مقالات
حمود العودي: حضور متجدد لا يعرف الخفوت
قرأ الكثير، وألّف الكثير، وعلَّم الكثير، لكنه لم ينحبس داخل النصوص وبين أغلفة الكتب.
يرى بالمعرفة، ويمارس فعاليته في الواقع، ويخلق نقطة ضوء حين يخيِّم الظلام، ويبدو الأفق مسدودًا.
كل ما يمسّ الحياة والفعل المؤثر فيها ستجد الدكتور حمود العودي على تماس معه، وفاعلًا فيه: الكتابة والتأليف، الجامعة والتدريس، السياسة والانتماء الحزبي، الكيانات المدنية والنقابات، المنتديات والمبادرات المجتمعية. وقبل كل ذلك وبعده، حضوره كشخصية وطنية ومفكّر لا يكلّ ولا يملّ، ولا تهزمه تقلبات الأحداث والنوائب التي تحلّ ببلده ومجتمعه.
قبل أي حديث يمكن أن يُقال عن سيرته وكتاباته، أرى الدكتور حمود العودي مثالاً للإنسان الذي لم تنهكه الحياة.
بتعبير أوضح: لم تنلْ من عزيمته الحياة، التي تَفِلْ الحديد بتقلباتها وأحداثها ودفقها المستمر وقدرتها على الإنهاك والمحو.
بعد نصف قرن في منصة التدريس الجامعي، الكتابة والتأليف، النشاط السياسي والحقوقي والمجتمعي، لا زال متقداً بالحماس وبكامل طاقته كأنه شاب في العشرين من عمره. لم توهن عزيمته السنون، ولم تضعف إرادته التحولات.
ذات يوم في زمن العصر العباسي، قال الشاعر عَوف الخُزاعي للأمير عبدالله بن طاهر، معتذرا عن ثُقل سمعه، وحاجتهُ لمن يُسمعه الكلام:
“إن الثمانين – وبُلِّغْتَـها – قد أحوجتْ سمعي إلى ترجُمانْ”.
لكن قوة الروح عند من يتحد بموضوعه، وتتمازج حواسه مع همه المعرفي والفكري، تتجاوز الزمن، ولا تخضع لأحكامه.
في منتداه الأسبوعي كل أحد، يدهشني الدكتور حمود العودي وهو يناقش بذهن متّقد، ويعقّب بنباهة المدرك لأبعاد ما يُطرح، وكأنه في أوجّ شبابه، غير آبهٍ بالثمانين التي يقف على مشارفها.
سأكون أكثر إيجازاً: مع تقادم النظرية الماركسية، وجمودها الأيديولوجي، بقي العودي قادرًا على الوقوف وحيدًا، يستند إلى فكره الذي يدمج الكتب بواقع الناس.
ومع تجمّد التيار الحزبي، الذي انتمى إليه، ظلّ حيًّا وفاعلًا ومتصلاً بمجتمعه ومؤثرًا في قضاياه. حتى حين كُممت الأفواه، وأُغْلِقت الأحزاب والنقابات والصحف في زمن الحرب واللادولة، استطاع أن يشقّ كُوَّة في جدار المنع، ليظل فاعلاً ومؤثراً: مفكرًا وإنسانًا ومنتدى ومؤسسة.
انقطعت سُبل الحوار والتواصل في زمن الحرب، لكنه ظل يحاول للتقريب بين الإخوة الأعداء. حاور في صنعاء، ناقش في عدن، طرق الأبواب المغلقة، أسس "التحالف المدني للسلم والمصالحة"، قدَّم المبادرات لإنهاء الحرب والحوار، اهتم بالملفات الإنسانية ومعاشات المتعاقدين والموظفين وفتح الطرقات، عبر حاجز الحوبان، وانخرط في الدفاع عن قضايا الحقوق والحريات والمعتقلين.
لديه إرادة لا تلين ولا تعرف اليأس. يتجاوز كل قتامة الواقع بضوء عزيمته.
أول مرة سمعتُ باسمه كانت في أواخر الثمانينات، حين وقع في يدي وأنا طالب، في نهاية الإعدادية، كتيّبٌ يحكي قصة دكتور جامعي تم تكفيره بسبب مؤلفاته عن المجتمع اليمني وهويته الثقافية. كانت تهمته هي "التفكير". وحين صدر بحقه حكم بالإعدام، غادر صنعاء إلى عدن لينجو برأسه.
هذه التجربة حوّلت الدكتور حمود العودي إلى نموذج للمفكِّر الحُر أمام جيل من الشباب والطلاب والمثقفين والأكاديميين. المفكِّر الذي يمتلك الإرادة والاستعداد للمخاطرة من أجل آرائه، وما يؤمن به.
غير أنه لم يقف عند تلك المحطة، مع أنه كان قد أنجز أهم دراساته وأبحاثه، التي تضمنتها كُتبه المنشورة آنذاك، واستعدت عليه قوى التخلّف والتطرّف المعادية لحُرية التفكير.
لم يكن العودي من النوع الذي يشطح في أفكاره، ويكتب بحِدة في قضايا يمكن أن تؤولها القوى الدينية، التي كانت في بدايات صعودها، بأنها مساس بالدِّين.
استهدافهم له جاء على خلفية مؤلفاته المهمة حول المجتمع اليمني، والتأليف في أهم مجال لم يُطرق من قبل، ويندر أن تجد مؤلفات يعتد بها قبله.
أهميته لا تتحدد في حِدة النّبرة، بل في وضوح الفكرة وعُمقها. كان من أوائل الباحثين الذين استخدموا التحليل الأنثربولوجي الحديث في دراسة المجتمع اليمني، والهُوية الثقافية الوطنية لليمن، وهو ما اعتُبر حينها تحديًا للخطاب الدِّيني المتطرّف.
بعد أربعة عقود من تلك الواقعة، لا يزال حمود العودي قامةً سامقة، لا يزال هذا الإنسان النبيل والمفكِّر المتفرّد يُلهمنا.
كل ما فيه يُلهمنا: قدرته على مواكبة التطورات الفكرية والثقافية، عطاؤه الفكري المستمر، إفلاته من اليأس الذي نال من كثيرين في الوسط الثقافي والأكاديمي من مجابليه ومن أتوا بعده، ثباته على بوصلة الوطنية اليمنية والانتماء للعصر الحديث بما هو أفق فكري متجدد ومتنوع، قيم الحرية والعدالة والكرامة والإنسانية؛ المتجددة في ذاته، التي تجعله على الدوام منتمياً للناس، ومدافعاً صلباً عن حقوقهم وقضاياهم.
الدكتور حمود العودي طاقة لا تنضب، وزخم خلاق يبث فينا الحياة، متجاوزاً وهن العمر وما يواجهه من وعكات صحية، لم تفلح في إخماد شغفه بالمعرفة وفعاليته في الحياة بكل أبعادها.
يمتلك حمود العودي قوة إرادة ودأبا استثنائيا في تكريس رسالته وأفكاره، ونشرها في كل حين.
قوة الأمل، التي يمتلكها، لا تقلّ إلهامًا عن أفكاره ومؤلفاته. إنها جزءٌ عضوي من سيرة هذا المفكر اليمني الأصيل، المتموضع في كل ما هو جميل وحيوي في تاريخنا؛ كما لو كانت امتدادًا طبيعيًا لما في داخله من حياة.
كلما تأملته، يتبدد هذا اليأس المستشري في أفقنا كبلد.
أنجز د. حمود العودي الكثير في مسيرته الثرية كمفكّر ودكتور جامعي.
يتميَّز عن كثيرين من مجايليه؛ مثقفين وأكاديميين، بكونه أدرك أهمية تأليف الكُتب مبكراً، كان أول كتاب له دراسة عن المجتمع اليمني بعنوان "المنظور العلمي للثقافة"، عام 1973 (درس علم الاجتماع في جامعة القاهرة، حيث تخرج منها عام 1970، وحصل على الماجستير في 1978 والدكتوراة عام 1983 من الجامعة نفسها).
توالت مؤلفاته في عناوين مختلفة حول التراث وعلاقته بالتنمية، الثقافة الشعبية، الهوية الثقافية الوطنية، تجربة التعاونيات وعلاقتها بالتنمية، العنف والتمييز الاجتماعي، التاريخ الاجتماعي للتغيير الثوري في اليمن، إلى آخره.
دراسة المجتمع اليمني، وتحليل الظواهر الاجتماعية والسياسية، من منظور تاريخي وأنثروبولوجي، هي النقطة الأساسية التي تدور حولها هذه الدراسات.
حمود العودي قيمةٌ فكرية ووطنية وأخلاقية عليا، من أولئك الذين يستحقون أن يُصغى إليهم بانتباه وإكبار.
لقد ضرب مثالًا رفيعًا في الثبات على المبدأ، والاستمرارية في العطاء، والإبداع رغم كل العوائق. إنه واحد من أرواح اليمن الكبرى في القرن العشرين، التي انحازت لقيم الحياة والحرية والعدالة والمساواة.
سأقف هنا، على أن أكتب لاحقًا عن مؤلفاته والقضايا التي شغلته، والتي تظل نافذةً مهمةً لفهم فكره وتأثيره العميق.