأوطان".
يصل إلى القول: "في ذكرى الاستقلال يجلس الجنوبيون على أطلال وطن، وما أصعب أن ترى وطنك يحتضر! وأن تدرك وتشعر يومًا أنَّك تنحط إلى ما دون المواطنة! فبعد أن ضاع مع الاستقلال المكاسب السياسية والقانونية والنقابية التي ناضل الناس من أجلها منذ ثلاثينات القرن الماضي عندما اضطلع بها الحزب الواحد كلها بضربة واحدة".
في العيد الثاني والستين في سبتمبر في صنعاء، اعتقل المئات من حاملي أعلام سبتمبر ومظهري الفرحة بالعيد الوطني، وفي الجنوب لم يكن الوضع أفضل حالاً منه في شمال الوطن، ولا يزال العشرات من المحتفين أو رافعي أعلام الثورة معتقلين حتى اليوم في غياهب السجون في صنعاء وتعز وإب وذمار، وتجيء ذكرى الواحد والستين من أكتوبر في الجنوب والشمال كيتيم على مائدة أناسٍ لئام، ولكن لا بد لليل أن ينجلي، ولا بد للقيد أن ينكسر!