تقارير
هجمات الحوثيين وعقيدة الردع الإسرائيلية.. ما الخطوات القادمة؟
من حين لآخر، يهدد مسؤولون إسرائيليون مليشيا الحوثيين بمصير مشابه لمصير إيران وحزب الله اللبناني كلما نفذت المليشيا هجمات باتجاه فلسطين المحتلة بواسطة صواريخ باليستية أو طائرات مسيرة.
ورغم تلك التهديدات، فإن الهجمات التي ينفذها الكيان الإسرائيلي ضد مواقع للحوثيين تمضي على وتيرة واحدة دون أي تغيير، وتستهدف بنى تحتية مدنية أو قطاعات خدمية أو مواقع خالية أو تم ضربها سابقا.
هذا العجز الإسرائيلي في تقويض قدرات الحوثيين أو وضع حد لهجماتهم، تبرره نخب إسرائيلية بعدم وجود استخبارات ميدانية في مناطق سيطرة الحوثيين باليمن، وأن الحوثيين "جبهة طارئة" لم يكن الكيان الإسرائيلي يتوقعها.
ورغم أن هجمات الحوثيين لم تلحق أي أضرار بالكيان الإسرائيلي، لكنها تسبب له صداعا وقلقا والارتباك في التعاطي مع عدو شبحي (غير مرئي)، بلا بنية تكنولوجية حديثة يمكن اختراقها في سياق الحروب السيبرانية، ولا توجد في أوساطه كوادر مؤهلة للقيام بالمهام الاستخباراتية بسبب الجهل، بمعنى أن الحوثيين محصنين بجهلهم أمام الاختراق المخابراتي الأجنبي.
ومع أن حدود الرد الإسرائيلي على الحوثيين يمنحهم وضعا مريحا يشجعهم على الاستمرار في هجماتهم لتحقيق مكاسب دعائية خاصة وخدمة أجندة طهران في المنطقة، وعدم الخشية من رد إسرائيلي عنيف ونوعي يكبدهم خسائرهم كبيرة، لكن هذا الوضع لن يدوم طويلا، وذلك بالنظر إلى طريقة تعاطي الكيان الإسرائيلي مع إيران وحزب الله اللبناني، أي أنه يتخذ نهج المراوغة والضربات المحدودة، قبل أن يفاجئ عدوه بضربات مباغتة ومركزة، وتكبيده خسائر فادحة.
- عقيدة الردع التي لم تطل الحوثيين بعد
تعد عقيدة الردع الإسرائيلية إحدى الركائز الأساسية في إستراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي، وقد تشكلت وتطورت عبر عقود، استجابة للبيئة السياسية المحيطة، وتحديدا ما تعدها إسرائيل تهديدات وجودية من دول وجماعات مسلحة في المنطقة.
وتقوم عقيدة الردع الإسرائيلية على مبدأ إقناع الخصوم، سواء كانوا دولا أو جماعات، بأن تكلفة مهاجمة إسرائيل ستكون باهظة جدا، بما يجعل أي هجوم غير منطقي أو غير مربح من الناحية الإستراتيجية. والردع هنا استخدام مفرط للقوة إذا لزم الأمر، بهدف ترسيخ صورة إسرائيل كدولة قادرة ومستعدة للرد بشكل قاس وسريع وغير متناسب مع أي تهديد، أي شن ضربات قوية ومركزة ردا على أي هجوم ولو كان محدودا.
وقد شهدت عقيدة الردع الإسرائيلية عددا من التحولات بما يتناسب مع طبيعة التحديات، مثل التحول من الردع الكلي إلى الردع الجزئي، فإسرائيل باتت تدرك أن بعض الفاعلين من غير الدول لا يمكن ردعهم بالكامل، لذا انتقلت إلى مزيج من الردع والاحتواء والهجمات الوقائية.
يضاف إلى ذلك توسيع دائرة الاستهداف، فالردع لم يعد مقتصرا على المنفذين، وإنما يشمل الداعمين والممولين. كما تستخدم إسرائيل الحرب النفسية، ووسائل الإعلام، والتقنيات الحديثة كأدوات لتعزيز الردع.
علاوة على ذلك، تحافظ إسرائيل على غموض محسوب بشأن ردودها ومداها، بحيث لا تمنح عدوها صورة واضحة عن مستوى تحملها وإمكاناتها الدقيقة، مما يربك خططه ويجعله أكثر حذرا.
وفيما يتعلق بمليشيا الحوثيين، فهي تمثل تحديا من نوع مختلف عن التهديدات التقليدية التي واجهها الكيان الإسرائيلي في قطاع غزة أو في الشمال (حزب الله اللبناني)، فهجمات الحوثيين لم تسبب أضرارا تُذكر لإسرائيل، وفوق ذلك فالحوثيون يتمركزون في بيئة جغرافية صعبة بعيدة عن الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولا يدفعون ثمنا داخليا مباشرا من قواعدهم عند استهداف الكيان الإسرائيلي.
هذه الطبيعة تجعل من الردع المباشر أكثر تعقيدا، وتفرض على إسرائيل تطوير أدوات ردع تتناسب مع طبيعة التهديدات. والملاحظ حتى الآن أن الكيان الإسرائيلي يحرص على عدم منح مليشيا الحوثيين فرصة استغلال دعائي لهجماتهم، فعدم التصعيد الإعلامي هو بحد ذاته أداة ردع نفسي، تمنع الخصم من حصد نتائج معنوية، وهو ما يدخل ضمن "الردع المعنوي السلبي".
وتُظهر طريقة تعامل إسرائيل مع مليشيا الحوثيين أنها بصدد تطوير ما يمكن تسميته بـ"الردع المركب"، والذي لا يقوم على المعاقبة الفورية، وإنما أيضا على بناء بيئة عملياتية تجعل من تنفيذ تلك الهجمات مستقبلا أكثر صعوبة وكلفة وتعقيدا. وهذا النوع من الردع لا يعتمد على استعراض القوة بقدر ما يرتكز على إدارة التهديدات ضمن تصور طويل الأمد، يُبقي يد الكيان الإسرائيلي قوية دون أن يغرقها في صراعات على جبهات بعيدة.
- الاستخبارات.. عقدة إسرائيل في اليمن
تشير طبيعة الضربات الإسرائيلية إلى غياب إستراتيجية حقيقية إزاء الحوثيين، فهذه الضربات لا تؤثر في بنية الحوثيين القتالية، ولا توقف تدفق السلاح إليهم، فهل تدير إسرائيل حربا رمزية لتحفظ ماء الوجه، أم أنها تنتظر فرصة لشن هجوم أوسع حين تنضج الظروف الاستخباراتية والدولية؟
يمثل العمق الاستخباراتي حجر الزاوية في أي عملية ردع ناجحة، لكن إسرائيل تجد نفسها أمام بيئة يمنية معقدة يصعب التوغل فيها، فغياب الحلفاء المحليين، وضعف الشبكات التجسسية، يجعل من الصعب رصد مواقع الحوثيين أو فهم طبيعة تحركاتهم، وهو ما يفسر تصريحات المسؤولين الإسرائيليين بأن الحوثيين "جبهة طارئة وغير مدروسة"، ويكشف هشاشة الارتكاز على التكنولوجيا فقط دون العنصر البشري الميداني.
وكذلك الأمر فيما يتعلق بالحرب السيبرانية، فرغم أن إسرائيل تمتلك قدرات متقدمة في هذا المجال، لكنها تواجه معضلة أمام مليشيا لا تعتمد على بنية رقمية متطورة، ولا تمتلك أنظمة قيادة وتحكم إلكترونية قابلة للاختراق. والمفارقة أن "الجهل التكنولوجي" لدى الحوثيين يشكل لهم حصانة غير متوقعة، فهم يتحركون في فضاء بعيد عن أدوات التجسس الرقمي والاختراق الإلكتروني، مما يجعلهم في نظر الإسرائيليين "عدوا شبحيا" لا يمكن رؤيته أو اختراقه، رغم بدائيته الظاهرة.
ورغم أن هجمات الحوثيين لم تكبد إسرائيل خسائر بشرية أو تدمير منشآت مدنية وعسكرية، إلا أن تأثيرها النفسي والسياسي كبير، فالإرباك الذي تسببه هذه الهجمات، ولو كانت فاشلة، يعيد تعريف مفهوم الأمن الإسرائيلي، ويجعل من مليشيا الحوثيين مصدر تهديد لا يمكن تجاهله، وتلك الهجمات تثير القلق داخليا وتضغط على صناع القرار.
وهنا تبرز مشكلة الكيان الإسرائيلي: فالخصم الجديد يتحرك في فضاء فوضوي غير قابل للقياس أو الردع الصارم، لأن مليشيا الحوثيين لا تنضبط بقواعد الاشتباك الكلاسيكية، ولا تعبأ بكلفة الرد العسكري الإسرائيلي لأنه ليس مصحوبا بتفكيك بيئتها السياسية واللوجستية، ولا تمتلك منشآت وبنى عسكرية عملاقة قابلة للتدمير المجدي.
ولذا من المرجح أن تعمد إسرائيل إلى تفعيل أدوات استخباراتية ضد مليشيا الحوثيين بوتيرة متصاعدة، مستفيدة من حضورها المخابراتي في القرن الأفريقي، بالتنسيق مع أطراف إقليمية ودولية معنية بتحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة.
وسيتركز هذا التفعيل على اختراق شبكات التهريب التي تمد الحوثيين بالسلاح والتكنولوجيا من إيران، وتوسيع رقعة الرصد البشري والمعلوماتي عبر طائرات تجسسية، بهدف بناء قاعدة بيانات دقيقة عن مواقع القيادات والمنشآت والتدفقات اللوجستية، بما يمهد لتأسيس بنك أهداف موثوق لأي عمل عسكري لاحق.
وعلى غرار نهجها مع حزب الله اللبناني وإيران، ستعتمد إسرائيل سياسة "التحييد المرحلي" في التعامل مع الحوثيين، من خلال مزيج من التهديدات والضربات المحدودة لجس النبض وتوسيع الفهم الاستخباراتي، قبل أن تنفذ ضربات مفاجئة ومؤلمة تهدف إلى شل قدراتهم العسكرية.
وحتى في حال توقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وتهدئة التوتر في الإقليم، فإن مليشيا الحوثيين لن تُرفع من قائمة التهديدات، وستبقى تحت المجهر الإسرائيلي كجبهة غير تقليدية، يتم التعامل معها بمنطق الاستنزاف والإضعاف التدريجي، وتفعيل الاستخبارات، استعدادا لتوجيه ضربات مؤلمة لها في حال عاد الصراع بين إسرائيل والمحور الإيراني في المستقبل.