تقارير
جرحى الجيش في مأرب.. تضحيات جسيمة وصرخة في وجه التجاهل الرسمي
وسط حرّ الشمس وحرقة الجراح، يعتصم العشرات من جرحى الجيش الوطني أمام مقرات رسمية في مدينة مأرب، في مشهد يعكس إهمال السلطات إزاء معاناة جنود وضباط فقدوا أطرافهم أو تشوهت أجسادهم في ميادين القتال، ثم عادوا ليجدوا أنفسهم أمام دولة غائبة، ومؤسسات عاجزة، ووعود حكومية لا تصل إلى التنفيذ.
برنامج "المساء اليمني" تناول هذه القضية في حلقة خاصة، كشفت عن حجم المعاناة التي يعيشها جرحى الحرب، مسلطًا الضوء على الإهمال المؤسسي المزمن، وغياب آليات واضحة لمعالجة جراح من دافعوا عن الجمهورية، وجسّدوا في أجسادهم ثمناً باهظًا لبقاء الدولة.
صرخة من الشارع: جراح لم تُشفَ
نقلت قناة بلقيس من قلب اعتصام الجرحى في مأرب شهادات الجنود والضباط عن انقطاع رواتبهم، وغياب الدعم الطبي، وتراكم الديون، فضلاً عن شعور بالغدر والإهانة.
يقول أحد الجرحى: "لم يعد بوسعنا توفير القوت اليومي. لدينا أسر نُعيلها، ولم نعد نملك حتى قيمة الدواء".
ويضيف آخر: "نُعامل كأننا عبء، لا كأبطال قدموا أجسادهم من أجل هذا الوطن".
الدعم انقطع، واللجنة غُيِّبت
العقيد عنتر الذيفاني، الباحث في التاريخ العسكري، قدّم لـ"بلقيس"، سردًا زمنيًا لمسار علاج الجرحى منذ حرب صعدة وحتى اليوم، مشيرًا إلى أن الدولة كانت تتكفل بعلاجهم حتى عام 2020، قبل أن يبدأ الدعم بالتراجع، وتنتهي فعليًا صلاحيات اللجنة الطبية العسكرية.
ويضيف الذيفاني: "كانت اللجنة ترسل الحالات إلى مصر والهند، وكان الدعم متوفرًا. اليوم تحوّل دورها إلى لجنة فنية فقط، والدولة تخلّت عن مسؤولياتها تدريجياً."
موضحًا بأن الاعتصامات ليست إلا انعكاسًا لهذا الانهيار، محذرًا من أن استمرار الإهمال قد يؤدي إلى تآكل ثقة العسكريين بمؤسسات الدولة، في بلد تمزقه الحروب والانقسامات.
وتطرق العقيد الذيفاني إلى ما أسماه "التمييز المناطقي"، مشيرًا إلى أن الدعم الذي يتلقاه الجرحى في مأرب أو تعز لا يُقارن بما يحصل عليه جرحى آخرون تابعون لتشكيلات عسكرية مدعومة خارجيًا، حيث يُصرف لهم بدل يومي يصل إلى 900 جنيه مصري، في حين يُمنح جرحى مأرب أقل من ثلث ذلك المبلغ.
وتابع: "التمييز ليس فقط في العلاج، بل في المعاملة، وفي سرعة الإجراءات، وفي نوعية الرعاية.. ما يترك أثرًا نفسيًا مدمرًا على الجرحى."
المسؤولية أخلاقية وقانونية
من جهته، شدد المحامي توفيق الحميدي، رئيس منظمة "سام للحقوق والحريات"، على أن الدولة لا تملك ترف التملّص من هذا الملف، معتبرًا أن مسؤولية رعاية الجرحى "دستورية وقانونية وأخلاقية".
وقال الحميدي: "كثير من هؤلاء انخرطوا في الجيش بدافع قيمي، لا بحثًا عن راتب أو جاه. ما يحدث اليوم يمثل خيانة لذلك المعنى، وتقصيرًا مريعًا لا يمكن تبريره."
كما أشار إلى شكاوى من حالات فساد داخل اللجان الطبية، ومن تفاوت واضح في مستوى الرعاية المقدّمة بحسب الجهات الداعمة أو المناطق الجغرافية التي ينتمي إليها الجريح، وهو ما رآه انعكاسًا لخلل بنيوي في مؤسسات الدولة.
مقترحات للحل: صندوق سيادي وتوحيد الجهود
وفي الختام، اتفق الذيفاني والحميدي على أن أولى خطوات الحل تبدأ بإنشاء صندوق سيادي خاص برعاية الجرحى والمعاقين، يكون تحت إشراف مباشر من الرئاسة ووزارة الدفاع، ويعمل وفق خطة وطنية واضحة تشمل العلاج، والإدماج النفسي، وتوفير وظائف تتناسب مع الإعاقة.
وشدد الحميدي على ضرورة فتح قنوات اتصال فعالة بين الحكومة والمنظمات الحقوقية، قائلاً: "حتى الآن لا نملك وسيلة تواصل مؤسسية مع وزارة الدفاع. لا إيميلات، لا رد على الشكاوى، لا آلية للتعاون، وهذا خلل لا يليق بدولة تدعي الشرعية."
في هذا السياق، يؤكد نشطاء حقوقيون بأن الاعتصامات الجارية اليوم لجرحى النضال الوطني ليست مجرد احتجاجات مطلبية، بل تحذير صارخ من أن تآكل ثقة الجندي في دولته، قد يكون المقدمة لتآكل ما تبقى من الكيان الوطني.