مقالات
ما الذي أبقته الحرب من مناسباتنا الوطنية؟
مثل كل الأعياد الوطنية في اليمن (سبتمبر/ أكتوبر/ مايو) مرت ذكرى الاستقلال المجيد (30 نوفمبر 1967م)، منذ أيام ثلاثة، دون أن تثير في نفوس اليمنيين في الشمال أو الجنوب أي نوع من البهجة، ليس باعتبارها حدثاً عابراً في تاريخ اليمن المعاصر لا يستوجب الاحتفاء به، أو التوقّف عند محطاته واستخلاص الدروس منه -كما يُقال- وإنّما للوضع البائس الذي يعيشه اليمنيون جراء الحرب، التي تلفُّ البلاد منذ سبعة أعوام، وليس في الأفق ما يشير إلى قُرب توقفها، والتي جعلت من هكذا مناسبات تمرّ بكل هذا الهدوء، حتى إنّها كصنيع سياسي دفع الكثير من الآباء دماءهم لتحققه، أنتج تساؤلات و"نقودات" قاسية، تشكك في جدوى حضوره في أجندة المفاخرة، حتى إن بعض البائسين رأوا في الاستقلال غلطة فادحة، ويجب الاعتذار عنها.
لكن لا بأس من إعادة معاينة الظروف التي أنتجت استقلال الجنوب اليمني المحتل من أعتى إمبراطورية استعمارية في العالم (بريطانيا)، تركت، عشية رحيلها، جغرافية الجنوب مشتتة ومتنازعة بين أكثر من عشرين مكوّن قروي ومناطقي وجهوي (سلطنات ومشيخات).. الاستقلال اُنجز بعد رحلة كفاح مسلّح اتخذته المكوّنات الثورية في الجنوب، وعلى رأسها الجبهة القومية، التي اختطت هذا المسار، ورأت في البندقية اللغة الوحيدة القادرة على إيصال صوت الثوّار إلى العالم.
استقل الجنوب اليمني المحتل في ظرف بالغ التعقيد يمنياً وإقليمياً؛ ففي الداخل جاء بعد أقلّ من شهر واحد - خمسة وعشرين يوماً على وجه التحديد- من انقلاب الخامس من نوفمبر في صنعاء، وهو الانقلاب الذي أعاد تموضع الصف المناهض لعبد الناصر وحلفائه في الداخل والقريب من المملكة العربية السعودية، وجاء بعد قرابة ستة أشهر من نكسة يونيو 1967م، التي أنتجت التصدّع الأكبر في الخطاب القومي العربي، الذي كانت الجبهة القومية جزءاً حيوياً من مبذولاته.
أدار البلاد بعد الاستقلال مباشرة اتجاه ثوري، بقي يراوح في المساحة الرمادية في سياق اليسار والاتجاه القومي، وبعد دوامات صراع (تسمت في الإعلام الرسمي وأدبيات السياسة التي أنتجتها المرحلة بالمحطات التصحيحية) استقر، بعد ذلك، الحكم على الاتجاه الأكثر راديكالية في صفوف اليسار، تخلّص بعد سنوات قليلة من بعض حلفائه وشركائه، وانتهج مساراً ستالياً متشدداً، أنتج تناقضاته في مجتمع، معظم بنيته ريفي متخلّف، فأفضى بدوره إلى الانفجار الدامي في يناير 1986م.
المسار الاقتصادي لدولة الاستقلال اتخذ طابعاً اشتراكياً، بتحويل المنشآت والمؤسسات المالية والصناعية والتجارية الزراعية، التي ورثتها عن الحقبة الاستعمارية، إلى قطاع دولة (قطاع عام)، الأولوية في عائداته كانت لدعم توجّهات الدولة الاجتماعية في التعليم والتطبيب والإعاشة، وبسبب مغادرة رؤوس الأموال الوطنية والأجنبية لمدينة عدن -بعد عملية التأميم أوائل السبعينيات- بدأ هذا القطاع بالانكماش والتآكل بسبب عدم تحديثه وتطويره، مع تطوّر لافت للرعاية الاجتماعية والتعليم وبناء هياكل دولة صارمة أمنية، أحكمت السيطرة على جغرافية مترامية تتهددها مخاطر جمّة.
في سباق استقطابات الحرب الباردة، بقيت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية لأكثر من عشرين عاماً مصطفّة في إطار المعسكر الاشتراكي، ومنعزلة تقريباً عن محيطها القريب، وفي عداء مستحكم مع شطرها الآخر (الجمهورية العربية اليمنية)، التي كانت مصطفّة هي الأخرى في الموقع المضاد (المعسكر الغربي)، الذي تحتمي به حليفتها السعودية.
كل مظاهر التمدّن والرفاه الاقتصادي، الذي شهدته عدن خلال خمسينات وستينات القرن العشرين، بدأ بالخفوت مع الزحف الريفي على المدينة بكل مشغلاته الاجتماعية، وتمكين مواليي الجبهة ومتشدديها زمام الإدارة، فكان أن ضاعت "المكاسب السياسية والقانونية والنقابية، التي ناضل الناس من أجلها منذ ثلاثينات القرن الماضي، عندما أطاح بها الحزب الواحد كلها بضربة واحدة، مشاركاً بسباق الحمى التي اجتاحت حركة التحرر الوطني"، كما يقول الدكتور أبوبكر السقاف في موضوع عنوانه "الاستقلال الذي ضاع مرتين"، ومنشور في كتابه "دفاعاً عن الحرية والإنسان"، ص 216.
ومع كل ذلك أبقى مسيِّرو الحكم في جمهورية اليمن الديمقراطية، رغم تنازعاتهم الدّموية، حضوراً ذا قيمة للوطنية اليمنية ومشروع الدولة المتماسكة، التي ترعى مصالح مواطنيها في حدود الكفاية، ورحل أغلبهم فقراء دون أن يتكسّبوا من مواقعهم، على العكس من مسؤولي أقلّ شأناً وأحط قيمةً، أثروا من مزاولاتهم وظائف عامة في الجمهورية العربية اليمنية، ،أو في بلدان مشابهة.
(2)
الحرب الطويلة في اليمن، التي تأسست على حروب وأزمات كثيرة، انتزعت من الناس مشاعر الانتماء - إن صح قول مثل هذا- بسبب الثلمات الكبيرة التي أصابتهم بها، وجعلت الكثير منهم ينبشون في قضايا كان الكثيرون يظنون أنها انطمرت مع الوقت، وأن الثورة اليمنية قد صنعت تحولاً جذرياً في حياة اليمنيين ووعيهم، وزوايا النظر إلى مثل هكذا قضايا، غير أن الأمر كان غير ذلك تماماً.
في تلخيصه لحالة الحرب القائمة في اليمن، قال الراحل الكبير هشام علي بن علي (1952عدن- 2017 صنعاء)، الذي يصادف العاشر من ديسمبر ذكرى رحيله الرابعة، وهي بصورتها الدّموية هذه تستعيد كثيراً من الحروب التي مرت بها اليمن خلال القرن الماضي منذ بدايات الحركة الوطنية ضد النظام الإمامي وضد الاستعمار، حروب الثورة والثورة المضادة، حروب الملكيين والجمهوريين، حروب اليمين واليسار، حروب الشمال والجنوب، حروب الجبهة الوطنية والنظام الحاكم، وغيرها من الحروب الطائفية والقبلية والأيديولوجية.. الحرب الراهنة جمعت كل هذه الحروب التي مرّت في تاريخ اليمن منذ بدايات الصورة ضد الإمامة والاستعمار حتى قيام الوحدة..
"دعوات الانفصال والإمامة والطائفية، والحلم بعودة الاستعمار وغيرها من الدعوات الماضوية، كأنّ {المتحاربين} يعلنون براءتهم من تاريخ الثورة والوحدة والتغيير، ويدعون إلى العودة إلى يمن القرن التاسع عشر، بكل أشطاره وسلطناته وإماراته وطوائفه وقبائله، وغيرها من مظاهر التفكك والتفتيت التي حاولت الثورة تغييرها، وبناء "يمن واحد موحّد".
إنها الحرب التي تشبهنا في حزننا وفقرنا وشتاتنا وضعفنا، وخرجت مغسولة بالغبار والدّم من إرثنا التاريخي القريب، حين كانت اليمن ساحة لتصفية حسابات القوى الإقليمية المتنازعة في إنقسام العالم بين المعسكرين، ولا يمكن أن تسكت بنادقها إلاًّ حين يجتمع اليمنيون على مشترك واحد، وهو اتفاقهم على كونهم ضحايا وكلاء حرب جشعين وحكام منزوعي الضمير، يراكمون ثرواتهم ومنافعهم من دم الضحايا وأقواتهم؛ الضحايا الأحياء الذين صاروا يرون في المناسبات الوطنية موالاً أصفر وطويلاً من الأكاذيب.