مقالات
"دفاع عن 11 فبراير، أو دفاع عن الإنسان؟"
من الغريب أن يتراجع البعض عن قِيم وأهداف فبراير بسبب ما حدث بعدها، والمفترض أن القِيم والأهداف الكبرى لا تتغير بوجود أي إشكاليات أو عوائق، وإنما يجب أن تدفعنا الأحداث لبحث دائم في الوسائل المتاحة لتحقيق الغاية والاقتراب من القيمة، وليس التخلِّي عنها.
ويستند هؤلاء إلى القول إنه كانت لدينا دولة إلى حدٍ ما قبل فبراير ثم ضاعت، ولكنها ليست دولة بالمعنى الحقيقي، ولا بأي من معاني الدولة، فليست كدولة "هوبز" التي تحتكر القوة وتردع الجميع دون استثناء، وتحقق الأمن والسلام والاستقرار، وإنما كان هناك أيضا من يشارك الدولة في القوة والنفوذ والسلاح، ولم يكن لدينا أيضا دولة بالمعنى الهيجلي التي تعبِّر عن الكلي، وإنما دولة لا تمثل المجموع، ولم يكن لدينا دولة تحفظ الحقوق، ولا دولة بمعنى الرفاة ولا بأي معنى، وربما يقول البعض إننا كنا نسير في طريق بناء الدولة، ولكنها ليست خطوات واضحة وصحيحة ولا حتى بطيئة، وإنما خطوة للأمام وخطوة أخرى للخلف، فقد كان هناك عدم استقرار سياسي وحروب داخلية وأزمات سياسية حتى وصلنا إلى مرحلة انسداد في الأفق، ورفع شعارات الديمقراطية والتعددية، وفي الوقت ذاته كان هناك خطوات لاحتكار السلطة بل وتوريثها!
ومن الطبيعي أن يطمح الناس إلى الأفضل، ولم يكن فبراير ليأتي دون مسببات وبوادر إخفاق وانسداد في العملية السياسية.
لا شك أن الوضع الآن أصبح أكثر سُوءا، ولكن هل فبراير السبب؟ الواقع يقول غير هذا، بل ويشير إلى أننا كنا ذاهبين نحو هذا الحال دون شك، وما كانت فبراير إلا محاولة استباقية للإنقاذ، وبأقل الخسائر، فقد كانت تهدف إلى إنقاذ الدولة واستكمال بنائها، وتغيير النظام القائم فقط، الذي يُقصد به المنظومة والعقلية التي تدير البلد، وإنقاذ خطوات التحول الديمقراطي، وإنقاذ الوحدة، ولكن كان هناك من يتربَّص بها من خصومها، ومن يريد وضع حدود لها ممن كانوا معها.
فليس من المعقول أن نرى الأحداث ونتغافل عن أصحاب القوة السياسية والعسكرية والقادرين على تخريب ما تبقى من الدولة، سواء ممن كانوا في السلطة السابقة، أو غيرهم ممن قاموا ببناء قوة سياسية وعسكرية في ظلها وتأثروا بعقليتها، ونحمل العواقب على من لم يكن يملك سوى الرغبة الصادقة في التغيير وقليل من المساحة الحُرة، وكثير من الأمل والشجاعة!!
ثم هل فبراير من أعاقت الحوار الوطني، أو سلمت المعسكرات، أو تعهدت بقلب الطاولة على الجميع وتحويل اليمن إلى صومال جديد؟
وهل فبراير وشبابها من دعموا تقوية فصيل ضد الآخرين لضرب قوى المعارضة ببعضها، أم أنها لعبة قديمة عندنا في النظام؟
هل فبراير من ساعدت وسهَّلت تدمير ما تبقى من اليمن وإقحامه في حروب كان يمكننا تجنبها، أم أنها القوى التي نبتت في حضن النظام، وتحالفت معه؟!
لم يكن بوسع فبراير تغيير كل النّخب، وإنما حاولتْ وضع حدٍ لأهم أُسس النظام، لعلَّنا نهدم أهم العوائق، ولكن هؤلاء أنفسهم لم يغفروا للشعب جرأته ورغبته في التغيير، ولم يكن لدينا حلفاء جيدون، وإنما متربصون، ولم يكن لدينا قادة تاريخيون بحجم الموقف للأسف، بل حتى بعض الرموز الجيّدة التي ظهرت خارج القوى التقليدية العسكرية والقبلية والدِّينية، وجاءوا من خلفية حقوقية فقط؛ مثل الأستاذة توكل وغيرها، يحاول البعض بجهل غير مفهوم تشويهها، إما عبر تحميلها كل إشكاليات ما بعد فبراير وبطريقة سحرية غير عقلانية، أو بالسخرية والتقليل من شأنها كونها إمرأة، بينما يتفهم البعض ويتسامح مع مراكز القوى العسكرية والقبلية، التي دمّرت البلد فعلياً.
وصحيح أن توكل اليوم أصبحت فاعلا سياسيا محليا ودوليا مهما، ولكن قوتها السياسية والإعلامية والشعبية لا خوف منها، وهي ذات طبيعة أقرب إلى مصالح الناس، وتحتاجهم بالقدر الذي يحتاجونها، كما أنها أكثر استقلالية من قوى السلطة الحالية، وهي -بلا شك- مصدر قوة جديد غير ملطخ بدماء الشعب ولا أمواله، وأظن أنه من الجيّد والمهم تشجيع هذا الصعود، ولكن بعضنا بقصد أو بدون قصد يسير خلف دعاية التشويه، كي يبقى "الفندم والشيخ" هم الرموز الوحيدة للبلد.
أما فيما يتعلق بالقيم والأهداف، التي عبَّرت عن جوهر ثورة فبراير، أو غيرها من التحرّكات الشعبية المماثلة، فهي تعبير عن شأن إنساني وتطلّعات من صميم طبيعتنا، وهي لا تنتهي بمجرد أي سقطات أو إشكاليات، وإنما تظل نصب العين، وأفقا يتم السعي له باستمرار.
ولم يكن يوماً الرضوخ للأمر الواقع، وتقديس الاستقرار النسبي على حساب كرامة الإنسان وحريته، فعلا إنسانيا، فالإنسان سابق الدولة، وهي من تنشأ من أجله وليس العكس.
كما لم يكن الحديث عمّا يجب أن يكون أمرا خياليا أو ترفيا لا معنى له، وإنما جزء أساسي من إنسانيتنا، وعامل مهم في السعي نحو الأفضل، وتغيير واقعنا، وكثير من تجارب التاريخ تؤكد لنا أن الأحداث المهمة صنعها الطموح والقيم أيضا، ولكم أن تتخيلوا عالما يقدِّس الواقع ولا يؤمن بأي قيم أو آمال وأحلام تكبح جماح قسوته، وتتطلع لإصلاحه وتغييره قدر الممكن؟!
لا شك أنه سيكون أسوأ بكثير مما هو عليه الآن، وعلينا أن لا نتحول إلى كتل فاقدة للأمل، وخائفة ومقموعة من طموح التغيير، وإنما على الأقل يمكننا البحث في أفضل الوسائل الممكنة دون التخلي عن إنسانيتنا..