تقارير
الخوف من الداخل.. هل تهدد الجماهير سلطة الحوثيين أكثر من الخارج؟
تعكس حملات القمع والاعتقالات التي تنفذها مليشيا الحوثيين في مناطق سيطرتها مخاوفها من انتفاضة شعبية تطيح بسلطتها، وهو ما يعكس هشاشة تلك المليشيا رغم أنها تدعي مجابهة القوى الكبرى وتحالفات عربية ودولية، كالتحالف العربي بقيادة السعودية والتحالف الدولي في البحر الأحمر (أسبيدس)، فضلا عن مواجهة الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي.
المفارقة المثيرة أن مليشيا الحوثيين تخوض مغامرات جريئة في التحرش بالقوى الكبرى ومشاغبتها دون خشية من أن يؤثر ذلك على سلطتها، كما أنها تواصل مغامراتها في تنفيذ هجمات ضد الاحتلال الإسرائيلي وتهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر دون أي مخاوف من أن تلقى مصير حزب الله اللبناني أو نظام بشار الأسد، أو حتى تلقي ضربات مؤلمة كتلك التي تعرضت لها إيران، فلماذا لا تخشى تلك المليشيا على سلطتها من القوى الأجنبية رغم امتلاكها أسلحة فتاكة، لكنها تخشى من أي انتفاضة شعبية في مناطق سيطرتها؟
- اعتقالات وتوترات
بالتزامن مع حملات الاعتقالات التي طالت مدرسين وأكاديميين وأطباء ودعاة وأئمة مساجد في عدد من المحافظات، تشهد بعض مناطق سيطرة مليشيا الحوثيين احتقانا اجتماعيا وسياسيا يكشف عن تصدع العلاقة بين الحوثيين والقبائل رغم سيطرتهم الطويلة عليها وبروز بعضها كحاضنة شعبية لهم وتمثل رافدا كبيرا لهم بالمقاتلين، خصوصا قبائل محافظة عمران.
وقبل أيام، عمدت المليشيا الحوثية إلى تنفيذ عرض عسكري أمام منزل الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر، رحمه الله، في العاصمة صنعاء، وهو شيخ قبيلة حاشد التي ينتشر معظمها في محافظة عمران، ويتزعم القبيلة حاليا نجله الشيخ حمير الأحمر، كما هاجمت المليشيا منطقة العصيمات في عمران بذريعة نزاع حول بئر، مما فجر مواجهات قبلية وسقوط قتلى وجرحى.
علاوة على ذلك، تصاعدت حوادث قتل وخطف واستهداف مشايخ قبائل من قِبل الحوثيين، وافتعال نزاعات مع بعض القبائل مثل أرحب وآل الغولي، فضلا عن التوتر بين الحوثيين وجناح حزب المؤتمر الموالي لهم (المشاط-أبوراس)، وسط خشية من تقارب محتمل بين قبيلة حاشد وأسرة الرئيس الأسبق علي صالح، خصوصا بعد حضور بعض وجهاء قبيلة حاشد حفل عرس نجل علي صالح في القاهرة.
مثل هذه التطورات، رغم أنها لا ترقى إلى تهديد سلطة الحوثيين، لكنها تسبب الاستنفار والقلق في أوساطهم، كونها مؤشرات على تصدع هيمنتهم الكاملة على القبائل، وظهور نفور فردي وجماعي منهم، ردا على سياسات النهب والإذلال التي تقود إلى غضب قبلي واسع قد يتطور إلى انتفاضة شعبية ضد سلطة المليشيا.
- أسباب تنامي قلق الحوثيين
بدأت مخاوف الحوثيين من اندلاع انتفاضة شعبية ضدهم في مناطق سيطرتهم تزداد منذ عامين تقريبا، عندما خرج المواطنون في احتفالات صاخبة بمناسبة ذكرى ثورة 26 سبتمبر 1962 التي أطاحت بالإمامة الكهنوتية التي جاءت من رحمها مليشيا الحوثيين حاملة مشروع إعادة الحكم الإمامي البائد.
وكانت تلك الاحتفالات الجماهيرية، التي شهدتها بعض شوارع العاصمة صنعاء ومدن وأرياف أخرى تسيطر عليها المليشيا، بمنزلة تعبير عن الرفض الشعبي للمليشيا الحوثية، فخشيت المليشيا من أن تتحول تلك الاحتفالات، الأشبه بمهرجانات احتجاجية، إلى انتفاضة شعبية ضدها.
ولذلك فالمليشيا الحوثية بادرت، العام الماضي، بشكل مبكر استعدادا لمنع تلك الاحتفالات، وشهدت مناطق سيطرتها انتشارا أمنيا مكثفا مسنودا بعصابات من البلاطجة يحملون هراوات وعصي لمنع المواطنين من الاحتفال بذكرى الثورة السبتمبرية.
كما نظمت المليشيا احتفالا رمزيا بذكرى الثورة في ميدان التحرير بقلب العاصمة صنعاء بهدف إظهار عدم انزعاجها من الثورة السبتمبرية التي تعد محطة تاريخية لمحاكمتها، والزعم بأن الاحتفال بذكرى الثورة يقتصر على "الدولة" فقط، مع أنها لم تكن تحتفل بهذه المناسبة في السنوات الماضية.
وهذا العام، بدأت المليشيا الحوثية بتنفيذ حملات قمع واعتقالات بشكل مبكر جدا قبل قدوم ذكرى ثورة 26 سبتمبر، وتزداد وتيرة حملات القمع والاعتقالات كلما اقترب شهر سبتمبر، بالتزامن مع الدفع بتعزيزات عسكرية إلى مختلف الجبهات، وشن هجمات على مواقع للجيش الوطني في جبهات عدة، والإفراط في خطاب التعبئة القتالية والتحريض ضد المعارضين ووصفهم بأنهم "عملاء إسرائيل"، في سياق استغلالها للقضية الفلسطينية لتلميع صورتها في الداخل.
وهناك أيضا سبب آخر لمخاوف الحوثيين، وهو التفاعل الشعبي مع سقوط نظام بشار الأسد وانهيار حزب الله اللبناني، وهو تفاعل يوجه رسائل سياسية للحوثيين، بل تخللته دعوات صريحة لاستثمار انهيار أبرز مكونات المحور الإيراني لإنهاء سلطة الحوثيين، الذين يتخذون من القضية الفلسطينية وسيلة للمتاجرة السياسية والتغطية على بشاعة سلطتهم الانقلابية وانتهاكاتهم الوحشية لحقوق الإنسان.
وفي 5 أغسطس الجاري، قالت صحيفة "الأخبار" اللبنانية، المقربة من حزب الله، إن مليشيا الحوثيين تلقت تقارير استخباراتية تفيد بتعاون السعودية مع إسرائيل في مخططات تستهدف اليمن (سلطة الحوثيين). ومع أن مثل هذه الأنباء لا تعدو كونها مجرد أوهام، كون الحوثيين ليس لديهم استخبارات خارجية تخولهم الحصول على مثل هكذا معلومات، إلا أنها تعكس في جوهرها حالة القلق الدائم لدى المليشيا من أي تهديد خارجي محتمل.
ومن هذا المنطلق، يمكن فهم نشر مثل هذه الأخبار باعتبارها جزءا من خطاب مزدوج: فمن جهة يبرر حالة الاستنفار الداخلي، ومن جهة أخرى يوظف كورقة ابتزاز ضد السعودية، عبر التلويح باستهدافها، في حال أقدمت إسرائيل على تنفيذ عملية عسكرية نوعية ضد الحوثيين، وذلك على أمل دفع الرياض للضغط -عبر واشنطن- نحو منع أي تحرك إسرائيلي جاد وعنيف ضد المليشيا، من شأنه أن يؤثر على موازين القوة في الداخل، ويضعف الحوثيين أمام خصومهم اليمنيين.
- لماذا الخشية من الداخل أكثر من الخارج؟
تُظهر التجارب التاريخية أن الثورات الشعبية كانت دوما العامل الأكثر حسما في إسقاط السلطات الاستبدادية، حتى تلك التي كانت تبدو عصية على الانهيار بفعل قوتها العسكرية أو تحالفاتها الخارجية، ومن نماذج ذلك نظام بشار الأسد في سوريا ونظام معمر القذافي في ليبيا.
وبخصوص مليشيا الحوثيين كسلطة أمر واقع استبدادية، فإن الضغوط أو العمليات العسكرية الخارجية، مهما بلغت حدتها، غالبا تمنح المليشيا فرصة لتوحيد جبهتها الداخلية واستدعاء خطاب "المظلومية" ومقاومة "العدوان"، وهو ما يعزز التماسك (المؤقت أحيانا) بين القيادات والمقاتلين والقبائل المترددة.
غير أن أي تصدع من الداخل، سواء من القبائل التي تشكل عمودها الفقري من المقاتلين أو من الجماهير التي تعيش تحت وطأة الجوع والنهب والاضطهاد، سيكون كفيلا بإضعاف قبضة الحوثيين على السلطة، ومن هذا المنظور فإن أخطر ما يواجه الحوثيين ليس إسرائيل أو الولايات المتحدة أو حتى التحالف العربي، وإنما ذلك الغضب الشعبي المتراكم الذي يمكن أن ينفجر في لحظة غير محسوبة.
فالخارج، مهما اشتد ضغطه، يظل عاملا يوحد المليشيا الحوثية ويمنحها ذريعة للبقاء، بينما الداخل يملك القدرة على تفتيت الجبهة الحوثية من قلبها، وتجريدها من حاضنتها الاجتماعية والقبلية، وهو ما يجعل أي انتفاضة قادمة، إن اندلعت، أعظم تهديد وجودي يواجه سلطة الحوثيين منذ انقلابهم على الدولة عام 2014.
- الغضب الشعبي من السلطة القمعية
تقوم سلطة مليشيا الحوثيين على أساس القوة العسكرية الخشنة والقبضة الأمنية الحديدية، وترتيب أمني صارم يقوم على أجهزة استخبارات وكتائب متخصصة في الملاحقة والقمع والاعتقال، حتى تحولت مناطق سيطرتها إلى فضاء مراقب أشبه بالثكنة العسكرية.
ونتيجة لذلك الضغط العنيف والمتوحش ضد المجتمع، يتزايد الاحتقان الشعبي ضد الحوثيين، خصوصا مع تفاقم الوضع الاقتصادي والمعيشي الذي بات كارثيا على مختلف المستويات، إذ يجد المواطن نفسه محاصرا بالفقر والجوع، في حين يزداد الثراء الفاحش لقيادات المليشيا وعائلاتهم.
يضاف إلى ذلك تنامي مشاعر غضب صامت، تتجلى في التململ من الخطاب الطائفي الذي يفرضه الحوثيون في المدارس والمساجد ووسائل الإعلام، بوصفه غريبا عن معتقداتهم الدينية وثقافتهم اليومية، ومتناقضا مع معاناتهم المعيشية.
وهذا الرفض غير المعلن يضعف فعالية التعبئة الطائفية، ويؤشر إلى تراكم نقمة قد تنفجر في أي لحظة على شكل احتجاجات أو انتفاضة شاملة، خصوصا مع سعي الحوثيين إلى فرض معتقدهم الديني على الآخرين ومحاولة سلخهم عن عقيدتهم الدينية الراسخة.
- هواجس الخوف من ثورة شعبية
تعيش مليشيا الحوثيين هاجس الثورة الشعبية كأخطر تهديد لسلطتها، وهو ما يفسر تشديدها غير المسبوق للرقابة الأمنية على المجتمع، ونشرها أجهزة الاستخبارات التي تتابع تحركات الأفراد وأنشطتهم حتى في أدق التفاصيل، وخصوصا نخبة المجتمع، أو ممن لا يعبرون عن ولائهم لها، وتتبع حتى منشوراتهم وتفاعلاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
ولم يتوقف الأمر عند الرقابة، وإنما يمتد إلى سياسة ممنهجة لقمع أي تجمع بشري أو نشاط اجتماعي أو ثقافي يمكن أن يُقرأ كحالة احتجاجية. فمنع الفعاليات الطلابية، والسيطرة على المساجد، وحظر الوقفات الاحتجاجية والمظاهرات، والاعتقالات الاستباقية للأكاديميين والمدرسين وأئمة المساجد والناشطين، كلها أدوات يحرص الحوثيون على استخدامها باكرا قبل أن تتسع دائرة الاعتراض والرفض وتتحول إلى انتفاضة شعبية منظمة وشاملة.
ويوازي ذلك حملة واسعة النطاق تستهدف شيطنة أي صوت معارض عبر وصمه بصفة "الخيانة" أو "العمالة"، فكل من ينتقد المليشيا أو يرفض سياستها يوضع فورا في خانة "عملاء العدوان" أو "عملاء إسرائيل"، بما يسمح للمليشيا تبرير قمعه، وهذا الخطاب الدعائي يهدف إلى خلق بيئة خوف نفسي واجتماعي، فيتردد المواطنون في التعبير عن آرائهم مخافة التعرض للتصفية الجسدية أو السجن والتشهير.
أخيرا، إن الإفراط في الرقابة على المجتمع والقمع والدعاية، وإن بدا في الظاهر ضامنا للسيطرة، إلا أنه يعكس هشاشة سلطة الحوثيين وقلقهم الدائم من انفجار داخلي يفوق قدرتهم على السيطرة، فالتجارب التاريخية تؤكد أن السلطات القمعية والطارئة التي تبالغ في عسكرة المجتمع وتشيطن معارضيها تكون أكثر عرضة للانهيار المفاجئ، لأن الخوف المصطنع لا يلغي الغضب الشعبي، وإنما يؤجله إلى لحظة تراكمية تنفجر بقوة مضاعفة.