تقارير

الانفراجات الإقليمية واستعصاء الملف اليمني.. من المستفيد؟

20/02/2025, 08:20:28
المصدر : قناة بلقيس - عبد السلام قائد - خاص

شهدت مختلف أزمات المنطقة، خلال السنوات والشهور الأخيرة، سلسلة من التسويات والانفراجات التي أسهمت في تهدئة عدد من الصراعات الإقليمية الحادة، باستثناء الملف اليمني الذي ما يزال عالقا في مأزق صعب ومعقد، فالمبادرات والفرص تتعاقب دون أن تحقق اختراقا في جدار الأزمة اليمنية، وكلما طال أمد الصراع ازداد المشهد تعقيدا حتى بات عصيا ومن الصعب التنبؤ بمآلاته أو رسم مسار واضح لإنهائه.

فلماذا استعصى الملف اليمني على الحلول، في حين أن قضايا إقليمية أخرى أكثر تعقيدا شهدت اختراقات جوهرية؟ هل يعود ذلك إلى طبيعة الصراع اليمني نفسه والانقسامات الحادة التي تفجرت بعد اندلاع الحرب؟ أم أن هناك أطرافا إقليمية ودولية ما تزال ترى في استمرار الأزمة مصلحة لها وبالتالي تعمل على تغذيتها وإعاقة أي حلول ممكنة؟ 

وماذا عن التحركات السعودية والإماراتية في بعض المناطق اليمنية والتي تثير الريبة والشكوك وتزيد من تأزيم المشهد؟ وهل الانقسامات الراهنة وتقسيم البلاد إلى كانتونات متنافرة أصبح حقيقة مطلقة يجب التسليم بها؟ أم أنه ما تزال هناك آمال بإمكانية إجراء تغيير يكسر الجمود الراهن وصولا لاستعادة الدولة اليمنية والقضاء على الانقلاب الحوثي؟

- التسويات والانفراجات الإقليمية

في السنوات الماضية، كانت الأزمات الإقليمية تلقي بظلالها الكئيبة على الوضع في اليمن، حيث تسببت تلك الأزمات في تعميق الانقسامات بين الأطراف اليمنية وفقا لارتباطاتها الخارجية، فمثلا أزمة حصار قطر زادت من حدة الاستقطاب داخل الساحة اليمنية وتصنيف الأطراف وفقا لموقفها من تلك الأزمة أو فقط لموقفها من ثورات الربيع العربي، كما أن التوترات بين بعض الدول العربية وتركيا عززت أيضا من حدة الانقسامات بين مختلف المكونات اليمنية، حتى ظهر من بين صفوف الفريقين من يهاجم كل طرف وفقا لمكان إقامته خارج البلاد.

لكن اللافت أنه وبرغم انتهاء حصار قطر، وتحسن العلاقات التركية العربية، والمصالحة السعودية الإيرانية، فإن هذه التحولات لم تنعكس إيجابيا على الملف اليمني، ولم تسهم في رأب بعض التصدعات أو تفكيك حالة الجمود السياسي والعسكري في البلاد.

كما أن الانهيارات التي شهدتها القوى المرتبطة بالمحور الإيراني لم تسهم في القضاء على الحوثيين وإنهاء النفوذ الإيراني في اليمن، فقد انهارت قوة حزب الله اللبناني بشكل غير متوقع، وسقط نظام بشار الأسد في سوريا، وتعرضت إيران لضربات إسرائيلية وضغوط متزايدة أدت إلى تحجيم نفوذها في أكثر من ساحة، في حين تزداد المطالب بتفكيك المليشيات الشيعية في العراق. 

ومع أن هذه المتغيرات تمثل، من الناحية النظرية، فرصا إستراتيجية للقضاء على الحوثيين وإنهاء المشروع الإيراني في اليمن، فإن الواقع يعكس مشهدا مختلفا تماما، فالأزمة ما تزال تراوح مكانها دون أي تأثير واضح لهذه التطورات، وما زالت مليشيا الحوثيين تراكم قوتها ونفوذها دون أن يثير ذلك حفيظة دول الجوار أو يدفع المكونات اليمنية لوحدة الصف ضد تلك المليشيا قبل أن تراكم مزيدا من القوة وتكون مهمة القضاء عليها مستقبلا شاقة وباهظة الثمن.

وفي سياقات أخرى، حققت بعض الأطراف الإقليمية تقدما عسكريا ملموسا في نزاعاتها الداخلية، على عكس المشهد اليمني، فمثلا في السودان الجيش هناك يتقدم على الأرض في معاركه ضد قوات الدعم السريع، وتمكن خلال مدة قصيرة من استعادة السيطرة على مواقع ومدن إستراتيجية، وما زال يواصل تقدمه في العاصمة الخرطوم. 

وقبل ذلك بسنوات، تمكنت قوات حكومة الوفاق الوطني في ليبيا، بدعم تركي، من السيطرة على مدن غرب ليبيا وكسر حصار قوات خليفة حفتر للعاصمة طرابلس، لتعيد ترتيب المعادلة السياسية والعسكرية في البلاد، وقد دفعت هذه الانتصارات العسكرية حفتر إلى التراجع شرقا والقبول باتفاق وقف إطلاق النار، وهو أمر لم يحدث في اليمن رغم مرور عشر سنوات من المواجهات والصراع.

- استعصاء شامل

لا يقتصر استعصاء الملف اليمني على جانب دون آخر، فالاستعصاء يشمل مختلف جوانب الأزمة، فهناك استعصاء فيما يتعلق بمسار السلام، ذلك أن جميع مبادرات السلام فاشلة أو أنها غير جادة ولم تلامس عمق الأزمة، وأصبح تحقيق السلام في الوضع الراهن مستحيلا تماما، فهندسة المشهد اليمني صُممت لإعاقة السلام وإطالة أمد الحرب دون حسم.

وهناك استعصاء عسكري، حيث يبدو أن كل طرف قد اقتنع بما تحت سيطرته ولم يعد يفكر بتوسعة مساحة نفوذه من خلال القوة العسكرية، ولا يعني ذلك أن الإرهاق قد أصاب الجميع، ولكن من الواضح أن كل الأطراف مقتنعة بالهندسة الأجنبية للمشهد السياسي والعسكري ونطاق السيطرة على الأرض لكل طرف، ولن يتحرك أي طرف أو فصيل محلي عسكريا إلا بتوجيهات وأوامر من الحليف والممول الأجنبي.

وبالرغم من الاستعدادات المكثفة لجولة جديدة من المواجهات العسكرية، لا سيما من جانب مليشيا الحوثيين، لكن لا مؤشرات على اندلاع المعركة المرتقبة قريبا، فالاستعداد للحرب قد يمنع اندلاع الحرب، لكن ليس بشكل دائم، وقد تكون مليشيا الحوثيين هي الطرف المبادر بإشعال الحرب، للعديد من الاعتبارات، لكن قد يتم ذلك في وقت لاحق وليس الآن.

من الواضح أن المليشيا الحوثية مترددة بشأن تفجير الحرب رغم رغبتها بذلك، وذلك لإدراكها بأن إشعال معركة في الوقت الحالي سيكون وكأنها فتحت على نفسها عش الدبابير، خوفا من رد فعل أجنبي وتقديم دعم مكثف للجيش الوطني والمكونات المناهضة للحوثيين، لا سيما بعد تصنيف المليشيا منظمة إرهابية من جانب إدارة دونالد ترامب، وتغير بعض المواقف الإقليمية والدولية من المليشيا بسبب هجماتها على السفن التجارية في البحر الأحمر.

وهناك أيضا استعصاء الأزمة الاقتصادية، فالعملة المحلية تنهار بشكل متسارع دون أي حلول جذرية من جانب الحكومة، وموارد البلاد معطلة، وإيرادات الضرائب والجمارك تتسابق على نهبها المليشيات والفصائل كل في مناطق سيطرتها دون أن توردها للبنك المركزي لتساعد الحكومة على صرف الرواتب وغيرها من النفقات، فضلا عن تنامي البطالة واتساع رقعة الفقر والجوع، وعودة انتشار أمراض كان اليمن قد تخلص منها منذ سنوات.

علاوة على ذلك، هناك استعصاء سياسي، يتمثل في فشل الحكومة وفشل مجلس القيادة الرئاسي في حل أبرز الأزمات التي تشهدها البلاد وعدم القدرة على تلبية الحد الأدنى من مطالب المواطنين، فضلا عن الخلافات المستعصية بين أعضاء مجلس القيادة الرئاسي وأعضاء الحكومة وغيرهم.

يضاف إلى ذلك الخلافات بين الرياض وأبوظبي على النفوذ في حضرموت وغيرها، وما يثيره التواجد العسكري السعودي والإماراتي في بعض المدن اليمنية من انقسامات داخلية وتوتر مكبوت في أوساط الشعب وبعض المكونات السياسية، فكل هذه الملفات تبدو عصية على الحل، ولا أحد يعلم كيف سيتم حسمها في نهاية المطاف.

- جمود واستعصاء الدور الأجنبي

وفيما يتعلق بتفاعلات الأطراف الإقليمية والدولية مع الأزمة اليمنية، وتحديدا الأطراف المؤثرة في الأزمة أو المتأثرة بها، فقد باتت أيضا أسيرة الجمود والتعقيد، فهي لم تتمكن من تحقيق اختراق فعلي في مسار السلام، ولم تقدم الدعم الكافي للحكومة اليمنية الشرعية لإنهاء الانقلاب الحوثي وإعادة الدولة إلى وضعها الطبيعي.

وبين حسابات المصالح المتضاربة وانعدام رؤية واضحة للحل، أصبحت هذه التفاعلات تدور في حلقة مفرغة، لا تسهم سوى في إطالة أمد الأزمة وتعميق معاناة اليمنيين. وتبدو المشاريع والمصالح الأجنبية التي تستفيد من استمرار الصراع عاجزة عن إدراك الواقع بتعقيداته وتشابكاته، فضلا عن عدم استيعابها للحقائق الثابتة التي لن تتغير مهما طالت مدة الأزمة وحالة اللاحرب واللاسلم.

وبرغم التعقيدات والاستعصاء، والرهان على عامل الوقت لتحقق الأطراف الأجنبية أجندتها في اليمن، لكن مهما طالت مدة الأزمة فشمال اليمن لن يتحول إلى دولة شيعية إمامية خاضعة بشكل دائم للنفوذ الإيراني، كما أن مشروع الانفصال يواجه تحديات وجودية تجعله غير قابل للتحقق والاستمرار بسلاسة، وأما مشروع عودة عائلة علي صالح إلى الحكم والانفراد بالسلطة، فهو يظل ضربا من الماضي الذي تجاوزه الواقع السياسي والميداني.

وفيما يتعلق برغبة بعض دول الجوار بفرض سيطرة دائمة على أراضٍ يمنية أو تعديل الخرائط وخطوط الحدود فإن ذلك سيصطدم بجدار الصراع والتوترات المتفاقمة، فتراكم الغضب الشعبي في الداخل قد يؤدي إلى انفجار مفاجئ في لحظة غير محسوبة، ليعيد خلط الأوراق ويغير من خريطة التحالفات، وحينها ستجد القوى الفاعلة نفسها أمام مشهد غير متوقع، حيث ستدخل فئات جديدة إلى دائرة الصراع، وتتحول التوازنات الحالية إلى متغيرات يصعب التحكم فيها، مما يجعل أي مغامرة لحسم مشروع أجنبي معين محفوفة بالمخاطر وعواقبها غير مضمونة.

- الجميع خاسر

لا شك أن الوضع الحالي في البلاد، بجموده واستعصائه على الحلول بسبب الرهانات الخاسرة لبعض الأطراف على طول أمد الأزمة، لن يصب في مصلحة أحد، فكل الأطراف، سواء المحلية أو الإقليمية، تخسر في ظل هذا الجمود والاستعصاء، فالأطراف المحلية التي تراهن على تحقيق مكاسبها من خلال التمسك بمواقفها والاستقواء بالحليف الأجنبي، تجد نفسها عالقة في صراع يستنزف مقدراتها دون أن يحقق لها تفوقا حاسما.

كما أن القوى الإقليمية التي تعتقد أن استمرار الأزمة سيعزز نفوذها أو يحقق مصالحها، ستكتشف في نهاية المطاف أنها أحرقت أوراقها الواحدة تلو الأخرى بلا فائدة، حيث لا أفق واضح لتحقيق أهدافها الإستراتيجية من خلال إدامة الصراع أو إدارته بطريقة انتقائية.

إن استمرار هذا الوضع يعد نزيفا متواصلا لكل الأطراف، سياسيا واقتصاديا وعسكريا، فالأطراف الخارجية التي تدعم مكونات محلية بعينها تجد أن تدخلاتها لا تؤدي إلى استقرار نفوذها، بل تزيد من تعقيد المشهد وتغذي حالة العداء والتوجس، مما يجعل أي مكاسب آنية معرضة للانتكاس في أي لحظة. 

أما القوى المحلية، فإنها تنجرف نحو مزيد من التشرذم والانقسام، مما يحد من قدرتها على فرض إرادتها أو بناء سلطة مستقرة يمكنها الاستمرار في المدى الطويل، ويظل المواطن اليمني هو الخاسر الأكبر في هذه المعادلة، كونه يدفع ثمن الاستعصاء بتفاقم معاناته المعيشية والأمنية، ويتضاءل أمله في استعادة الدولة أو تحقيق أدنى حد من الاستقرار.

الخلاصة، إن أي رهان على كسب الوقت أو انتظار تحولات معينة لتغيير المعادلة لمصلحة أطراف بعينها هو رهان خاسر، ولا سبيل للخروج من هذا المستنقع سوى حسم عسكري ضد المليشيا الحوثية وحل سياسي شامل بين مختلف المكونات اليمنية لوضع حد لهذا النزيف المستمر، قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة وتصبح عواقب الأزمة أكثر كارثية على الجميع.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.