مقالات
حكاية الرَّجل الميت (الفصل الأول)
كان خبر عودة الرَّجل الميِّت قد أثار عاصفةً من الرعب، حتى إن القرية من حين عودته عاشت حياة أشبه ما تكون بالكابوس.
كانت فَازِعَة أول من أبصر الرَّجل الميّت، وأول من أعلن الخبر. كانت في سقيفة بيتها، وقت المغرب، عندما شاهدت رجلاً فوق حِمار يقترب من ساحة القرية.
وعندما سألته من يكون؟ رد عليها قائلا:
-"أنا سلطان الملح".
قالت له فَازِعَة، وهي تغالب خوفها، إن الخبر الذي وصل إلى القرية هو أن سلطان الملح غُرق في البحر ومات.
لكن سلطان الملح سألها إن كانت غُصُون زوجته تزوجت بعد أن وصلها خبر موته؟!!
وبدلا من أن ترد فَازِعَة على سؤاله، قالت تسأله:
- "أول قل لي: أنت سلطان الملح والا واحد ثاني؟!".
قال لها سلطان الملح: "أنا سلطان الملح".
قالت له فَازِعَة: "أنت حي والا ميت؟!".
قال لها: "أنا ميِّت -يا فازعة- رجعت وانا ميِّت".
وسألته فَازِعَة وقد سرت قشعريرة رُعب في جسدها:
- "كيف ميِّت وانت راكب فوق حِمار؟!!".
قال لها: "أنا ميِّت -يا فازعة- والحِمار اللي راكب فوقه حِمار ميِّت".
وقيل إن فَازِعَة أُغْمِيَ عليها من شدة الرُّعب، وإنها في صباح اليوم التالي أفاقت من نومها، وقد فقدت نصف جسدها، ونصف عقلها، ونصف صوتها، حتى إن الوحي الذي كان يتنزَّل عليها انقطع، والملائكة الذين كانوا يزورونها توقفوا عن زيارتها بعد إصابتها بالشلل النصفي، لكن الرعب الذي أحدثه خبر عودة الرجل الميِّت لم يمنع أهل قريته من الخروج لرؤيته.
قال الذين اقتربوا منه وصافحوه إنهم صافحوا رجلا ميِّتا، وقال الذين تكلموا معه إن الكلمات، وهي تخرج من فمه، كلمات ميِّتة لا حياة فيها، وقال أولئك الذين لم يجرأوا على الخروج، واكتفوا بالتفرّج من سطوح بيوتهم، إنهم أبصروا رجلا ميِّتا ينزل من فوق حِمَار ميِّت.
ويومها، أجمع أهل القرية على ادأن سلطان الملح عاد من البحر ميِّتا، وقالت سُفَرجَلَةْ:
- "رجع سلطان الملح من البحر وهو مملوح جسد بلا روح".
وقبل عودة الرجل الميِّت بسنوات كانت قد وصلت أخبار إلى القرية تفيد بأن السفينة التي يعمل فيها سلطان الملح غَرقت في البحر، وغَرق معها سلطان والقبطان وطاقم السفينة.
ومن حين وصل خبر موته، راح الخطَّاب يتقاطرون على زوجته الجميلة غصون، وكان جمالها هو الدافع الذي جعل كل هؤلاء الخطَّاب يتقدّمون لها، ويحومون حولها، ويتطلعون للزواج بها، لكنها كانت تردُّهم وتصدُّهم، وتقول لهم إن زوجها سلطان حي لم يمت، وأنه سوف يعود.
وكانت أمها تنزعج من قولها ذاك، وتقول لها إن سلطان زوجها غَرق في البحر ومات، وإن من مات يستحيل أن يعود.
وأخبرتها بأن القاضي شاهر تقدم لخطبتها، ونصحتها أن تقبل به زوجا:
-"يا غصون، يا بنتي، القاضي شاهر عالم، ولو تتزوجوه، يوم ثاني وانتي واحم".
وكان القاضي شاهر، الذي اشتهر بأنه يحبّل زوجاته من أول ليلة، قد تقدم لخطبة غصون، ووعد أمها صَافِية بأنه سينجب لها حفيدا، ويجعل منها جِدة.
ولشدة فرحتها بالرجل الذي سيحبّل ابنتها، ويحقق أمنيتها بحفيد تكحِّل به عينيها قبل موتها، راحت تغري ابنتها بالزواج منه، لكن غصوناً اتهمت القاضي شاهر بأنه وراء نشر خبر موت زوجها، وقالت لأمها:
- "القاضي شاهر يمَّا كذاب، سلطان ما متش".
قالت لها أمها: "يا بنتي، القاضي شاهر ما يكذبش".
قالت لها غصون إن القاضي كان كلما صادفها في درب من دروب القرية يستوقفها ويغريها بالطلاق من زوجها سلطان الملح، ويقول لها والشهوة تقطر من عيونه:
-"اطلبي الطلاق يا غصون من سلطان، وانا أتزوجك، واقلبك سلطانة".
ولم تستطع أمها أن تحتمل ما قالته ابنتها عن الرجل الذي تحترمه، فقالت لها:
-"يا بنتي القاضي شاهر يحبّك من زمان، لكن مش هو كذاب، الخبر صدق، سلطان مات، وشبع موت".
وكانت أمها ما تنفك تعيد على مسامعها عبارة سمعتها من القاضي شاهر، وهي أن "الموتى لا يعودون من الموت":
-يا بنتي يا غصون، ما فيش آدمي يموت ويرجع من الموت".
ومما جعل أمها عافية توقن بموته هو أن سلطان الملح انقطعت أخباره تماما، فلا رسائل تصل منه لزوجته، ولا مصاريف:
-"لو سلطان حي يا غصون كان شرسل لك مصاريف ومكاتيب".
وكانت غصون ترد على أمها بالقول:
-"يمُّا قلبي يقول لي إنه حي".
فترد عليها أمها:
-"قلبك يوسوس لك يا بنتي، ولو أنتي صدقتي قلبك شجزع عمرك وشبابك كله فطِيْسْ".
وكان أن راحت أمها تبذل ما بوسعها لإقناعها بالزواج من القاضي شاهر، وهي ترفض وتكابر، وتصر على أن زوجها حي ولم يمت.
وقبل موتها بعام راحت تترجّاها وتتوسّل إليها بدموعها، وتطلب منها أن تتزوج من القاضي شاهر، أو من غيره لتنجب لها حفيدا يُحيي ما تبقى من أيامها، لكن غصونا لم تكترث لدموعها، وقالت لها إن زوجها سلطان الملح سوف يعود إليها بقوة الحب:
-"أحبه يمّا، والحب شرجِّعه لي حيّ والا ميِّت".
بعدئذ، وقد وصلت معها إلى طريق مسدود، وعجزت دموعها عن إقناعها بالزواج، غضبت أمها منها، وقيل إنها دعت عليها، وقالت لها وهي متألمة ومجروحة منها:
- "إن شاء الله يا غصون يرجع لك سلطان وهو ميت".
ليلة وصوله، نام الرجل الميِّت نوما عميقا، وفي الصباح، وقد أشرقت الشمس، ذهبت غصون تناديه، لكنه كان مازال يغط في النوم.
وفي الظهر، وقد حان وقت الغداء، راحت تناديه بصوتها المفعم بالشوق والرغبة والحنين؛ كيما يستيقظ من نومه، ويتناول طعام الغداء، لكن سلطان كان أشبه بالميِّت.
وفي عصر ثالث يوم وصوله، عندما خرجت لتجلب الماء من النبع، لاحظت أن نساء القرية يتجنبنها، ويتحاشينها، ويشِحْن بوجوههن عنها، وإن هي سلمت عليهن لا يرددن السلام عليها، وكان ذلك قد أقلقها وأزعجها، وجعلها تتساءل عن السبب في مقاطعتهن لها.
وفي طريق عودتها من النبع، استوقفتها خالتها قَبُول، وقالت لها:
-"كيف حاله سلطان يا غصون؟".
قالت لها غصون: "سلطان يا خالة من حين رجع وهو راقد ولا قام".
قالت لها خالتها قبول: "مو شيقوم يعمل!! وكيف شيقوم وهو ميت!!".
وفزعت غصون عندما سمعت خالتها قبول تقول عن زوجها إنه ميِّت، وقالت لها:
-"موذا الخبر حقك يا خالة قبول!! أقول لك سلطان راقد تقولي لي إنه ميِّت!!".
قالت لها خالتها قبول:
- "زوجك ميّت يا غصون؛ رجع من البحر وهو ميّت".
وراحت خالتها قَبُول تخوِّفها من زوجها سلطان الملح، وتقول لها إن الموت مثله مثل أي مرض معدٍ، ينتقل بالعدوى، وطلبت منها أن تغادر بيت الميِّت، وتأتي لتقيم عندها قبل أن تصاب بعدوى الموت.
قالت لها غصون، وقد ساورها شعور بالرُّعب:
-"مو درّيْك يا خالة إنه رجع ميِّت؟".
قالت خالتها قبول:
- "القرية كلها داري يا غصون، وكلهم الرجال والنسوان متعجبين كيف تقبلي تجلسي مع سلطان وهو ميِّت".
وأخبرتها خالتها بأن نساء القرية زعلانات منها وغاضبات،
قالت غصون، وقد عرفت سبب مقاطعة النساء لها:
-"كيف عرفوا أنه رجع ميِّت؟.
قالت لها خالتها إن زوجها سلطان هو الذي أخبر فازعة:
- "سلطان هو الذي خبّر فازعة وقال لها إنه رجع ميِّت".
وبعد الكلام الذي سمعته من خالتها قَبُول، اصطكت ركبتاها، وتسارعت دقات قلبها، وصعدت الدرب المؤدي إلى بيتها، وهي ترتجف من الخوف، حتى لقد صار خوفها من رجُلها الميِّت أشبه بغيمة سوداء تتقدمها، وتسير أمامها، وتفسد فرحتها بعودته، وقالت تكلم نفسها:
- "عشر سنين صابر علوه ورجع لي وهو ميِّت!! مو رجَّعُه؟ ولمو رجع؟".
وبعد أن دلفت إلى الداخل، ووضعت جرة الماء في المطبخ، تذكرت دعوة أمها عافية:
- "إن شاء الله، يا غصون، يرجع لك زوجك وهو ميِّت".
ولحظتها أجهشت بالبكاء.