مقالات
حكاية الكافرة شجون ناشر (1-2)
في "سنة الجُدَري"، شاع الخبر في "قرية العكابر" بأن شُجُوْن ناشر كفرت بربّها، ودخل الشك إلى قلبها، وتوقفت عن الصلاة، وبدلاً من أن تصلي صارت تغنِّي، وأصبح الغناء صلاتها.
أيامها كان وحش الجُدَرِي قد تسلّق، مثل عنكبوت سام، واجهات البيوت، ووجوه الأطفال، وكان قد حفر ونقش اسمه في وجوههم الصغيرة والبريئة.
لكنّه فيما يتعلق بطفلها عبد النور، البالغ من العمر خمس سنوات، لم يكتفِ بحفر ونقش اسمه القبيح في وجهه الصغير والبريئ، وإنما تمادى في حقده فوقّع، وبصَمَ، وختم على عينيه بختمه الأكثر قُبحا.
ومن حين أبصرت شجون ناشر وحش الجُدَرِي يطفِئ عينيّ طفلها عبد النور أصابتها لوثة في عقلها ما لبثت أن تطوّرت إلى جنون، وكانت كلما أبصرت طفلها يتعثّر في سيره أو يخبط رأسه في باب، أو جدار، ويأتيها باكياً تصرخ قائلة بغضب، وهي تشخَص ببصرها إلى السماء:
-"تشاني يا ربي أصلي لك والله ما أصلي لك".
-"تشاني يا ربي أحمدك وأشكرك، والله ما أحمدك ولا أشكرك".
-"تشاني يا ربي أعبدك، والله ما أعبدك".
وبعد أن تفرغ شحنة غضبها تلك، تجهش باكيةً، وتقول لأمها مَطَرَة، وهي تحتضن طفلها عبد النور:
- مو عمل ابني يمّا!! مو هو ذنبه!! لُمَّا ربي يحكم علوه بالعمى!!
تقول لها أمها مَطَرَة:
- يا بنتي يا شجون ربنا رحيم، منو قال لك إن ربنا هو اللي أعموه؟!
وترد شجون على أمها بأنها سمعت الفقيه بأذنيها يقول إن الله هو من أرسل الجدري للقرية: - "الفقيه يمَّا سمعتوه بأذني".
وكان الفقيه قد راح يصيح بكل صوته، ويقول من سقيفة بيته مخاطبا أهل القرية بأن الله في الأزمان الغابرة كان يرسل الأنبياء والرُّسل للكفار والمشركين، ثم استعاض عن إرسالهم بإرسال الرسائل، وقال بأن الجُدَرِي "رسالة من جملة رسائل بعثها الله إلى أهالي قرية العكابر الذين أشركوا به، واتخذوا من الأولياء شركاء له، وأنهم -إن لم يرجعوا عن شركهم، ويستغفروا ربهم، ويتوبوا- سوف يبعث لهم برسائل أعظم وأشد خطرا من الجدري".
قالت لها أمها إن الله وإن كان حقا قد أرسل الجدري إلا أنه كان رحيما بابنها عبد النور، وراحت تذكِّرها بالعشرات من أطفال القرية الذين فقدوا أرواحهم، وتسبب الجدري في موتهم، وطلبت منها أن تحمد الله؛ لأن ابنها أصيب بالعمى، ولم يمت:
- "يا بنتي يا شجون ربنا رحمن رحيم، رحم ابنك عبد النور، احمدي الله أنه اعتمى وما متش".
وصاحت شجون، وقد استفزها كلام أمها:
- "تِشَيْني يمّا احمده على عمى عبد النور"!!
قالت أمها: "العمى يا بنتي أرحم من الموت".
قالت شجون وهي تجهش بالبكاء:
- "لو كان مات يمّا كان أحسن لي وأحسن له. الموت أرحم من العمى.. الموت حُفرَة وغُدرَة، والعمى كل يوم حُفرة، وكل يوم غُدرة"
وحتى تخفِّف من حزن بنتها، قالت لها أمها إن الله الذي سلب نور عينيّ ابنها عبد النور سوف يعوِّضه بنور في قلبه، وراحت تذكر لها كيف أن العميان بإلهام من الله يحفظون القرآن غيبا..
وصرخت شهود بكل صوتها، وقالت وهي تمرِّر يدها برقبة طفلها عبد النور:
- "والله لا أذبحه بالسكين يما لو يحفظ القرآن، ويوقع مثل الفقيه".
والتفتت ناحية عبد النور تقول له محذرة، وهي تواصل البكاء:
-"حسّك تحفظ القرآن يا عبد النور، وتوقع مثل الفقيه.. اتعلم الغناء، واحفظ الأغاني، وشبِّب بالشُبَّابَة، وزمِّر بالمزمار مثل سعيد الفاتش، ولو سمعتك يوم تقري قرآن لا انت ابني ولا اني أمك".
وصاحت أمها محتجة:
- "يا بنتي حرام عليك تحرمي ابنك من نعمة الجنة بعدما حُرِم من نعمة البصر، كيف تطلبي منه يوقع مثل سعيد الفاتش وانت داري إنه كافر؛ لا كان يصلي ولا يصوم".
قالت لها شجون إنها تريده أن يتعلم الغناء، ويصير مغنيا ومزمرا يُفرح الناس بأغانيه وبأنغام مزماره، بدلا من أن يصبح مثل الفقيه يخوِّفهم بعذاب القبر، وعذاب النار، وبيوم القيامة.
كان حزنها على طفلها عبد النور قد فجّر لديها موهبة الغناء. ومن قبل صلاة المغرب إلى ما بعد صلاة العشاء كانت تجلس في سقف بيتها المطل على ساحة القرية، وتظل تغني لكأن قلبها جرح ينزف أغنيات.
كانت تجد ملاذها في الغناء، به تلوذ، وإليه تلجأ، وفيه تجد العزاء والسلوى، وتنسى نفسها وهمومها، وتنسى حتى جنونها، لكن الفقيه كان يُجنُّ بدلا عنها، ويفقد السيطرة على نفسه، ولشدة غضبه منها كان ما ينفك يصرخ فيها، ويلعنها من سقيفة بيته، ويقصفها بوابل من اللعنات:
-"لعنة الله عليك يا شجون ناشر مليون لعنة، كم مرة قلت لك -يا ملعونة- الغناء حرام!! كم مرة قلت لك استغفري ربك وتوبي إليه، واحمديه، واشكريه على نجاة ابنك من الموت، وانت تعاندي، وتغنّي حتى وقت الأذان، ووقت الصلاة"!!
وكانت شجون ناشر تتجاهل الفقيه، وتواصل الغناء، لكنها أحيانا كانت تنفجر في وجهه قائلة:
-"تشاني يا فقيه أصلي لربك اللي أرسل الجدري، والله ما أصلي له".
- "تشاني أحمد وأشكر ربك الظالم اللي فقس عيون ابني عبد النور، والله ما أحمده ولا أشكره".
-"تشاني أعبد ربك اللي ما رحم ابني، والله ما أعبده".
كانت، وهي تغنِّي، تنسى نفسها، وتنسى أنها مجنونة، وتنسى جنونها، وتبدو في أجمل حالاتها. مُحِبّة، حنونة، عطوفة، طيبة.
لكنها حين يغادرها شيطان الغناء، تّجنُّ وتدخل في نوبات جنون عنيفة، وتقسو على طفلها الأعمى عبد النور، وتضربه كلما سمعته يبكي، وتقول له، وهي تواصل ضربه بدون رحمة:
- ربي يكرهك يا عبد النور، وخلقك أعمى، واني أكرهك"!!
وفي نوبات وعنفوان جنونها تلك، كانت شجون ناشر تغادر القرية، وتهيم في الجبال والوديان، وهي في حالة سعار. وتغيب لعدة أيام، وتنام في الحيود والمغارات، وتغدو مثل ذئبة مسعورة. ولم يكن بمقدور أحد -حين تأتيها تلك النوبات- أن يقترب منها، لكنها بعد أن تذهب النوبة، ويذهب سُعارُها، ويعود إليها شيطان الغناء، تعود إلى بيتها، وإلى طفلها عبد النور، وإلى طبيعتها الحلوة المرحة، حتى إن من يسمعها تتكلم، أو تغني، لا يخطر في باله مطلقا أن هذه المرأة هي المجنونة شجون ناشر.
كانت نوبة جنونها تستمر من أسبوع إلى أسبوعين، لكنها في آخر نوبة لها استمرت أكثر من شهرين.
كانت يومها جالسة في سقف بيتها، وكان شيطان الغناء قد هجرها، وفجأة تناهى إلى سمعها صوت بكاء طفلها عبد النور قادما من ساحة القرية، وكان من عادتها -كلما تعثر طفلها بحجر أو اصطدم بجدار أو وقع في حفرة وسمعته يبكي- تشخص ببصرها إلى السماء، وتصرخ بكل صوتها قائلة:
- "تشاني يا ربي أصلي لك، والله ما أصلي".
-"تشاني أحمدك وأشكرك، والله ما أحمدك ولا أشكرك".
-" تشاني يا ربي أعبدك والله ما أعبدك".
ومثل كل مرة كانت بمجرد أن تفرغ شحنة غضبها تلك تحضن طفلها عبد النور وتجهش بالبكاء.
لكنها في عصر ذلك اليوم، بدلا من أن تشخص ببصرها إلى السماء، كما هي عادتها، وتفرغ شحنة غضبها، خرجت تجري إلى ساحة القرية حتى إن الأطفال عندما أبصروها امتلأت قلوبهم خوفا؛ يومها كان طفلها عبد النور يبكي من شوكة انغرزت في باطن قدمه، لكن أمه التي كانت قد دخلت في نوبة عنيفة من نوبات جنونها، خرجت تجري، وبدلا من أن تنزع الشوكة من قدم طفلها الأعمى انتزعته من مكانه بعنف، وجرّته بقسوة، وجرت باتجاه البركة، وهي تصرخ بكل صوتها:
-"الموت أحسن لك، وأحسن لي يا عبد النور.. الموت أحسن لك وأحسن لي يا عبدالنور".
كانت على وشك أن تلقيه في البركة، وتتركه يغرق، لكن فتيان القرية تمكنوا من اللحاق بها، وانتزاع طفلها عبد النور من بين يديها، وحتى لا تُلحق الأذى به، أو بنفسها، حبسوها في بيت الولي شعلان، وتركوها هناك بعد أن قيدوها، وكبلوا يديها وقدميها بالقيود والأغلال نفسها التي يكبلون بها المجانين.
ولشدة حزنها على بنتها، أعلنت أمها مَطَرَة عن مكافأة قدرها عشرة ريالات لمن يستطيع أن يشفي بنتها من جنونها.
وطمعا بالريالات العشرة قال لها الفقيه:
-"القرآن يا مَطَرَة هو العلاج، ولا علاج غيره".
وحتى يقنعها بصحة منطقه قال جازما:
- "الجن يا مَطَرَة عندما يسمعون القرآن يخافون ويهربون".
كان الفقيه يذهب مرتين في اليوم إلى بيت الولي شعلان ليعالجها بالقرآن، وكانت شجون كلما أبصرته يدخل عليها تحشد كل غضبها لتنقض عليه، لكن لأنها كانت مقيدة ومكبلة بالقيود والأغلال لم يكن بمقدورها أن تفعل أكثر من البصق.
كانت تبصق في وجهه، وكان الفقيه من شدة غضبه ينهال عليها ضربا ب"الشابوك"، وهو سوط معمول من عضو الثور، يجلدها به، ويقول لها وهو يواصل جلدها:
- "ربنا قَوْ داري بك يا شجون. اعمى ابنك عبد النور من بين أطفال القرية، وحرمه من رؤية النور، وانتِ ربنا جنَّن بك".
ولم يكن يتوقف عن جلدها إلا بعد أن يشفي غليله منها، وبعد أن ينبجس الدم من جسدها، ويغمى عليها. وكان يشعر وهو يجلدها ب"الشَّابُوك " بأنه الملاك الذي اختاره الله لتعذيب شجون الكافرة.
وفي ظهر ذات يوم، أقبلت أمها مَطَرَة إلى بيت الولي شعلان، ورأتها مطروحة أرضا وجسدها المجلود ينزف دماً. ولشدة ما أوجعها منظر ابنتها، أجهشت تبكي بألمٍ وحُرقة، وخرجت من بيت الولي بوجه مغسول بالدموع، وبقلب مليء بالغضب والألم، وراحت تصرخ بكل صوتها تنادي أهل القرية، وتطلب منهم أن يشهدوا على الفقيه، ويذهبوا إلى بيت الولي شعلان ليشاهدوا بعيونهم ما الذي فعله بابنتها شجون.
وكان كل من يذهب إلى بيت الولي شعلان يكاد لا يصدق أن هذه المرأة المحطَّمة والمُكوَّمة في زاوية بيت الولي هي نفسها شجون ناشر.
وحين كان أهل القرية يعاتبون الفقيه، ويلومونه على قسوته، يرد قائلا إنه لم يكن يضرب شجون ناشر، وإنما كان يضرب الجني ليرغمه على الخروج من جسدها.
وعندما ذكّروه بقوله إن الجن يهربون عند سماعهم القرآن، قال مبررا جريمته إن الجني الذي دخل جسد شجون جني كافر، يبصق في وجهه كلما سمعه يقرأ القرآن.
بعد مرور ستة أشهر على جنونها، وصل الدرويش عبد الحق ممتطيا "بغلة النذور"، وكانت فازعة هي من استقبلته في بيتها، وهي التي حدثته عن جنون شجون، وأخذته إلى بيت الولي شعلان ليرى إن كان ثمة أمل في شفائها من جنونها أم لا!!
وكان أول شيء فعله الدرويش عبد الحق هو أنه حررها من قيودها وأغلالها وأخرجها من بيت الولي شعلان، وجاء بها إلى بيت فازعة، وبدأ يعالجها علاجا نفسيا، وبطريقته.
وفي خلال أسبوعين اثنين، استعادت شجون صحتها وعافيتها النفسية والعقلية، وعادت إلى طبيعتها تضحك وتمرح، وتغنِّي، لكنها وقد تعافت لم تنسَ أن الله هو من أرسل الجُدَرِي، وتسبب في عمى طفلها عبد النور.
كانت تلك الفكرة قد تسلّطت عليها حتى إنها راحت تسأل الدرويش عبد الحق، وتقول له:
-"لمو الله يكره عباده وهو خلقهم؟!
قال لها الدرويش عبد الحق:
- "من قال لك يا شجون إن الله يكره عباده!! الله خلقهم وخلق كل شيء بقوة الحب، وهو يحب عباده أكثر من حبك لولدك عبد النور. ولولا حبه لنا وشوقه لرؤيتنا ما كان خلقنا".
قالت شجون معترضة على كلام الدرويش إنه لو كان الله يحب عباده لما أرسل لهم الجُدَرِي:
- "لو الله يحبنا -يا عبد الحق- لموا أرسل لنا الجدري"!!
وشعر الدرويش عبد الحق بأن تصور شجون عن الله هو سبب معاناتها، وأنها قد تُجَنّ ثانية إن هو لم ينزع من رأسها فكرة أن الله هو من أرسل الجُدَرَي وتسبب في عمى طفلها.
وحتى يوضح لها الفرق بين الله، الذي يتصوره الفقيه، وبين الله كما يراه هو، قال لها:
-"الشخص الذي يكره الناس يا شجون، وقلبه مليان كراهية، يتصور الله ممتلئ كراهية مثله، لكن الحقيقة هي أن الله لا يكره عباده، وإنما يحبهم، ويحب أن يراهم سعداء".
قالت تعترض على كلامه إنه إذا كان الله يحب أن يرى عباده سعداء لماذا يطلب منهم أن يخافوه؟ ولماذا كلما شعرت بالفرح والسعادة وراحت تضحك أو تغني يغضب الفقيه، ويطلب منها أن تخاف الله وتستغفره؟!!
وشعر الدرويش عبد الحق بأن شجون ناشر تهرب من الأرض إلى السماء، ومن مواجهة الفقيه إلى مواجهة الله، وأنها بدلا من أن تكفُر بالفقيه كفرت بالله، وحتى يعيدها من السماء إلى الأرض قال لها:
-"الذي يكرهك يا شجون هو الفقيه وليس الله، والذي يغضب منك حين تضحكي أو تغني هو الفقيه، والذي يقول لك إن الضحك والغناء حرام هو الفقيه، وأنت يا شجون تخلطي بين الله وبين الفقيه، لكن الله مش هو الفقيه، الله يحب أن يرى عباده سعداء، ومخلوقاته سعيدة، تفرح وتمرح، وتغني وترقص، وتضحك.
وأردف قائلا لها:
-"اضحكي من قلبك يا شجون؛ لأن الله عندما يسمعك تضحكين يعرف بأنك سعيدة، ويفرح لسعادتك".
وبعد أن ضحكت من قلبها، قالت له إنها تجد سعادتها في الغناء، وسألته:
- "قل لي يا عبد الحق الغناء هو حلال والا حرام؟!!
وقبل أن يجيب على سؤالها، طلب منها أن تغني حتى يقول لها إن كان حلالا أم حراما.
وبعد أن رفعت شجون عقيرتها بالغناء، قال لها الدرويش عبد الحق، وقد سحره صوتها:
- "الله -ياشجون- وهو الخلاَّق المبدع عندما خلقنا وهبنا مواهب لنكون خلّاقين ومبدعين مثله. أنت مثلا وهبك صوت جميل، وحرام تدفني موهبتك، وتحبسي أغنيتك، وتحرمي أهل قريتك من نعمة سماع صوتك الجميل".