تقارير
الحوثي وخدعة الحرب تحت شعار زائف
"سيدي بدر الدين الحوثي ما كان يعجبه إلا العسل الأمريكي"، هذه الشهادة من رجل سبعيني من منطقة مران في محافظة صعدة، شاهدته يصرخ على شباب فضلوا البقاء في وقت خطبة الجمعة في باحة مسجد عمر بن عبدالعزيز في حي المطار بصنعاء: "الجامع فاضي ... الجامع فاضي وأنتم مقيّلين في الصرح تهربوا من شعار الصرخة والموت لأمريكا كيف با يتنصر الإسلام، هاه قولوا لي.... لا حول ولا قوة إلا بالله".
قبل شهرين قابلت هذا المسن، وسألته عن أحواله، ومما أفصح عنه قوله: "عيالي مشرفين مع أنصار ربي، وأنا في كل مرة كنت أنزل من مران إلى الحديدة أشتري بضاعة أمضي من عند سيدي بدر الدين أقول له ما يحتاج ... يقول عسل أمريكي ما بينفعني إلا هو".
استوقفته عند هذه الجملة بتعجب: لكن يا والد كيف عسل أمريكي والموت لأمريكا وقاطعوا البضائع الأمريكية!؟ يقطع حديثه معي برد غاضب: "شكلك داعشي".
شعار "الخميني" من طهران إلى مران، أطفال وشباب في جغرافيا معزولة، أسندت إدارتها بعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر لشيوخ القبائل الإقطاعيين الذين اهتموا بمصالحهم، وأهملوا إيصال الخدمات والمشاريع التنموية، وترسيخ قيم الجمهورية في مناطقهم.
وفي ظل هشاشة التعليم، وغياب الأنشطة المدرسية والمراكز الصيفية، تأسست حوزات "تنظيم الشباب المؤمن" في المديريات النائية بصعدة، لتلقين الأطفال "ملازم حسين الحوثي"، وتدريبهم على استخدام الأسلحة، وصناعة وزراعة الألغام والمتفجرات، وتجهيزهم للقتال تحت شعار "الموت لأمريكا ... الموت لإسرائيل ... اللعنة على اليهود .... النصر للإسلام".
هذا الشعار، الذي أطلقه الخميني، في العام 1979، عندما استولى على السلطة في طهران، ويردده أتباعه طوال خمسة وأربعين سنة، لكن لا "القدس" حُرِّرَت، ولا إسرائيل أُزيلَت من الوجود، ولا أمريكا ماتت. الذي حصل أن النظام الإيراني مول المليشيات واستغل الأزمات لمد نفوذه في لبنان والعراق وسوريا واليمن، وقام ببناء أذرع لزعزعة الأمن والاستقرار فيها لصالح إيران، واستخدامها كأوراق ضغط في سياستها الإقليمية والدولية.
تأثَّر حسين الحوثي بالخميني وبالثورة التي قادها في إيران، ولم تخلُ محاضراته وخطبه من ذكر الإمام روح الله الخميني، فكان يرى فيه القدوة التي يجب اتباعها، كما سمى نجل زيد علي مصلح وهو أقرب أصدقائه "روح الله"، فنقل هذه التجربة إلى اليمن، وفي شهادات نقلتها صحفية "المسيرة"، التابعة للحوثيين، تحت عنوان "البداياتِ الأولى للصرخة"، يقول إبراهيم العبيدي، الذي كان واحداً من الدفعة الأولى التي هتفت بشعار "الصرخة" في الجامع الكبير بصنعاء: "الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي هتف بالصرخة في وجه المستكبرين من أعلى جبال مران في مطلع العام 2002م، وكل من كان يهتف بالشعار يتم أخذُه فوراً من قِبل ما يسمى بالأمن السياسي حينها، فوجّه الشهيد القائد للمؤمنين في زنازين الأمن السياسي بأن يصرخوا بأعلى أصواتهم وهم داخل السجن، فكان يتساءل أحدهم: من حبسنا؟ من سجننا؟، فيرد البقية بالقول: أمريكا.. إسرائيل، ولهذا يتضح جليًّا بأن أول من انطلق لإسكات مشروع الشهيد القائد، وسجن أنصاره هي أمريكا وإسرائيل، وهذا هو أثر العمل" بحسب العبيدي.
عبد الكريم الرازحي هو الآخر واحد من ضمن الذين اعتقلوا في سجن "الأمن السياسي"؛ بسبب هتافِه بشعار "الصرخة"، نقلت عنه الصحيفة قوله: "عندما زارتنا منظمة العفو الدولية، وقالت لنا إنها تريد إخراجنا، فكان جوابنا عليهم بصوت واحد ومرتفع 'من سجنكم يا شباب: أمريكا وإسرائيل'، حينها قرّرت أن تغادر تلك المنظمة عندما علمت بوعينا وإصرارنا على اتّهامهم بأنهم طرف في الصراع معنا، وأنهم من وجّهوا الدولة بسجننا، فقالت: ألا تعرفون من نحن؟ قلنا نعم، نسمع بكم ولكننا ننتظر منظمةً أكبر منكم {إنها منظمة العفو الإلهية}، وكانت هذه الكلمات بمثابة القتل لهم، ولمعنوياتهم، فلم يرجعوا إلينا أبداً".
- المظلومية والأقلية
بحلول عام 2004، بدأت تظهر أنشطة الحوثيين المناهضة للحكومة في المناطق الريفية في صعدة. ورداً على ذلك، أمر نظام صالح باعتقال حسين الحوثي، واشتعلت شرارة الحروب الستة (2004-2010)، التي اعتمدت فيها جماعة الحوثي سردية المظلومية، وقدمت صورتها للإعلام كأقلية مضطهدة، وادعاء التهميش والتمييز ضد الزيديين، وأتباع المذهب الزيدي.
هذه المظلومية والأقلية هجرت حروبها السلفيين من صعدة، وأكملت عملية "بساط الريح" بنقل بقية يهود اليمن من آل سالم وريدة إلى إسرائيل، عبر ذات "الوكالة اليهودية لإسرائيل"، التي نقلت 49 ألفاً من يهود اليمن.
وأدت قيادة الحوثيين الدور اللوجيستي، الذي قام به الإمام أحمد حميد الدين في ذلك الوقت، ولم تتوقف الحرب السادسة إلا وقد أكملت السيطرة على محافظة صعدة، واشتبكت مع القوات السعودية في الخوبة بجيزان، وبدأت في التمدد في محافظات عمران وحجة والجوف.
- مواجهة الطغيان "اليزيدي"
وبشأن الزيدية، تم سؤال العشرات من المواطنين في محافظات صعدة وحجة وعمران وصنعاء من كبار السن، ومن الشباب لا يعرفون عن المذهب الزيدي شيئاً، لكن الحوثيين، ومن بعد انقلابهم على السلطة في صنعاء، ادخلوا سيرة الإمام زيد في الكتب المدرسية إلى جانب حسين الحوثي، والإمام الحسين بن علي، والإمام الهادي، وأبو حرب الملصي، وفي هذا يقول عبدالله محمد ـ اسم مستعار ـ مدرس مادة التاريخ في مديرية بني الحارث بمحافظة صنعاء: "الحوثيون يزوِّرون التاريخ في المنهج المدرسي، ولا يهمهم مذهب زيدي، ولا فلسطين، ولا حتى الإسلام. فمن سيرة الإمام زيد يركزون على الخروج على طاعة الحاكم، ويضربوا الأمثلة على الحكام العرب، ومن سيرة الإمام الهادي يهمهم حصره للإمامة في البطنين (الحسن والحسين)، ومن سيرة مالك الأشتر قتاله من أجل آل البيت، ومن ذكرى استشهاد الإمام الحسين إسقاطها على أن الحرب على اليمن امتداد لمظلوميّته، وعلى الشعب أن يواجه الطغيان اليزيدي المتمثل في النظام السعودي والنظام الأمريكي".
كما نبّه إلى أن "الحوثيين يتجاهلون سيرة الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب، وشقيقه محمد بن الإمام علي المعروف بمحمد بن الحنفية، ومواقفهما التي تمسكت بوحدة المسلمين واعتزال الفتن، وهذا ما يؤكد على أن الحوثي يريد الحكم بأي وسيلة، ويزور التاريخ وينتقي من التراث ما يخدم أطماعه".
- ضرب القبائل ببعضها البعض
وفي طريق مسيرة الحوثي من صعدة إلى صنعاء بنت قيادة الحوثيين، بشكل واضح وجلي، وجودها في المناطق القبلية على أرضية النزاعات والخلافات، وضرب القبائل ببعضها البعض، وتفكيكها، وتنصيب أكثر الأطراف ولاءً لها؛ لتصبح هي المتحكم في المنظومة القبلية، وتعامل أبناءها كعبيد لخدمة السيّد، فهذا الشيخ عبدالغني ضيف الله رسام، الذي عينه الحوثيون رئيساً للهيئة العامة لشؤون القبائل، يلقي كلمة في احتفال بذكرى المولد النبوي في مدينة المحويت، ومما قال فيها: "إن القبيلة اليمنية كانت السباقة في الفتوحات الإسلامية، وهي من حافظت على الإسلام في اليمن بقيادة السيّد العلم يحيى بن الحسين بن القاسم، وصولاً إلى اليوم بقيادة السيّد العلم عبدالملك بدر الدين الحوثي، وفي هذه المناسبة تجدد القبيلة العهد والولاء والوفاء لل،ه ولرسوله، ولأعلام الهدى، على رأسهم سيدي وقائدي ومولاي عبدالملك الحوثي، ومضاعفة العمل والإخلاص في دعم الجبهات بالمال والرجال".
- معتمدون على الكذب والخديعة
مشايخ قبليون وضباط في الجيش يعضّون أصابع الندم والحسرة اليوم على وقوفهم مع الحوثيين، وتورّطهم في تمكينهم من الإنقاض على مؤسسات الدولة، وإسقاط العاصمة صنعاء، يقبعون في منازلهم مثل الأسرى مقيدي الحركة، وفاقدين لثقة الناس واحترامهم، تلاحقهم نظرات الازدراء والاحتقار في المجالس والمناسبات الاجتماعية، التي يحضرونها على استحياء.
شيخ قبلي من محافظة عمران صرح لـ"قناة بلقيس" -شريطة عدم الكشف عن هويته- بالقول: "الحوثة هؤلاء مالهم أمان، ولا عهد، ولا ميثاق، من صعدة إلى دار الرئاسة، وهم معتمدون على الكذب والخديعة؛ أول قالوا ما يستهدفوا إلا بيت الأحمر، وسقطت منطقة دنان وخيوان وحوث، وبشروا القبائل بالأمن والسلام، وبعدها قالوا الخط الأسود، وأسقطوا اللواء 310 ومحافظة عمران بالكامل، ومنها تمددوا إلى همدان وخيّموا في مداخل صنعاء الأربعة بذريعة إسقاط الجرعة السعرية، وسقطت صنعاء والقصر الجمهوري، وسقطنا كلنا في الحفرة، واليوم والله إن باطن الأرض خير من ظاهرها؛ قد الموت أهون من عيش الذل والمهانة.. تُقية وكذب ووقاحة واستخفاف بالناس لم يحدث في التاريخ".
- ادعاء الوطنية
عقب اجتياح مليشيا الحوثي العاصمة صنعاء، ونهب معسكرات الجيش ومخازنها، قامت في 12 مارس 2015 بإجراء مناورة عسكرية بأسلحة ثقيلة في منطقة كتاف بصعدة على الحدود السعودية، فكانت هذه المنطقة هدفاً للغارات منذ بدء عملية "عاصفة الحزم"، التي أطلقتها الرياض، في 25 مارس 2015، وقادت التحالف ضد الحوثيين.
وبعد 9 سنوات من الحرب، التي قُتل فيها مئات الآلاف من المدنيين، ونزح 4,5 ملايين شخص داخلياً، وأصبح أكثر من ثلثي سكان اليمن يعيشون تحت خط الفقر، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة، ظهر السفير السعودي، محمد آل جابر، في صنعاء، مساء السبت 9 أبريل 2023، وهو يصافح مهدي المشاط، ويتبادلان الابتسامات، فسقطت الدموع من عيني يحيى صالح شردة وهو يشاهد التلفاز في منزله بالحيمة الداخلية في محافظة صنعاء، وخيَّم الصمت في المجلس، لقد فقد اثنين من أبنائه الذي كانوا يقاتلون في صف الحوثي في جبهة نجران، تحت تأثير آلة الإعلام الدعائية للحوثيين، التي كانت توهم الشباب باستعادة نجران وجيزان وعسير؛ ليقتل ويجرح آلاف من اليمنيين في أطرافها، ولا زالت إذاعات الحوثيين تخدع عقول البسطاء بزوامل الوصول إلى الرياض، وقصر بن سلمان، ومن بينها زامل لطف القحوم، الذي قُتل بغارة للطيران السعودي.
شعبنا لا قد تقدم تقدم ... يبشروا بالضربة الحيدرية
با نشل أبها ووادي يلملم ... والمسا يا قوم وسط الحوية
- ملتزمون بـ"قواعد اشتباك" مع إسرائيل
وبعد التوقيع على الهدنة، عام 2022، وانحسار العمليات القتالية وغارات التحالف بقيادة السعودية، ظهرت بوادر غليان شعبي ضد مليشيات الحوثي على وقع سلسلة من الأزمات والفقر والجبايات والنهب، وخرجت مظاهرات تلقائية في صنعاء وإب والحديدة تندد بفساد الحوثيين، وتحتفل بذكرى ثورة 26 سبتمبر المؤسسة للجمهورية، فكان العدوان الإسرائيلي على غزة طوق نجاة للهروب من الاستحقاقات الداخلية، لتبدأ المليشيات هجماتها على السفن، وتعطي مبرراً لتكثيف تواجد القوات الأمريكية والبريطانية في البحر الأحمر وباب المندب. وكذراع لإيران، فالحوثيون ملتزمون بـ"قواعد اشتباك" مع إسرائيل لم يتجاوزها ما يسمى بـ"محور المقاومة"، وظلت "وحدة الساحات" في إطار المزايدة، والمشاغلة مع الاحتلال الإسرائيلي دون الذهاب إلى حرب واسعة.
- شعبوية ديماغوجية
وخلف الحوثي هناك العشرات من الرؤوس، ما بين المتشددين والانتهازيين وتجار الحروب، يشكلون اليوم مراكز نفوذ، ويمثل زعيمهم عبدالملك الحلقة الأضعف، رغم هالة القداسة التي خلقتها الدائرة المحيطة به. فلم يحظَ بأي تعليم نظامي، وبُنِيت خلفيته الثقافية في "معلامة" والده، وتحمل ملازم شقيقه المؤسس والثأر له؛ ليظهر من خلف الشاشة بخطابات شعبوية ديماغوجية.
في تسجيل مرئي مسرّب للقاء عبدالملك الحوثي مع المشرفين على جبهات القتال، يقول: "الناس في القرى تدعم الجبهات بما تملك، ذياك سيّر غنمه، وذياك يقدّم جمبيته، وذياك سيّر الثور حقه ذي ما معه إلا هو وهو محتاج له، لكن لكم يا مجاهدين، وثاني يوم يشاهدوا الناس المشرفين يبيعونها في الأسواق، ويشتروا لهم قات من أغلى القات، ويخدروا عليه".
المشرفون يخدرون بحزم القات، والحرب المفتوحة بالنسبة لهم وضع مريح، والمقاتلون معهم تحت شعاراتهم الزائفة مثل الزومبي، يتبعون الأوامر دون تفكير، ويهتفون خلفه ككتل من الأجساد المنومة مغناطيسياً، ويساقون إلى الموت مثل النعاج.