مقالات

حِكاية الرّجل الميِّت (الفصل الرابع)

29/08/2024, 09:51:08

في عصر اليوم التالي، وقد خرجت غصون لجلب الماء من النّبع اعترضتها خالتها قَبُول، وقالت لها:
"كيف تقدري -يا غصون- تعيشي مع سلطان المَلح وهو ميِّت؟!!".

قالت لها غصون:
"مو افعل -يا خالة- دعوة أمي".
 
قالت لها خالتها قَبُول إن أمها سوف تسامحها من قبرها إن هي سمعت نصيحتها:
"والله انها شتسامحك لو انتي سمعتي نصيحتي".
 
ابتسمت غصون، وقالت تسأل خالتها:
"مو افعل -يا خالة- من أجل  تسامحني، بمو تنصحيني؟!".

قالت خالتها:
"الحي -يا غصون- أفضل من الميِّت، سيّبي الميت واتزوّجي الحي اللي يحبك. عافية امك  -الله يرحمها- ماتت، وهي تتمنّى تتزوجي القاضي شاهر، وتبصرك حامل، وفي بطنك جاهل".

واخبرتها خالتها بأن القاضي شاهر كان ومازال يحبها، ويرغب في الزواج بها.

وراحت تترجّاها، وتتوسل إليها، وتطلب منها أن تترك الرجل الميِّت، وتتزوج القاضي شاهر الذي يحبها، وقالت لها:
"القاضي شاهر يحبك، ولو تزوجتوه أمك شتسامحك".

وكان لدى خالتها أمل بأنها سوف توافق، وتضحي بالميِّت من أجل الحي.

قالت لها غصون:
"حرام -يا خالة- أسيّب سلطان وهو ميِّت".

قالت خالتها، وقد استفزها ردها، وأغضبها:
"حرام علَوْهْ هُوْ.. مُوْ رجّعُه!! ولِمَو رجع الملعون وهو ميّت!! ومو هي الفائدة من رجعته!!".

لحظتها شعرت غصون بأنه ليس من صالحها أن تحجب الحقيقة عن خالتها، وكان أن أفشت لها سرها، وأخبرتها بأن سلطان زوجها، وإن كان ميِّتاً، إلاّ أن عضوه مازال حياً، وأنه يعاشرها مثل أي زوج يعاشر زوجته، وطلبت منها أن تكتم سرها، ولاوتخبر نساء القرية حتى لا يحسدنها.

وعندئذٍ امتقع وجه خالتها، وقالت لها، وهي لا تكاد تصدِّق:
"ميت وزبه حي، والله ماني مصدق".

وأخبرتها خالتها بأن نساء القرية يتكلمن عن ضرب الميِّت لها، ويسمعن صراخها في الليل، وهو يضربها:
"يا بنتي، الميِّت يضربك، والنسوان يسمعنك، وانتي تصيحي من الوجع، وتطلبي منه يرحمك حتى أني سمعتك تصيحي".

وضحكت غصون، وقالت لها بأنها لا تصيح من ألم الضرب، وإنما تصيح من لذة النكاح،
لكن خالتها لم تصدقها، وقالت لها إن النساء أثناء الجماع لا يصرخن، ولا أحد يسمع لهن صوتا، فيما هي القرية كلها تسمعها!!

قالت لها غصون إن نكاح الميِّت يختلف:
"نكاح الميت ثاني -يا خالة".

قالت خالتها، وهي مستغربة: "كيف ثاني يا بنتي!!؟".

قالت لها غصون:
"سلطان -يا خالة- ميِّت؛ لا في معه عقل، ولا روح، ولا قلب يرحم، ولما يجامعني يشنقني مثلما يشنقوا الكافر".

وكانت خالتها قَبُول تتعجب، وتصغي لها بذهول، ولا تدري هل مازالت بعقلها ادأم لا!! وهل ما تقوله حقيقة أم وهم!!

لكنها، وبعد أن قالت إن سلطان  يشنقها مثلما يُشنَق الكافر، تألمت  لأجلها، وحزنت، وشعرت بأن هناك خطرا يتهددها..

ولشدة خوفها عليها من زوجها الميِّت، قالت لها إن القاضي شاهر من حبه لها مستعد يلبِّي كل شروطها، ويحقق لها كل مطالبها، لكن غصونا أقسمت لها بأنها تحب سلطان الميِّت أكثر مما كانت تحبه وهو حي.

قالت لها خالتها: "كيف تحبوه وانتي قلتي لي قبل قليل إنه يشنقك؟!!".

قالت غُصُون إن معنى قولها  هو أن الميِّت يجامعها بطريقة الكفار، وليس بطريقة المسلمين:
"سلطان -يا خالة- يجامعني مثلما يجامعوا الكفار نسوانهم، هو من نازل واني من طالع".

ولحظتها، أطلقت خالتها صرخة رُعب، وقالت:
"وااااااو يا غصون، يا بنتي حرام مو كفرتي!!".

ومن طريقته في الجماع استنتجت خالتها قَبُول أن زوجها سلطان المِلح كافر وليس مسلما:
"زوجك -يا غصون- كافر مش هو مسلم".

وحين سألتها غُصُون كيف عرفت بأنه كافر.

قالت لها خالتها:
"الكفار -يا بنتي- لما يجامعوا نسوانهم يكونوا هم تحتهن وهن فوقهم عكس المسلمين".

ونصحتها خالتها بعدم مجاراته في كفره:
"ثاني مرة لا ترضيش، وخلو يجامعك مثلما يجامعوا  المسلمين نسوانهم، ومثلما كان يجامعك قبلما يدخل البحر".

وضحكت غصون من كلام خالتها قبول، وقالت لها:
"لكن يعجبني -يا خالة- لما يشنق اليهودي فوق العودي".

قالت خالتها: "ولو يعجبك يا بنتي حرااااام، ديننا يأمرنا نكون من نازل، وهم من طالع".

واردفت خالتها قائلة لها إن المرأة التي تمتطي زوجها وتكون هي فوقه وهو تحتها يستحيل أن تحبل:
"وبعدا كيف شتحبلي -يا غصون- مادام انتي فوقه وهو تحتك".

و لحظتها فُزِعت غُصُون من كلام خالتها قَبُول، وحين سألتها عن السبب في أنها لن تحبل منه،  قالت لها خالتها:
"السيل -يا غصون- ينزل من الجبل للوادي، ومافيش سيل يطلع من الوادي للجبل، ولو نفسك تحبلي خلي سلطان من طالع وانتي من نازل".

وفرحت غُصُون عندما سمعت خالتها تتكلم عن الحمل، وراحت تسأل نفسها عما إذا كان بمقدور زوجها الميِّت أن يحبِّلها؟!!

وليلتها طلبت غُصُون من الميِّت أن يغيِّر طريقته  وقالت له:
"من الليلة -يا سلطان- أنت من طالع واني من نازل".

قال لها سلطان إنه ميِّت، وليس بمقدوره أن يطلع فوقها:
"أنا ميِّت -يا غصون- مو قدَّرنا أطلع فوقك".

وزعلت غُصُون منه، وقالت له:
"حرام -يا سلطان- تجامعني مثلما يجامعوا الكفار نسوانهم".

ومن شدة زعلها راحت تبكي وتقول إنها لا تريد كنزه، وإنما تريد أن تحبل منه، وكانت جارتها سُفَرْجَلة تتنصَّت وتسترق السمع كعادتها، وحين سمعتها تقول له إنها لا تريد الكنز، استغربت وتعجبت.

وفي صباح اليوم التالي، راحت تكلم نساء القرية عن الكنز، وتقول لهن إن الميِّت رجع من البحر ومعه كنز، وكان أن راح خبر الكنز ينتشر؛ حتى إن وكيل الشريعة حمود السُّلتُوم -لشدة طمعه في الكنز- ذهب إلى الحكومة، وطلب من القاضي غالب التَّنَكة "حاكم حيفان" أن يرسل عساكر يقبضوا على الميِّت، لكن الحاكم سخر منه، وقال له:
"الحكومة -يا حمود- تقبض على الأحياء وليس على الموتى".

قال له وكيل الشّريعة:
"الموتى -يا قاضي- بيوتهم قبورهم، وسلطان المِلح من يوم رجع القرية والناس خائفين".

لكن الحاكم رفض أن يرسل عساكر للقبض على رجل ميِّت، وقال لوكيل الشريعه إن الموتى ليس لديهم سوى أكفانهم، وهو لا يرسل عساكره إلا للقبض على الأحياء الذين بمقدورهم أن يدفعوا أجرة العسكر، ويدفعوا له أتعاب قبضه عليهم و حبسهم، وكذا أتعاب إخراجهم من الحبس.

ولحظتها اقترب وكيل الشريعة من الحاكم، وراح يهمس في أذنه، ويقول له:
"سلطان المِلح رجع من البحر ومعه كنز، وأنا أشتيك ترسل عسكر لأجل يدخلوا يقبضوا على الكنز، وليس على الميِّت".

عندئذ سال لعاب القاضي غالب، وبعد صلاة العصر  أبصر أهل القرية وكيل الشريعة  حمود السُّلتُوم راجعا من الحكومة بصحبة خمسة عساكر، وحالما أبصروه بصحبة العسكر توجَّسوا خوفاً، وراحوا يقتربون منه، ويسألونه:
"لمن كل هؤلاء العساكر -يا حمود؟!".

قال لهم وكيل الشريعة:
"أرسلهم الحاكم يقبضوا على سلطان المِلح".

لكنهم راحوا يلومونه، ويقولون له: "ليش رحت تكلمه على الميِّت؟! ليش يعجبك المشاكل؟!".

وأنكر وكيل الشريعة أنه أبلغ الحاكم، وقال لهم:
"الحاكم معه جواسيس في كل قرية يبلغوه بكل صغيرة وكبيرة".

وأردف وكيل الشريعة قائلا لهم إن وجود رجل ميِّت في قريتهم يشكِّل خطرا عليهم وعلى القرية، وعلى الحكومة
قال له الحاج علوان:
 "نحنا -العَكَابِر- عسكري واحد يقدر يسوقنا قدّامه مثل الغنم، لكن سلطان المِلح ميِّت، ومادام وهو ميِّت ما كان في داعي للعسكر، وما قد سمعنا عن حكومة نفذت عساكر يقبضوا على ميِّت".

قال العاقل بجاش: "وانتم صدقتم أن الحاكم أرسل عساكر من اجل يقبضوا على ميِّت، الحاكم ما يرسل عساكره إلا وهو داري ومتأكد أنه مستفيد، ومعه فائدة، والظاهر أن حمود السُّلتُوم أخبر الحاكم على الكنز، والحاكم من طمعه  أرسل العسكر".
 
وزعل وكيل الشريعة حمود السُّلتُوم من كلام العاقل بجاش، وشعر كما لو أنه يتهمه بالتآمر مع الحاكم للسطو على الكنز.

وبعد أن عرف أهل القرية بخبر الكنز، راحوا يصخبون ويصرخون، ويعبِّرون عن حقدهم على الرجل الميِّت  ويقولون إن سلطان المِلح لم يمت، وليس ميِّتا، ولكنه من شدة بخله وخوفاً على كنزه راح يتماوت، ويمثل بأنه ميِّت.

وكان ثمة إجماع على أن سلطان المِلح، بسبب بخله وخوفه على كنزه، كذب عليهم،، وأوهمهم بأنه ميِّت وكانوا على يقين بأنه سوف يقوم من موته، ويخرج من بيته بقوة  "الصميل".
 
وقال الحاج علوان بعد سماعه بخبر الكنز:
"عسكر الدولة معاهم صميل يخلي الميِّت يقوم من سابع موتة".

ولحظتها كان عسكر الدولة يقرعون باب بيت الرجل الميِّت وينادونه أن يخرج:
 "اخرج -يا سلطان- جاوب الحكومة -يا سلطان الملح".

ومن نافذة الديوان، اطلَّت غُصُون، وقالت لهم:
 "سلطان ميِّت".

قالوا لها: "أمر الحاكم يمشي على الحي والميِّت".

وطلبوا منها أن تفتح لهم الباب ليدخلوا، لكنها رفضت أن تفتح  لهم، وصرخت فيهم قائلة:
"والله ما أفتح لكم باب بيتي، ولو أنتم شجعان اصبروا لما يقوم الميِّت يفتح لكم باب المقبرة".

ومع أن كلامها أخافهم إلا أنهم -لشدة غضبهم- تملكتهم رغبة في تحطيم الباب، وراحوا يخبِّطونه بأعقاب بنادقهم، ويركلونه بأقدامهم، وبكل قوة، لكن باب بيت الميِّت كان أكثر صلابة من باب حبس الحكومة.

وصادف أن ارتفع صوت أذان المغرب، وتوجه كل الذين كانوا في الساحة إلى المسجد للصلاة، وبعد أن انتهوا من صلاتهم عادوا إلى بيوتهم تاركين عساكر الدولة لوحدهم، لكن العساكر الخمسة، وقد خيَّم الظلام، وخلت الساحة من رجال وصبيان وأطفال القرية   داخلهم شعور بالخوف، وراحوا يسألون سِفَرجَلة عن الرجل الميُِت، وهل هو ميِّت حقا أم يتماوت؟

ومن سقف بيتها، راحت سِفَرْجَلة تحكي لهم عن سلطان المِلح، وكيف أنه غرق في البحر، ومات.

قالوا لها: "وكيف رجع من البحر وهو ميِّت؟!".
   
قالت لهم: "رجع قبل شهر وهو ميِّت، ووصل القرية وقت المغرب راكب فوق حمار ميِّت".

وحدثتهم عن فازعة، التي كانت أول من أبصرته، وكيف أنها أصيبت بالشلل، وأصبحت مُقعَدة.

وبعد كلام سِفَرْجَلة شعروا كما لو أن الرجل الميِّت على وشك أن يظهر لهم، ويتجسّد أمامهم.

ولشدة ما كانوا مرعوبين، غادروا القرية، ولاذوا بالفرار.

مقالات

الوجْه الآخر للمملَكة

التحوّل والبناء، الذي يجري في السعودية، مُثير للاهتمام، لكن بقدر إثارته للاهتمام يقدم صورًا شديدةَ التناقض في جوانب أخرى.

مقالات

الاستعراض اللغوي والمعرفي

الكثير من الكتابات تشدنا إليها وتدعونا إلى الغَوص في أعماقها، وأساليبها المتباينة والمتنوّعة، وقليل من الكُتاب الذين يستطيعون الإمساك بزمام الأمور، وشَد انتباه القارئ من أول لحظة بالفطرة والثقافة الموسوعيّة، والإبهار المعرفي عن طريق الإبهار اللغوي، واللغة المكثّفة المُوحِية، وتنوُّع أساليب العَرض، ومناقشة قضايا جوهرية تتّصل بالوجود الإنساني، وإشكالياته المُعاصرة.

مقالات

أبو الرُّوتي

مثلما كان البَوْل يسيل منّي لا إرادياً، كان المُخَاط هو الآخر يسيل من أنفي لا إراديا مع الفارق، وهو أن البَوْل يسيل في الليل أثناء النوم، فيما المُخَاط يسيلُ في النهار وأنا يقظ؛ لكنه كان يسيل بطريقةٍ مَرَضيَّةٍ لكأنّ أنفي جُرح ينزف، وكان الذين يَعبُرون من أمام بيتنا -حين يبصرون السائل الفيروزي يجري في سائلة أنفي- يصرخون بي: "اتْمخَّط ياب".

مقالات

فلسطين جرح الإنسانية النازف

لا يمكن في الأصل أن نفّوت عند الحديث عن القضية الفلسطينية حادثة وفاة السنوار الأخيرة التي توجت بعد مسيرة صمود ونضال طويلة أسطورية بالشهادة. وذلك لشيئين واحدٌ منهما حزن الناس العام في الوطن العربي، الذين بكوا عجزهم، وصمت زعمائهم الخاذل للشعب الفلسطيني وقادته الذين تركوا في الأرض الفسيحة مهوى لنيران العدو مواجهين مصيرًا هو أقذر ما يمكن للبشرية أن تصل إليه من الممارسة العدوانية القائمة على سفك الدماء وتدمير المنازل وقتل كل مظاهر الحياة، كل الحياة، شجرها وحجرها وناسها.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.