تقارير
د.إلهام مانع لموقع بلقيس: اليمن يعيش تعددية غير منظمة والحرب نقلت السياسة من مؤسسات الدولة إلى الأفراد
في ظلّ التحوّلات العميقة التي يعيشها اليمن منذ أكثر من عقد، وما خلّفته الصراعات من تعقيدات سياسية واجتماعية، تبرز الحاجة إلى التساؤل عمّا إذا كان الحديث عن “واقع الحياة السياسية” في البلاد ما يزال ممكنًا، وكيف يمكن قراءة المشهد السياسي اليوم في ظلّ التحديات التي تواجه الدولة والمجتمع.
أجرى موقع “بلقيس ” هذا الحوار مع الدكتورة إلهام مانع، وهي أستاذة العلوم السياسية والحاصلة على الدكتوراه في السياسات الدولية من جامعة زيورخ، والتي تعمل خبيرة لدى منظمات دولية وحقوقية، بالإضافة إلى مؤسسات حكومية سويسرية.
نص الحوار
- عقب هذه السنوات من الصراع، هل ما زال يمكن الحديث عن “حياة سياسية” في اليمن ؟
نعم، ما زال يمكن الحديث عن “حياة سياسية” في اليمن، لكنها لم تعد حياة سياسية بالمعنى المؤسسي أو المدني للكلمة، بل حيوات متشظّية تتعايش ضمن واقع الحرب والانقسام. في المناطق الخاضعة للحكومة المعترف بها دوليًا، تتنازع القوى المتنافسة المجال السياسي بما يعكس عمق الانقسام داخل ما يُسمّى “معسكر الشرعية”، حيث تحولت السياسة إلى صراع نفوذ بين مكوّنات مناطقية وعسكرية أكثر منها تنافسًا بين رؤى وبرامج. أما في مناطق سيطرة سلطة الأمر الواقع الحوثية، فالمشهد السياسي مؤطّر أيديولوجيًا بالكامل، تُدار فيه السياسة بوصفها أداة للضبط والسيطرة، لا مجال فيها للتعددية أو الاختلاف.
لكن رغم هذا الانغلاق، لا يمكن القول إن الحياة السياسية قد انتهت. فالحرب نفسها أطلقت أشكالًا جديدة من الفعل السياسي والاجتماعي: مبادرات محلية، حوارات مجتمعية، ونقاشات حول شكل الدولة ومستقبلها، كلّها تجري خارج الإطار الرسمي، لكنها تعبّر عن ديناميكية سياسية حقيقية في قلب الفوضى. السياسة لم تختفِ، بل تغيّرت أدواتها وفضاءاتها، وانتقلت من مؤسسات الدولة إلى المجتمع ومبادرات الأفراد.
- برأيك، هل يمكن الوصول إلى دولة مدنية في ظلّ كلّ هذه التغيّرات؟
السؤال هنا لا يتعلق برغبة الأطراف في بناء “دولة مدنية”، بل بكيفية تعريفها لهذه الدولة. فالحكومة المعترف بها دوليًا تستند، نظريًا، إلى مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل الذي حدّد أسس الدولة المدنية بوضوح: دولة ديمقراطية قائمة على المواطنة المتساوية، وفصل السلطات، والتعددية السياسية، وتجريم الأحزاب ذات الأساس الديني أو الطائفي.
هذه المبادئ، كما وردت في وثيقة الحوار، كانت تمثّل محاولة تاريخية لوضع عقد اجتماعي جديد يُخرج اليمن من ثنائية “الغلبة والهيمنة” إلى دولة تقوم على الحقّ والقانون.
لكن هذه الرؤية بقيت حبيسة النصوص. فعلى الأرض، تراجعت السلطة الشرعية عن كثير من مقتضيات هذا المشروع، إذ تحوّلت إلى تحالف هشّ بين فصائل متنافسة ذات مرجعيات مناطقية وعسكرية، تستخدم “المدنية” كخطاب سياسي أكثر من كونها ممارسة مؤسسية. أمّا سلطة الأمر الواقع في صنعاء، فتبني مشروعًا مختلفًا كليًا — مشروعًا أيديولوجيًا مغلقًا يمكن وصفه بما أسميته في أبحاثي بـ”الدولة الرسالية الطائفية”: دولة تُعرّف نفسها من خلال مذهبها ورؤيتها “المقدسة” للسلطة، وتُعيد هندسة المجتمع على أسس الولاء الديني لا على أساس المواطنة.
- هناك من يرى أن المشهد السياسي اليمني يُدار بالوكالة من الخارج.. إلى أيّ مدى هذا التوصيف دقيق برأيك؟
هذا التوصيف يحمل شيئًا من الحقيقة، لكنه يظلّ مبالغًا فيه إذا قُدِّم كصورة كاملة. فالصراع في جوهره يمنيٌّ في الأساس، نابع من تاريخ طويل من التشظّي السياسي والاجتماعي وفشل النخب في بناء دولة جامعة، لكن أطرافه ارتبطت تدريجيًا بمراكز نفوذ إقليمية حتى أصبح الخارج جزءًا من معادلة الصراع لا مجرّد داعمٍ أو مراقبٍ له.
الحكومة المعترف بها دوليًا، بمكوّناتها المتناحرة، فقدت استقلالية القرار الوطني بفعل اعتمادها شبه الكامل على الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي من التحالف العربي. فأصبحت قراراتها السيادية تُصاغ وفق توازنات إقليمية أكثر من استجابتها لأولويات يمنية خالصة، وانعكس ذلك في تعدّد مراكز النفوذ داخلها بين قوى تدور في فلك الرياض وأخرى في فلك أبوظبي. وهكذا تحوّلت مؤسسات الدولة من فضاءٍ للسيادة الوطنية إلى ساحة تنافس بين حلفاء الخارج، تُدار وفق حسابات النفوذ لا وفق منطق المصلحة العامة أو مشروع الدولة.
أما سلطة الأمر الواقع في صنعاء، فارتباطها بطهران تجاوز الصورة النمطية عن “الوكالة الإيرانية”. فقد استفادت من الدعم العسكري والإعلامي الإيراني ومن نماذج طوّرها الحرس الثوري وحزب الله، لكنها ليست تابعًا كاملًا لطهران. فالـحوثيون يسعون إلى حكم أحادي مغلق يستند إلى تصوّر زيديٍّ ثوري وهاشميٍّ للقيادة، من دون تبنّي نموذج “ولاية الفقيه”. إن علاقتهم بإيران شراكة استراتيجية تقوم على التنسيق لا التبعية؛ يحصلون على دعم تقني وتمويلي، فيما تبقى السلطة والقرار السياسي بيد عبد الملك الحوثي. بهذا المعنى، تحوّل الحوثيون إلى فاعل إقليمي شبه مستقل متجذّر في السياق اليمني، يمثل امتدادًا للمحور الإيراني من دون أن يذوب فيه.
- ما الذي يعيق ظهور جيل سياسي جديد في ظلّ الانقسامات؟ وكيف يمكن للباحثين والخبراء أن يصنعوا فرقًا حقيقيًا في الواقع السياسي؟
العائق الأساسي أمام ظهور جيل سياسي جديد في اليمن لا يكمن في غياب الكفاءات أو الأفكار، بل في احتكار المجال السياسي من قبل نُخَبٍ مسلّحة وأيديولوجية حوّلت السياسة إلى امتدادٍ للصراع لا إلى وسيلة لإدارته. فالأحزاب السياسية، التي كانت يومًا حواضن للتنشئة والتجديد، أصبحت في معظمها أسيرة قيادات تقليدية تحتكر القرار وتُقصي الأجيال الشابة، ما جعلها عاجزة عن التجديد أو عن التعبير عن التحوّلات الاجتماعية العميقة التي شهدها اليمن خلال العقد الأخير.
وفي ظلّ هذا الجمود، تراجع دور الأحزاب والمجتمع المدني معًا لصالح قوى الأمر الواقع، وتمّ تفريغ السياسة من مضمونها المدني والمؤسسي، حتى باتت المشاركة العامة محكومة بمنطق الولاء والسلاح لا بمنطق الكفاءة والمواطنة.
أما الباحثون والباحثات، فيستطيعون أن يصنعوا فرقًا حقيقيًا فقط إذا تجاوزوا موقع “المراقب” إلى موقع الفاعل المعرفي والمجتمعي. فإنتاج المعرفة لا ينبغي أن يبقى محصورًا في القاعات الأكاديمية، بل يتحوّل إلى أداة للتأثير والتصويب حين يُربط بالواقع من خلال مبادرات حوارية محلية، ومراكز تفكير مستقلة، وشراكات بين الأكاديميين والمجتمع المدني. فالمعرفة، حين تُترجم إلى تحليل رصين ونقاش عام مسؤول، تصبح أحد أهمّ مداخل إعادة بناء الثقة في السياسة نفسها.
ومع ذلك، يجب الاعتراف بأن هذا الأثر لن يكون فوريًا أو مباشرًا، لأن البنية السياسية القائمة ما تزال مغلقة ومحصّنة ضد النقد والتجديد. النخب الحاكمة لا ترى في المعرفة المستقلة مصدرًا للإصلاح، بل تهديدًا لسلطتها. لكنّ العمل المعرفي يمكن أن يكون مؤثرًا بطريقة تراكمية وبطيئة، لكنها جوهرية؛ فالتغيير في بيئات كهذه لا يبدأ بقرار سياسي، بل بتحوّل ثقافي ومعرفي يُعيد تعريف الممكن. حين يُصرّ الباحثون والباحثات على الاستقلالية، ويُعيدون صياغة الخطاب العام حول مفاهيم مثل الدولة والمواطنة والمساءلة، فإنهم يزرعون بذور التحوّل التي تحتاجها أي عملية سياسية مستدامة.
بمعنى آخر، الباحثون قد لا يملكون السلطة، لكنهم يمتلكون سلطة المعنى، وهي السلطة التي تُمهِّد، وإن ببطء، الطريق لاستعادة السياسة من أيدي السلاح والأيديولوجيا، ولبناء بيئة سياسية جديدة تسمح بولادة جيلٍ مختلف يؤمن بأن السياسة فعل معرفة ومسؤولية، لا ساحة غلبة أو ولاء.
- كثير من اليمنيين فقدوا الإيمان بالنخب السياسية .. ما رأيك وهل لا يزال هناك أملا في نهاية الطريق؟
أفهم هذا الشعور تمامًا، لأن ما مرّ به اليمنيون من حربٍ وفسادٍ وخذلانٍ كفيل بأن يُطفئ أي أمل. لكن فقدان الثقة بالسياسة لا يعني نهاية السياسة، بل نهاية شكلٍ منها فشل في تمثيل الناس وصون كرامتهم. ما نعيشه اليوم، رغم قسوته، هو لحظة انكشاف، ومن رحم الانكشاف تبدأ ولادة جديدة. اليمن ما زال حيًا في الناس لا في السلطة: في المبادرات المحلية، في صمود النساء والرجال الذين يُعيدون بناء حياتهم بصمتٍ وإصرار. هؤلاء هم السياسة الحقيقية؛ السياسة كمسؤولية أخلاقية تجاه الناس، لا كوسيلة هيمنة عليهم.
نحتاج إلى الأمل، لا كترفٍ عاطفي بل كقوة فاعلة. نحتاج إلى الأمل كي نغيّر مسار الدمار الذي نعيشه، إلى الأمل الذي يجعلنا نستيقظ صباحًا لنشمّر عن سواعدنا ونبني. الأمل هو فعل مقاومة، هو أن نرفض الواقع ونعمل على تغييره. المستقبل ممكن حين نؤمن بأننا نحن من نصنعه، بالمعرفة والعمل والصدق. فكما أن الحرب كانت من صنع البشر، السلام أيضًا يمكن أن يكون من صنعهم. نحن من نصنع التغيير، ونحن من نصنع السلام.