تقارير

تسريح العمال .. صناعة للفراغ ومعاناة الأسر في تعز

08/12/2021, 14:05:37
المصدر : قناة بلقيس - هشام سرحان

تسريح الشاب هاشم يحيي (35 عاماً) من عمله في إحدى وكالات بيع الجوّالات في مدينة تعز جعله يتجرّع مرارة الفراغ والفقر، ويكافح من أجل البقاء وتوفير أدنى المستلزمات لأسرته، التي أثخنتها المعانات والبؤس والشقاء والعوز وقسوة الحياة وصعوبة الظروف وتردّي الأوضاع المادية والمعيشية وشدة الحاجة للغذاء والدواء، وغيرها من المتطلبات التي يصعب عليه اليوم تأمينها، خصوصاً بعد فقدانه وظيفته الخاصة، وراتبه الذي يعد مصدر دخله الوحيد مع عائلته.

شهدت تعز  - المحافظة الأكثر كثافة سكانية في البلاد- خلال السنوات الماضية عملية تسريح جماعي للعمال في القطاع الخاص والموظفين الحكوميين، وهي ظاهرة ألقت بالمئات  في دائرة الفراغ وشدة المعانات، والتداعيات الكارثية التي طالت أسرهم، وعرّضتها للجوع والفاقة والمرض والتشرد، والحرمان من التعليم والصحة، وشدة الحاجة للطعام والمياه والمأوى والعلاج، وغيرها من متطلبات العيش والبقاء.

تضررت بيئة المال والأعمال في البلاد بشكل كبير، وتوقفت الكثير من الأنشطة والأعمال والمشاريع الاستثمارية، كما تدمرت وتضررت عشرات المنشآت والمصانع والشركات، وأفلست أخرى بفعل استمرار الحرب والانقسام المالي والسياسي وتفشّي الأوبئة، والانفلات الأمني، وخضوعها للجبايات والرسوم الجمركية المزدوجة، والضرائب المرتفعة، و الإتاوات المخالفة للقانون والاعتداءات، ما أضر بنشاطها، وأجبر بعضها على النزوح وتسريح العاملين أو تخفيض مرتباتهم وإيقافها.

عمل يحيى على مدار  5 سنوات بدوام كلي، وزاول مهنة بيع الهواتف السيّارة، وترتيبها وتنظيفها، دون أن يتأفف أو يتذمّر من عمله، الذي كان يتقاضى  منه راتبا شهريا يقدر ب100 ألف ريال، ويُبدي رضاً تاماً بما يحصل عليه من عائدات لا تكاد تغطّي سوى جزء يسير من مصاريفه الشخصية، ونفقات عائلته. 

تسريحه من عمله قبيل عام جعله مثقلاً بالفراغ والهموم والفاقة وقلة الحيلة وتراكم الديون والعجز عن إيجاد عمل براتب شهري مناسب، ما دفعه نحو مزاولة بعض الأشغال الشاقة أحياناً، والعمل في نقل الركاب على دراجة نارية لا يملكها، ويدفع لصاحبها إيجارا يوميا يصل إلى ألفي ريال، فيما يصرف ما تبقّى من عائداته اليومية المتواضعة على شراء الوقود ومستلزمات الدراجة، وتأمين أبسط الاحتياجات الأساسية والضرورية لعائلته.

يدور اليوم في دائرة مغلقة، ويتطلّع في الأفق فيجده قاتماً، ولا أمل يتسرّب منه إلى روحه المنهكة، المتطلّعة نحو انفراجة قريبة، وإيجاد حل للمعضلة التي وقع فيها مع عائلته، التي تعيش ظروفاً بالغة السوء والتعقيد، ويسوء حالها يوماً بعد آخر، وينهكها الفقر والحاجة، ويتهددها الجوع والمرض والتشرد والحرمان من التعليم والصحة وغيرها. 

أفق قاتم

يذكر لموقع "بلقيس": "تم تسريحي من عملي السابق دون سابق إنذار، ولأسباب لا أعلمها سوى من مدير جهة عملي، الذي فاجأني مع زميل لي بقرار طردنا، وأخبرنا حينها أن أوضاع منشأته صعبة، ويصعب عليها الاستمرار في استيعاب جميع العاملين، ودفع رواتبهم".

تسببت الحرب الدائرة في البلاد للعام السابع على التوالي في انهيار الاقتصاد المحلي، وتراجع حركة الاستثمار، وتدهور بيئة الأعمال، وإفلاس الكثير من المنشآت، وتسريح الملايين من أعمالهم ووظائفهم التي كانوا يزاولونها، سواء في القطاع العام أو الخاص، في مشهد مأساوي قفزت فيه معدلات البطالة إلى 65%، فيما ارتفعت نسبة الفقر إلى 80%.

أسفرت عن دمار المرافق الحكومية وغيرها، وتعطيل القطاع الخاص، وإفلاس الكثير من المنشآت، وإغلاق 26% من الشركات، كما أجبرت 41% من الشركات على تسريح موظفيها، أو تخفيض رواتبهم،

حسب رواية الاتحاد العام لنقابات عمال اليمن، الذي قدّر في تقرير صادر -في وقت سابق- عدد العمال الذين فقدوا أعمالهم بأكثر من أربعة ملايين عامل وعاملة. 

مؤشرات، يقول خبراء محليون إنها صادمة ومخيفة، وتؤكد على مأساوية وضع العمال في عموم المحافظات، 

التي وجدوا فيها أنفسهم فجأة مجرّدين من أعمالهم، ورواتبهم، وحقوقهم المالية التي ينبغي أن يتسلموها مقابل سنوات عملهم السابقة، وانتهاء خدمتهم.

يتنصل أرباب العمل عن حقوق العمال التي يكفلها القانون، ويستغلون الفوضى وغياب الدولة وضعف الجهات المختصة، ويتنكرون لموظفيهم وما قدموه خلال فترة عملهم، في الوقت الذي تتنصل فيه الحكومة الشرعية عن مسؤوليتها تجاه الموظفين المتوقفين عن أعمالهم في عدد من المكاتب والمؤسسات الحكومية، خصوصاً في مدينة تعز الخاضعة لسيطرتها. 

اكتفى صاحب المنشأة التي كان يعمل فيها يحيى بإشعاره بقرار تسريحه، ولم يمنحه أي حقوق مالية مقابل ما يُعرف ب'بدل نهاية الخدمة'، كل ما فعله هو إخباره بدم بارد عن قرار طرده، وأردف قائلاً: "الله معك، لم يعد لك مكان هنا".

كلمات حلّت على يحيى كالصاعقة، وأصابته بخيبة أمل كبيرة، وفاقمت معاناته مع أسرته، التي ساءت أحوالها وتدهورت أوضاعها المادية والمعيشية ببطء، وازداد افتقارها للمال، واشتدت حاجتها إلى الغذاء والدواء وإيجار الشقة، وغيرها من المتطلبات، التي أضحى يحيى اليوم عاجزاً بشكل شبه تام عن تأمينها، وذلك بالتزامن مع ندرة الأعمال والمساعدات، وغياب مصادر الدخل، وانهيار العملة المحلية، وغلاء المعيشة والأسعار، وارتفاع إيجارات السكن.

صناعة المعانات

تحدق به الهموم، وينتابه القلق، وتشتد مخاوفه من المصير المجهول الذي يترصّده مع أسرته، التي يخشى عليها من الجوع والمرض والتشرد والحرمان والتوقف عن التعليم، وغيرها من التداعيات الكارثية والمأساوية، التي يمكن أن تطالها في قادم الأيام.

تتعدد قصص المسرَّحين من أعمالهم في تعز، فالشاب محمود عبده (30 عاماً) تم إيقافه -منتصف العام الماضي- عن العمل في إحدى المنشآت الخاصة، وذلك بعد ثلاث سنوات زاول فيها العديد من المهام المحاسبية والإدارية.

تم تضييق الخناق عليه تدريجياً بأساليب مختلفة، بدأت بعدم صرف مستحقاته المالية المتواضعة، والمضافة شهرياً لراتبه، مروراً بالتأخر عن صرف راتبه، ومن ثم انقطاعه تماماً، وهي ممارسات انتهت بتسريحه.

بدأ رحلة بحث جديدة عن عمل آخر، لكن صعُب عليه ذلك، وسرقه الوقت من حيث لا يدري، وداهمته المعانات والهموم والعجز عن إطعام عائلته الصغيرة وتوفير متطلباتها، والإيفاء بالتزاماته نحوها، وتأمين احتياجات طفله الرضيع الوحيد.

ساءت أحواله، وتراكمت ديونه، وتم طرده من الشقة التي يسكن فيها مع عائلته الصغيرة، لتراكم الإيجارات عليه، وهو ما اضطره إلى بيع مدخرات زوجته، وبيع الأثاث الذي اشتراه قبل زواجه، لسداد ما عليه من ديون، كما أعاد زوجته وطفله الرضيع إلى قريته في إحدى المديريات الريفية، وهناك تركهم ليقيموا في منزل أبيه، وتوجّه نحو البحث عن وسيلة تمكّنه من سد رمقه مع أسرته.

استدان مبلغا ماليا من بعض أقاربه وأصدقائه، واشترى "باصا صغيرا"، وعمل في نقل الركاب بين شوارع مدينة تعز، لكن العائدات اليومية كانت متواضعة، ولا تغطّي مصاريفه الشخصية، ومستلزمات الباص، ونفقات أسرته التي ساء حالها، وتدهورت أوضاعها، واشتدت حاجتها للعديد من متطلبات العيش، وعلى رأسها الحليب والدواء لطفله.

دفعه ذلك إلى استجداء أصدقائه، طالبا منهم المال اللازم لشراء حاجيات صغيرة، الأمر الذي حزّ في نفسه، وأخجله كثيراً، وأشعره بالحسرة والحزن، وزاد من ألمه، وأرّقه، وفاقم همومه، وجعله مغموماً وشارد الذهن وضيّق الصدر وسريع الانفعال وكثير التذمّر. 

يقول لموقع "بلقيس": "أوقعني ذلك في مأزق مادي ومعيشي كبير، وقلب حياتي رأساً على عقب، وجعلني حائراً ويائساً وشديد الخوف والقلق على طفلي المصاب بالحمى، التي أخشى أن تفتك به، في الوقت الذي يشتد افتقاري للمال، ولم أستطع أن أطعمه، أو أشتري له حبة دواء". 

مشهد مأساوي

اختلّ توازنه النفسي والأسري، وأصبح كثير الغضب، وعديم الصبر، فتسريحه من العمل لم يسلبه راتبه ومصدر دخله الوحيد فحسب، بل سلبه راحته واستقراره وطمأنينته وسكينته وطباعه الهادئة، وعكّر أجواء حياته الزوجية، وأتى على ما فيها من تفاهم وأُلفة وانسجام، كما سرّب الخلافات والمشاكل إلى عشّه الصغير.

أصيب الكثيرون من المسرَّحين بحالات نفسية، ولجأ بعضهم إلى الانتحار، في حين تفككت أسرهم، وتزايدت حالات الطلاق في أوساطهم، وتعرّضوا للتشرّد والحرمان والجوع والمرض، وسلسلة صدمات أحدثت تشوّهات كبيرة وآثارا غائرة في أعماقهم، وجعلتهم بحاجة ماسّة لدعم نفسي ومادي ومعنوي كبير، لمحو تلك الأضرار، تقول روايات متطابقة لموقع "بلقيس".

قادت الأوضاع الراهنة مئات آلاف العاملين في مختلف المشاريع الاستثمارية والمهن الزراعية والحِرفية والتجارية والصناعية والصيد، والأشغال اليدوية والعامة وغيرها، نحو البطالة وشدة الفاقة، وجعلتهم يعيشون واقعاً مؤلماً ومريراً، وحياة قاسية وظروفاً بالغة السوء والتعقيد، ودفعتهم نحو المزيد من التدهور الذي لا بوادر لتوقّفه في بلد يضيق فيه الخناق على العمال، وتتهيأ الأجواء لتجار الحروب فقط.

تعرّض الموظفون الحكوميون في البلاد لسلسلة من المضايقات والانتهاكات، والممارسات التعسفية من قِبل أطراف الصراع، التي أقدمت على فصل المئات منهم، واستبدالهم بآخرين موالين لها، فيما تعرّض عمّال القطاع الخاص والمختلط وغير المنتظم للتسريح والطرد، لأسباب مختلفة، أبرزها استهداف مختلف المنشآت الحيوية والمصانع ومواقع العمل، ودمارها، وانقطاع الرواتب. 

عشرات الموظفين في عدد من المرافق الحكومية المدمّرة بتعز يعيشون مرارة التسريح أيضاً، إذْ فقدوا وظائفهم ورواتبهم، وتجرّعوا مع أسرهم مرارة الجوع والفقر والمرض والفراغ والهموم، وتراكم الديون والحرمان من الغذاء والدواء والمأوى، كما تعرّضوا للطرد من المنازل، وتشرّد أولادهم في الشوارع، وحُرموا من التعليم وغيره من الحقوق.

الانقسام المالي والسياسي ألقى هو الآخر بتداعياته الكارثية على الاقتصاد المحلي، وتسبب في تراجع النشاط التجاري والاستثماري، وعطّل حركة العمل، وتسبب في تسريح شريحة واسعة من العمّال والموظفين، بينهم أكاديميون غادروا أعمالهم، وتوجّهوا نحو مزاولة العديد من الأعمال والأشغال الشاقة، التي لا تتناسب مع مؤهلاتهم وخبراتهم ومكانتهم.

كورونا وآلة الحرب

انتشار فيروس 'كورونا' أوقف أيضاً الحياة برمّتها، وتسبب في تسريح مئات العمّال في تعز وغيرها، و أضاف مأساة جديدة لا تقل ضراوة عما فعلته آلة الحرب ونيران المواجهات، التي استهدفت المزارع والحقول بالقذائف والأعيرة النارية المختلفة، وحوّلتها إلى مسرح للعمليات القتالية، وحقولاً للألغام والمتفجّرات، وتسببت في توقف العمل فيها، وأعاقت عملية فلاحتها واستصلاحها، كما أجبرت مالكيها على الاستغناء عن العمال الذين كانوا يستعينون بهم من حين لآخر.

تقارير

معادلة السلام والحرب.. عودة للمسار السياسي وخفض التصعيد في البحر

يشير الواقع إلى أن مليشيا الحوثي، التي عطلت مسار جهود الحلول الأممية، خلال السنوات الماضية، وفق تصريحات الحكومة المتكررة، لا تمانع الآن من الدخول في تسوية محدودة مع السعودية، تسد حاجتها المالية والاقتصادية، وتخفف من أزمتها الداخلية.

تقارير

صفقة سعودية حوثية.. ترتيبات متقدمة وتحذيرات من النتائج

تتسارع الخطى نحو وضع اللمسات الأخيرة على خارطة الطريق الأممية، التي تحمل في مضمونها تفاهما وتقاربا حوثيا - سعوديا، لم يكن يتوقعه أحد، لا سيما إن استعدنا شريط الذكريات للعام الذي انطلقت فيه عاصفة الحزم، وتهديد الطرفين بالقضاء على الآخر، إذ تعهد الأول بإعادة الشرعية إلى صنعاء، فيما توعد الآخر بالحج ببندقيته في مكة.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.