مقالات
حكاية الكافرة شُجُون ناشر (2-2)
عندما سألت شُجُوْنْ ناشر الدرويش عبد الحق عن السبب في أن الفقهاء يحرِّمون الغناء؟
قال لها الدرويش إن الفقهاء يحسدون المغنيين على أصواتهم الجميلة، ولو لم يحرِّموا الغناء لن يجدوا من ينصت إليهم، ويسمع مواعظهم.
قالت الكافرة شجون: لِمَوْ ما شِلْقَوْشْ من يسمعهم يا عبد الحق؟
قال الدرويش: الغناء -يا شجون- يفرح الناس، والناس يحبوا يسمعوا ما يفرحهم ويطربهم ويسعدهم، لكن الفقهاء لا يحبون رؤية الناس مبتهجين، وفرحين وسعداء، وإنما يحبون رؤيتهم تعساء حزينين وخائفين، ولديهم شعور قوي بالذنب.
وأردف قائلا لها: مادام صوتك جميل -يا شجون- غنيّ وادخلي الفرح إلى قلوب أهل القرية، ولا تشعري بالذنب، أو بالخوف من أن الله سيعاقبك،
الله لا يعاقب من يدخل الفرح إلى قلوب الناس، وإنما يعاقب كل من يلحق بهم الأذى، ويكون السبب في آلامهم وأحزانهم ومتاعبهم.
وكان كلام الدرويش عبد الحق بمثابة البلسم الذي شفاها من مرضها، وأزال الغشاوة عن عينيها، وأعادها إلى طبيعتها، وإلى أجمل حالاتها. وحتى ترد له الجميل دخلت في دينه، لكنها وهي تدخل في دين الدرويش لم تدخل سرا، ولم تُخْفِ دخولها، ولم تخَف من ردود فعل الفقيه سعيد وأنصاره.
وذات صباح أفاقت القرية على خبر مُفزع، وهو أن شجون ناشر شُفِيَت من جنونها، ودخلت في جنون آخر أشد وأعظم من جنونها السابق. وقيل إنها صبأت، وخرجت من دين الفقيه، ومن الدين كله، ودخلت في دين الدرويش الكافر عبد الحق، وأصبحت تصلي عكس القبلة في سقف بيتها، وهي بكامل زينتها. وما أن شاع خبر خروجها من دين الفقيه سعيد ودخولها في دين الدرويش عبد الحق حتى دخل أهل القرية خوف أعظم من الخوف الذي سيطر عليهم عندما داهمهم مرض الجدري. وأما أمها مَطَرَة فبمجرد أن وصلها الخبر حتى جُنّ جنونها، وراحت تُلقي باللوم على الدرويش عبد الحق، وتتهمه بأنه ضلّل ابنتها، وأخرجها من دين الفقيه ليدخلها في دينه (دين الحب والكفر).
ومثلما كانت تتألم على بنتها أثناء جنونها، صارت تتألم عليها أكثر بعد دخولها في دين الدرويش، لكن ألَمَهَا لكفرها كان أعظم من ألمها لجنونها، وذلك لاعتقادها بأن الكفر أشد خطرا من الجنون؛ ولأن الله - بحسب قولها- لا يحاسب المجنون على جنونه، وإنما يحاسب ويعاقب الكافر على كفره.
ولشدة خوفها على بنتها شُجُون من عذاب جهنم، تمنّت لو أنها ظلت مجنونة، ولم تتعافَ من جنونها: "لو جلست مجنونة كان أحسن لها، وكان ربي شرحمها".
وأكثر ما كان يزعج مَطَرَة أمها هو أن شجوناً من حين دخلت في دين الدرويش عبد الحق راحت تجاهر بدينها الجديد، وتبشِّر به في أوساط نساء القرية، وتدعوهن إلى الخروج من دين الفقيه، والدخول في دين الدرويش، وكانت ما تنفك تقول لهن:
"الدين الحق دين عبد الحق".
كانت أمها تتوسل إليها، وتطلب منها الخروج من دين الدرويش، والعودة إلى دين الفقيه، وتقول لها، وهي تبكي: "يا بنتي يا شجون لو أنتِ تحبيني أخرجي من دين الدرويش الكافر، وارجعي لدين الفقيه".
وكانت شجون ترد على أمها وتقول لها:
"يمّا، دين الدرويش عبد الحق أوسع من دين الفقيه، والله اللي يعبده الدرويش أكبر وأرحم من الله اللي يعبده الفقيه".
وتصيح أمها قائلة، وهي تواصل البكاء:
"يا بنتي، الله بيته بمكة، وأنتِ تصلي عكس القبلة، مو من دين آذا حقك!!".
فترد شجون على أمها، وتقول لها:
"يمَّا، الحب ديني وملّتي.. والجهات كلها قبلتي.. وبيت الله قلوب الفقراء والمساكين".
وكانت أمها تُفزَع وهي تسمع شُجُون تنطق بكل هذا الكُفر، وتزداد يقينا بأنه ليس كلامها، وإنما هو كلام الدرويش، الذي غرَّر بها، وأدخلها في دينه. ولشدة ما كانت تتألم على بنتها لم تكن تنام الليل، وإنما كانت تصعد إلى سطح بيتها، وتظل إلى قرب الفجر تُوَلْوِلُ، وتقصف الدرويش عبدالحق بوابلٍ من اللعنات.
وأما نساء القرية فكن حين يبصرنها يهربن منها هروبهن من الطاعون، لكن شُجوناً لشدة إيمانها بدين الدرويش كانت تقتحم مجالسهن، وتنطق بكلمات تنزل على رؤوسهن كالصواعق، وتحدثهن عن دين الدرويش عبد الحق، وتقارن بينه وبين دين الفقيه سعيد، وتقول لهن:
"دين الدرويش -يا نسوان- دين فسَاح، مش هو حَوِيْص مثل دين الفقيه، وسهل مش هو عَوِيْص".
وحين سألنها عن الصلاة في دين الدرويش، قالت لهن:
"تصلين مرتين باليوم، وتركعين أربع ركعات، ركعتين الصبح، وقت شروق الشمس، وركعتين بالمغرب".
وأردفت قائلة لهن:
"صلاة مع الحب -يا نسوان- ولو هي قليل أحسن من صلاة كثير بغير حب".
قالت لها الأرملة نُجُوْد:
"يقولوا -يا شُجُون- إنك تعبدي الشمس".
قالت شجون ترد عليها:
"أني أعبد الله اللي خلق الشمس، وخلق القمر والنجوم".
وسألتها الأرملة نُجُود عن السبب في كونها تصلي وقت شروق الشمس، ولا تصلي عندما يؤذن الفقيه لصلاة الفجر!!
وكان ردها هو أن شروق الشمس صباح كل يوم هو ما يذكِّرها بالخالق، وليس أذان الفقيه الذي يزعج الناس بالأذان ،ويوقظهم من نومهم.
وحين قالت لها الأرملة نُجُود إن الله فرض عليهن خمس صلوات في اليوم، بما في ذلك صلاة الفجر.
ردت الكافرة شُجُون بأن الله لم يأمر عباده بأن يصلوا خمس صلوات في اليوم، ولم يأمرهم أن يقوموا من نومهم لصلاة الفجر، وقالت لنساء القرية:
"ربنا -يا نسوان- لا فرض علينا نصلي خمس مرات باليوم، ولا هو أمرنا نقوم فجر من نومنا نصلي له. هْوْ خلق الشمس، وقال لنا الشمس علامة بيني وبينكم، لو ما تشرق قوموا من نومكم، وصلوا، واعملوا، وبعد ما تغرب صلوا صلاتكم، وارقدوا، والفقهاء الملاعين قالوا نقوم فجر".
وصرخت الأرملة نُجُود غاضبة وقالت لها إن الله هو من فرض الصلاة على عباده، وإن الصلوات الخمس مذكورة في القرآن، ومذكور أوقاتها، وعدد ركعاتها.
لكن شُجُون ناشر نفت، وأنكرت أن الله هو من فرضها، وأمر بها، وحدد أوقاتها، وعدد ركعاتها.
وحين سألتها النساء عمن أمر بها، قالت لهن:
"الفقهاء الملاعين هم اللي أمرونا نصلي خمس مرات باليوم".
قالت لهن الأرملة نُجُود، وقد اكتسى وجهها بالغضب:
"شجون -يا نسوان- كافرة، وكذابة تكذب على ربي".
ولشدة غضبها من كلام الأرملة نُجُود، نهضت من مجلسها، وقالت وهي تهجم عليها:
"صدق أني كافر -يا نجود- لكن مش أني كذابة".
وقبل أن تمتد يدها إليها أدركتها النساء، وأوقفنها، وأعدنها إلى مجلسها، وأقسمت لهن -يومها- يمينا بأنها لا تكذب، وأن الصلوات الخمس بما فيها صلاة الفجر من عمل الفقهاء. وقالت إن الله العالم والعارف بمشاغلهن وتعبهن أرحم من أن يطلب منهن الاستيقاظ فجرا من نومهن ليصلين له صلاة الفجر.
ولأن صلاة الفجر كانت في نظرهن أكثر الصلوات الخمس مشقة، فقد رحن يسألن فازعة عن رأيها في الكلام، الذي قالته الكافرة شُجُون، حول صلاة الفجر.
واستبعدت فازعة أن يكون الله قد أمرهن بصلاة الفجر، وهو الذي خلق الليل للراحة والنوم، وقالت لهن:
"الفقهاء -يا نسوان- لا يشتغلوا ولا يتعبوا، والرزق يجي لهم من غير تعب، ويقدروا يصلوا ويركعوا باليوم ألف ركعة، لكن أنتن اللي تشقين بالأرض، وتتعبين، وطول اليوم وأنتن تتمهَّرين، وتحطبين، وتطحنين، وتسأبين، وتطبخين، وتصبِّنين، وتحلبين البقر، وتحبلين، وترضعين، وتبننين عيالكن، حرام يقيموكن من نومكن فجر تصلين".
وبعد كلام فازعة انتفضت النساء، وشعرن بأنهن مظلومات، وان الله أرحم من أن يأمرهن بالصلاة فجرا. وقالت لُوْل شاهر إنها تقوم لصلاة الفجر غصبا عنها؛ اعتقادا منها بأن الله هو الذي فرض الصلاة، وأمربها، أما بعد أن عرفت الحقيقة فأقسمت يمينا بأنها لن تصلي، وصرخت قائلة:
"ما دام هم الفقهاء أمرونا بالصلاة والله ما صلي يا نسوان".
وضحكت النساء من كلامها، وشعرت الكافرة شُجُون ناشر بأن كلام فازعة فتح لها الباب على مصراعيه، وقالت لهن:
"أيَنْ أحسن لكِنْ -يا نسوان- دين الدرويش والَّا دين الفقيه؟".
وحين رأت أن النساء لم يتجاوبن مع سؤالها، ولم يجبن، أعادت طرح السؤال بصيغة أخرى، وقالت لهن:
"أَيَنْ أحسن لكن تصلين فجر وإلا بعد ما تشرق الشمس؟!".
قالت هند زوجة الفقيه:
"أحسن لي أنام واهنأ نومي، وبعد ما تشرق الشمس أقوم أصلي صلاة شكر لربي".
قالت لها الأرملة نُجُود: "أنت -يا هند- ما يجوز لك تقولي هذا الكلام..كيف تصدقي شُجُون وانتي داري أنها خرجت من دين زوجك، ودخلت دين الكافر عبد الحق.!!"
قالت هند، وقد استفزتها الأرملة نجود:
"قلتُ الصدق -يا نجود- والا تشيني أكذب؛ لأني زوجة الفقيه!!".
واعترفت هند بأنها تقوم لصلاة الفجر غصبا عنها، وقالت يومها إن دين الدرويش مناسب للنساء، ودين زوجها الفقيه يناسب الرجال، وبحسب تعبيرها:
"دين الدرويش مليح للنسوان، ودين الفقيه مليح للرجال".
لكن شُجُون ناشر قالت تُصحِّح كلامها:
"دين الدرويش مليح للرجال وللنسوان، ودين الفقيه لا هو مليح لنا ولا لهم".
وعصر كل يوم كانت شُجُون ناشر تحضر مجلس نساء القرية في بيت فازعة، وتعيد على مسامعهن ما سمعته وما فهمته من كلام الدرويش عبد الحق.
وكانت تفهم شيئا من كلامه، وتغيب عنها أشياء، لكن الكلام الذي تفهمه تفرح به، وتنقله للنساء بطريقتها وبلغتها.
وبعد أن كانت نساء القرية يهربن منها، ويفزعن من سماع كلامها، صرن يحرصن على حضور المجلس في بيت فازعة؛ ليسمعن منها المزيد من الأحاديث عن الدرويش عبد الحق، وعن الدين الجديد، وكان أكثر ما أعجبهن في دين الدرويش هو خلوّه من صلاة الفجر.
كان الدرويش عبد الحق صوفيا يجوب القرى، ويبشر بدين يسميه "دين الحب"، ويقول عنه إنه الدين الحق الذي يتجاوز ويتخطَّى جميع الأديان.
وكان عند مروره بقرية "العكابر" ينزل في بيت فازعة، وكانت فازعة أول امراة في القرية تدخل في دينه، لكنها لم تكن تجاهر أو تصرِّح، وقبل دخول الكافرة شُجُون في دين الدرويش لم يكن هناك من يعرف شيئا عن الدين الجديد (دين الحب)، وكذا لم يكن هناك من يعرف بأن للدرويش دينا مغايرا لدين الفقيه سوى خمس نساء؛ أشهرهن فازعة عالم، واختها المُسَفِّلة غيوم عالم، لكنهن جميعهن، وخوفا من الفقيه سعيد، لم يجرؤن على الإفصاح، أو المجاهرة بدينهن الجديد.
وأما بعد أن دخلت شُجُون ناشر في دين الدرويش، وراحت تجاهر، وتدعو النساء إلى الدخول فيه، شاع خبر الدين الجديد، وانتشر، وكانت نساء القرية عندما يتحدثن عن الدين يتحدثن عن دِينَين اثنين:
دين الفقيه سعيد ودين الدرويش عبد الحق.
ونكاية بالفقيه سعيد، الذي كان يكفَّرهن لاعتقادهن بالأولياء، ويحرم عليهن الغناء والرقص، وخروجهن من بيوتهن وهن بكامل زينتهن، رحن يتسللن خُفْيَةً إلى دين الدرويش عبد الحق الواحدة بعد الأخرى، لكنهن، خوفا من الفقيه ومن تكفيره لهن، كن يكتمن ولا يجاهرن ولا ينهضن لصلاة الفجر.
وأما هند فقد كان وضعها صعبا، لكنها -وبالرغم من أن زوجها الفقيه هو حامي وحارس الدين في القرية- كانت أكثر تعطشا للدخول في دين الدرويش عبد الحق. وكان سبب تعطشها للدخول في دينه هو أن الفقيه كان عنيفا معها، وكثيرا ما كان يسرع إلى ضربها لسبب أو بدون سبب.
مرة يضربها لتقصيرها في الصلاة، وأخرى لأنها تصلي بدون نيّة، وثالثة يضربها بمبرّر أنها تستعجل في صلاتها ولا تصلي على مهلها.
لكن أكثر الضرب الذي ينزله بها كان على صلاة الفجر، وكل يوم كان الفقيه يوقظها لتصلي الفجر، ويصرخ فوقها بكل صوته، حتى إن القرية كانت تسمعه وهو يوقظها لتصلي، وكثيرا ما كان يكرع فوقها الماء البارد؛ كي يجبرها على القيام، وأحيانا كانت تقوم، وبعد خروجه إلى المسجد تعود إلى للنوم، وتواصل نومها. وعندما اكتشف بأنها تخدعه ضربها بعنف زائد، وذات يوم -وقد أسرف في جلدها بالشابوك وبالغ في قسوته- قالت له، وهي تبكي من الألم:
"والله لأخرج من دينك -يا فقيه- وأدخل دين الدرويش عبد الحق".
قال لها، وهو يستشيط غضبا، ويواصل جلدها:
"والله لأقتلك -يا هند- لو تدخلي دين الكافر عبد الحق".
قالت له هند، وقد تملّكها شيطان العناد:
"والله إن دينه أحسن من دينك، وربه أرحم من ربك، وصلاته أحسن من صلاتك".
وفي الأسبوع نفسه، دخلت هند في دين الدرويش، وبعد دخولها شعرت شُجُون ناشر بزهو جنرال يعود منتصرا من المعركة، ولشدة فرحتها بدخول زوجة الفقيه في الدين الجديد، أسرعت تجري لتبشِّر فازعة وتخبرها بأن هندا دخلت في "دين الحب"، وصارت حبيبة*
لكن فازعة حين سمعت بالخبر فزعت، وراحت تحذرها، وتطلب منها أن تكتم خبر دخولها في دين الدرويش، وقالت لها إنه لو شاع الخبر وعرف الفقيه بدخول زوجته في دين غريمه، وعدوه اللدود، سوف يقتلها:
"الفقيه لو عرف -يا شجون- والله ليقتله".
وكان دخول هند في دين الحب قد أثار عاصفة من الرعب في أوساط الحبيبات ، ولشدة خوفهن عليها من ردة فعل زوجها الفقيه كتمن خبر دخولها في الدين الجديد، لكنها لسوء حظها، ولأنها زوجة الفقيه سعيد، لم تستطع أن تستمتع بمزايا الدين الجديد، ولم يكن بمقدورها أن تنام إلى ما بعد شروق الشمس.
*كل من تخرج من دين الفقيه وتدخل في دين الدرويش (دين الحب) تُسمّى حبيبة، والجمع "حبيبات".