تقارير
في يومهم العالمي.. معلمو اليمن بين قسوة الحرب ورسالة التعليم
في اليوم العالمي للمعلم، الخامس من أكتوبر من كل عام، يقف المعلم اليمني شاهدًا على واحدة من أقسى التجارب التي يمكن أن يعيشها مُربٍّ في أي مكان من العالم.
فبدلًا من أن يحمل رسالته التربوية في بيئة مستقرة تضمن له الحد الأدنى من الحياة الكريمة، وجد نفسه محاصرًا بظروف الحرب، وانقطاع المرتبات، وانهيار الخدمات، حتى صار التعليم في ذاته شكلًا من أشكال المقاومة اليومية من أجل البقاء.
منذ نحو عشر سنوات، لم يعد راتب المعلم في اليمن قادرًا على تلبية أبسط متطلبات الحياة (في حال تم استلامه)، فقد تراجع إلى حدٍ أصبح بالكاد يغطي فاتورة ماء أو لا يكفي لشراء كيس قمح.
كما يعيش كثير من المعلمين تحت وطأة الدّيون، وبعضهم مهدد بالطرد من منازلهم لعجزهم عن دفع الإيجار، أما الرّعاية الصحية فقد تحوّلت إلى عبءٍ ثقيل، إذ يعجز الكثير من المعلمين عن شراء الأدوية التي يحتاجونها بشكلٍ منتظم.
-كفاح من أجل البقاء
في صباحٍ يمنيٍّ مُتعب، تحمل الأستاذة "أحلام" حقيبتها القديمة وتمضي نحو مدرستها الواقعة جنوب صنعاء بخطواتٍ أثقلها همّ العيش، لكنها لا تزال تتشبّث بشعورٍ غامضٍ بالمسؤولية تجاه طالباتها.
تقول لقناة "بلقيس"، وهي تحاول أن تخفي أنينها:
"لي في مجال التدريس 13 عامًا، كنت أرى في الراتب أمانًا وضمانًا للحياة، ليس لي فقط، بل لكثير من زميلاتي اللواتي انقطعت رواتبهن واضطررن للبحث عن عملٍ إضافي في مدارس خاصة لإعالة أسرهن".
تواصل الأستاذة أحلام حديثها بالقول: "الحياة أصبحت كفاحًا يوميًا لتأمين الغذاء والإيجار والدواء".
وتضيف: "الراتب كان شراكة في الحياة، الآن تحوّل كل شيء إلى عبءٍ نفسي، لم أعد أرغب بدخول المدرسة، خاصة هذا العام، لكني مضطرة للحفاظ على درجتي الوظيفية".
وفي زاويةٍ أخرى من المشهد ذاته، تقف الأستاذة "أثمار" أمام فصول مدرستها التي تعمل فيها منذ أكثر من 17 عامًا بأمانة العاصمة صنعاء، تحاول أن تجمع شتات قوتها رغم تعب جسدها وضغط المهام.
تحكي معاناتها بمرارة: "المواصلات أصبحت عائقًا يوميًا بسبب انقطاع الرواتب، ومع ذلك نواصل العمل، أتحمل مسؤوليات إضافية، أرشيف وإشراف يومي، وصحتي لم تعد تقوى على هذا الجهد، والإدارة لا تتعامل معنا كمعلمين بل كمُنفذين للأوامر فقط".
-زراعة البطاطس
صالح قاسم (48 عامًا) يعمل في مجال التدريس منذ أكثر من 25 عامًا، يروي معاناته بعد انقطاع المرتبات قائلًا: "تغيّرت حياتي تمامًا، بل تغيّر كل شيء في تفكيري واهتماماتي، عدت إلى مسقط رأسي في إحدى البلدات بمحافظة ذمار".
يضيف، لقناة "بلقيس": "كنت أحلم بمواصلة دراستي للماجستير في اللغة الإنجليزية، لكن الظروف تبدّلت، وعدتُ لممارسة الزراعة، وخصوصًا زراعة البطاطس التي أصبحت مصدر دخلي الأساسي، أُعيل منها نفسي وأسرتي؛ لأنه لم يكن أمامي خيار آخر".
ويؤكد صالح أنه، رغم الوضع المأساوي الذي عاشه خلال سنوات الحرب الأولى، تكيّف سريعًا مع الواقع الجديد، وبدأ ينسى شيئا اسمه "الوظيفة والراتب آخر الشهر"، متعايشًا مع عمله الجديد في الزراعة التي وجد فيها ذاته.
يقول بابتسامةٍ فيها شيء من الرضا: "أنا أحسن من غيري"، في إشارةٍ إلى بعض زملائه الذين وجدوا أنفسهم على أرصفة المعاناة بلا راتبٍ ولا بديلٍ آخر.
-بصيص أمل
وفي زوايا الذاكرة تختبئ لحظات الأمل التي عاشتها الأستاذة "أزهار"، من السهر الطويل على دفاتر الدراسة، ومن الأحلام التي رسمتها على جدران المستقبل.
كانت بلقيس تدرس، وتتعب، وتكافح، وكلها يقين أن الوصول إلى الجامعة سيكون بداية الطريق نحو بناء الذات، نحو وظيفة تحملها بفخر وتغرس من خلالها القيم في الأجيال القادمة.
تقول أزهار لقناة "بلقيس": "حين صدر قرار التوظيف في 2012 عبر الخدمة المدنية، كانت لحظة لا تُنسى، شعرتُ أن الحلم بدأ يتحقق، رغم أن الرواتب كانت تُصرف كل ثلاثة أشهر، لكن كنا نؤمن أن التعب سيزهر يومًا ما".
وبالفعل، تم تثبيت الرواتب، وبدأت أزهار وزميلاتها يُدرّسن بحماس، يزرعن الأمل في عيون الطالبات، ويجدن في كل ابتسامةٍ ثمرةً من ثمار الصبر، لكن الفرح لم يكتمل.
تضيف أزهار بصوتٍ متعب: "ثم جاءت الحرب، توقفت الرواتب، وضاعت الأحلام؛ لم تكتفِ الحرب بتدمير المباني، بل التهمت الأمان وقطعت أرزاقنا، أصبحنا نُدرّس ونحن نحارب للبقاء".
تؤكد أزهار أن التعليم تحوّل إلى معركةٍ يومية بين الرسالة والواقع، بين شغفٍ يحاول أن يعيش، وضغوطٍ تخنق كل ما تبقّى من حلم.
وتابعت حديثها قائلة: "لم تعد الأزمة مالية فقط، بل أزمة كرامة وإنسانية، كأن الوطن خذل أبناءه في لحظةٍ كانوا بأمسّ الحاجة إليه".
-وضع كارثي
ووصف أمين عام نقابة المعلمين في محافظة تعز، عبدالرحمن المقطري، واقع المعلمين بأنه "أكثر من كارثي"، مشيرًا إلى أن أوضاعهم لا تختلف كثيرًا عن بقية الموظفين وسائر أبناء المجتمع الذين دفعوا ثمن الحرب المستمرة في البلاد منذ عشر سنوات.
وأوضح المقطري، في تصريح لقناة "بلقيس"، أن عدد المعلمين في اليمن يبلغ نحو 300 ألف، بينهم أكثر من 160 ألفًا يعملون في مناطق سيطرة الحوثيين، وغالبيتهم لا يتسلمون رواتبهم إلا نادرًا.
ولفت إلى أن هذه الأزمة دفعت النقابة إلى تنظيم فعاليات ووقفات احتجاجية للمطالبة بالمرتبات والحوافز وصرف بدل طبيعة العمل للنازحين، غير أن الاستجابة ظلت محدودة من قِبل الجهات المختصة.
وأكد أمين عام نقابة المعلمين أنه "منذ يوليو الماضي لم تُصرف رواتب المعلمين لثلاثة أشهر متتالية، والآن ندخل الشهر الرابع بلا أفق واضح لصرفها"، هذا في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية، أمّا في مناطق الحوثيين فالمعلم يعيش وضعًا أشد مأساوية، حيث يعيش على نصف مرتب كل ثلاثة أشهر.
ولفت المقطري إلى أن المعلم اليمني يعيش أوضاعًا معيشية قاسية، إذ أصبح راتبه بالكاد يوازي قيمة فاتورة ماء أو نصفها، وفي بعض الأحيان لا يكفي لشراء كيس قمح.
وأضاف: "هناك معلمون يُطردون من منازلهم لعجزهم عن دفع الإيجار، وآخرون لا يستطيعون شراء الأدوية الشهرية التي يحتاجونها".
-هيكلة الأجور والمرتبات
وأوضح أمين عام نقابة المعلمين: "طالبت النقابة مرارًا باعتماد حوافز مالية ثابتة للمعلمين في تعز أسوة ببقية المحافظات المحررة، حيث يتقاضى المعلمون حوافز شهرية تتراوح بين 28 ألف ريال في حضرموت و75 ألف ريال في مأرب، إضافة إلى سلال غذائية في بعض المناطق".
أما في تعز، فلم يُصرف أي حافز رغم المطالبات المتكررة بتخصيص مبلغ لا يقل عن 30 ألف ريال شهريًا.
ودعا في هذا الصدد إلى ضرورة إعادة النظر في هيكلة الأجور والمرتبات، وتعديل القانون رقم (43) الصادر عام 2005، الذي ظل الحد الأدنى للأجور فيه ثابتًا منذ نحو عقدين رغم تضاعف تكاليف المعيشة، إضافة إلى اعتماد نظام للتأمين الصحي يضمن للمعلمين وأسرهم الحصول على خدمات صحية شاملة مقابل اقتطاع نسبة 5% من رواتبهم، بما في ذلك العلاج خارج البلاد عند الحاجة.
ونبّه أمين عام النقابة إلى أن معظم المعلمين، اليوم، تجاوزت أعمارهم 45 عامًا، بسبب توقف التوظيف منذ سنوات طويلة، وهو ما جعل شريحة واسعة منهم تعاني من أمراض مزمنة لا يستطيعون تحمّل تكاليف علاجها.
وحذّر من أن استمرار الوضع الراهن "قد يقود إلى انفجارٍ اجتماعي غير محمود العواقب"، إذا لم يتم التحرك العاجل لإنقاذ شريحة المعلمين الذين يشكلون حجر الأساس في بناء المجتمع.
هكذا تبدو مأساة المعلمين في اليمن، باعتبارها انعكاسًا لصورةٍ أكبر من الانقسام السياسي وانهيار مؤسسات الدولة، حيث بات آلاف المعلمين يعيشون بلا أفقٍ واضحٍ ولا ضمانات مستقبلية للحصول على مرتباتهم ومستحقاتهم.
ورغم كل ذلك، ما زالوا متمسكين برسالتهم التربوية، يستمدون قوتهم من إيمانهم العميق بأن التعليم هو خط الدفاع الأخير لحماية المجتمع وبناء مستقبل اليمن، مهما طال ليل الحرب وقساوة الظروف.