تقارير
الحوثيون وإيران.. تحالف السلاح وحدود الدم "تحليل"
بعد توقف الضربات الإسرائيلية والأمريكية على إيران، عاد التصعيد بين مليشيا الحوثيين والكيان الإسرائيلي إثر تنفيذ الحوثيين هجمات باتجاه إسرائيل بواسطة صواريخ باليستية، بذريعة إسناد قطاع غزة ضد العدوان الإسرائيلي، وبذلك يكون الحوثيون الطرف الوحيد من بين مكونات المحور الإيراني الذي ما زال ينفذ هجمات ضد الاحتلال الإسرائيلي، رغم التوقعات بتراجع الدعم الإيراني لهم بالسلاح وغيره، كون إيران بحاجة إلى مدة زمنية طويلة للتعافي من آثار الضربات التي تعرضت لها، قبل أن تعود لترميم محورها المنهار إن أمكن لها ذلك.
فما الذي يعنيه ذلك التصعيد؟ ولماذا توقفت هجمات الحوثيين باتجاه فلسطين المحتلة خلال الـ12 يوما التي تعرضت فيها إيران لهجمات عنيفة لم يسبق أن تعرضت لها طوال تاريخها؟ وهل الحوثيون جادون في نصرة قطاع غزة، أم أنهم يعملون وفق الأوامر الإيرانية؟ والسؤال الأهم: كيف هي العلاقة الآن بين إيران والحوثيين؟ وما مستقبلها؟ وهل العلاقة بين الطرفين تحكمها وحدة المصير أم المنافع المتبادلة؟
- تحالف الضرورة
بعد الضربات الإسرائيلية والأمريكية التي أضعفت إيران، وقبل ذلك انهيار بعض أذرعها في المنطقة، بدأت مرحلة جديدة من العلاقات داخل ما يُسمى "محور المقاومة"، وهي مرحلة تتجاوز شعارات "الممانعة" المعتادة إلى واقع معقد، من أبرز ملامحه الاستنزاف المزدوج داخليا وخارجيا. فهذا المحور الذي قدم نفسه كجبهة متماسكة ومتناسقة في وجه خصومه العرب وغير العرب، يواجه اليوم تحديات غير مسبوقة، تشمل ضغوط الخارج والتفكك الداخلي المتدرج، وتصادم حسابات كل طرف مع متطلبات الولاء المركزي لإيران.
وبعد أن دفع بعض وكلاء إيران الثمن المر لتحالفهم معها، وتخليها عنهم في أوقات محنتهم، فإنه لم يعد بإمكان طهران ضبط الإيقاع كما في السابق، أي أن الامتحان العسير الذي واجهته إيران وأتباعها كشف هشاشة الروابط بين ما يسمى محور المقاومة، وبالتالي فالأحداث الأخيرة شكلت نقطة مفصلية في العلاقة بين أطراف ذلك المحور.
وهذا لا يعني أن التفكك صار أمرا حتميا، فإيران ستعمل على إعادة بناء قوتها والاستفادة من دروس الأحداث الأخيرة، وكذلك المليشيات الطائفية التابعة لها ستظل تعمل على إعادة بناء قوتها، لكن كل ذلك سيكون بخطوات محسوبة، لأن الحرب الأخيرة كسرت كل المحرمات، وبالتالي فالوضع مهدد بالانفجار في أي لحظة يتبين فيها أن إيران أو أذرعها سيتجاوزون الخطوط الحمراء التي رُسمت لهم.
والجديد في الأمر أن إيران ستكون غير قادرة على حشد أذرعها بالزخم نفسه، ولا ضمان استجابتهم التلقائية لنداء المعركة، فكل طرف سيظل يزن خطواته بميزان دقيق: الوكلاء المحليون باتوا أكثر ارتباطا بمشاريعهم الطائفية الداخلية، وأقل استعدادا للانخراط في حروب كبرى تتجاوز قدراتهم، كما أن التآكل الاقتصادي والعقوبات أصابت إيران وأذرعها بحالة إنهاك طويل الأمد، تجعل من الصعب تمويل المعارك الكبرى المتزامنة.
فضلا عن ذلك، من شأن اختلاف ساحات الاشتباك أن يخلق أولويات متباينة، فما يهم مليشيا الحوثيين في اليمن قد لا يعني شيئا لحزب الله في لبنان أو الحشد الشعبي في العراق، وبالتالي فإن فكرة "المعركة الواحدة" لم تعد واقعية، ذلك أن كل طرف سيحدد معاركه وفق حساباته الخاصة، ضمن منطق "تحالف الضرورة" وليس "تحالف المصير".
وفي هذا السياق، تبرز مليشيا الحوثيين كنموذج واضح لهذا التحول، فهي تقدم نفسها كوكيل لإيران في المنطقة، للاستفادة من الدعم الذي تقدمه لها طهران، لكنها تضع "حدود الدم" فوق أي تحالف، مهما كانت قوة ذلك التحالف، بمعنى أنها لن تغامر في خوض مواجهة كبرى فوق طاقتها من أجل إيران خوفا من أن تخسر مكاسبها في الداخل، فتحالفها الوثيق مع طهران، وهجماتها غير المؤثرة باتجاه الكيان الإسرائيلي، وخطابها الدعائي الذي يزعم مناصرة فلسطين ومواجهة "قوى الاستكبار العالمي"، كل ذلك يُراد منه تعزيز وضعها الداخلي أو اكتساب شرعية شعبية وتهديد دول الجوار أو ابتزازها.
- السلاح بوابة العلاقة
ورغم البعد العقائدي في التحالف بين إيران ومليشيا الحوثيين، فإن الدعم بالمال والسلاح الذي تقدمه إيران للحوثيين يمثل البوابة لتلك العلاقة وشرط استمرارها، وكان الدعم الإيراني بالسلاح حاسما في تحول الحوثيين من مليشيا محلية محدودة القوة إلى مليشيا ذات حضور إقليمي قادرة على شن هجمات بواسطة صواريخ باليستية وطائرات مسيرة يصل مداها إلى عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة أو إلى أي دولة من دول الخليج، فضلا عن تهديد الملاحة في البحر الأحمر بعد أن أمدتها إيران بتكنولوجيا تهديد السفن.
وفي المقابل، أصبحت مليشيا الحوثيين أحد أدوات الحرب بالوكالة التي تستخدمها طهران للضغط على القوى الغربية، وهذا التحالف القائم على السلاح عزز روابط إستراتيجية بين الطرفين، لكنها روابط قائمة على تبادل المنفعة فقط لا على وحدة المصير، فإيران ستتخلى عن الحوثيين في حال تعرضوا لحرب وجودية كما تخلت من قبل عن حزب الله اللبناني، والحوثيون من جانبهم لن ينخرطوا في خوض معركة مفتوحة مع إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية تتجاوز قدراتهم، وتكون نتيجة ذلك انتحارا سياسيا وعسكريا يؤثر على وضعهم في الداخل.
وبما أن إيران تدرك أهمية السلاح في استمرار علاقتها مع الحوثيين، وأن هناك تحديات جديدة تتعلق بمسألة استمرار تهريب السلاح لهم، فإنها قد تعمل على توطين صناعة السلاح في المناطق التي تسيطر عليها المليشيا في شمال اليمن، لا سيما الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة والزوارق البحرية، وربما أنها قد نقلت تلك التقنيات إلى مناطق سيطرة الحوثيين من قبل، وأبقت على خبراء عسكريين هناك للقيام بمهمة التصنيع والتركيب، وتدريب عناصر حوثية على تلك التقنيات.
- مشروع داخلي بغطاء خارجي
تمثل مليشيا الحوثيين امتدادا للحكم الإمامي الذي ظهر في اليمن في القرن التاسع الميلادي، قبل أن تتحول إيران ذاتها إلى المذهب الشيعي الذي فرضه الصفويون هناك في القرن السادس عشر الميلادي، فقد كانت البلاد ذات غالبية سنية، لكن الصفويين نشروا التشيع بالقوة وجعلوه المذهب الرسمي للدولة، وهو ما يفسر التقاطع بين التجربتين الزيدية والصفوية، ثم محاولة الحوثيين حرف الزيدية نحو الإثنى عشرية، إذ يشترك الطرفان في توظيف الدين لخدمة مشروع سياسي يستند إلى العصبية المذهبية، مع تبني أدوات العنف والتجييش لفرض السيطرة وشرعنة الحكم.
حاليا، لا تقتصر استفادة الحوثيين من إيران على جانب التسليح والمال فقط، وإنما هناك جوانب كثيرة يستنسخها الحوثيون من طهران كطريقة الحكم الطائفي البحت وإقصاء جميع المخالفين مذهبيا، والتخطيط العسكري لمعارك الداخل، وإنشاء شبكات معقدة من الأجهزة الأمنية والاستخباراتية المخصصة لقمع المواطنين في الداخل، وكيفية تطييف المجتمع بالإكراه، وإدارة وسائل الإعلام لتكون ذات محتوى تعبوي باستمرار، والتعبئة الطائفية القتالية المستنسخة من ثورة الخميني، والمناورات السياسية (التقية)، وغير ذلك من الوسائل التي تستنسخها مليشيا الحوثيين من إيران لترسيخ نفوذها وسيطرتها.
ورغم كل ذلك، يدرك الحوثيون أن الانجرار وراء طهران في معركة مفتوحة يعني تحولهم من "ورقة رابحة" إلى "وقود حرب" يستنزفهم في صراع أكبر منهم، لذلك فهم يوازنون في خطواتهم، لأنهم لاعب محلي قبل أن يكونوا أداة إقليمية، ومشروعهم في اليمن هو الأولوية القصوى، وأي معركة تهدد بقاءهم في الداخل تعد خطا أحمر.
وأما تحالفهم مع إيران، وهجماتهم ضد الكيان الصهيوني، وتهديداتهم للسفن في البحر الأحمر، فكل ذلك بهدف تعزيز مشروعهم الداخلي، وهذا ما يجعل "حدود الدم" حاضرة دائما في قراراتهم، ولن يغامروا بالوقوف إلى جانب طهران مستقبلا إلا إذا تعرضوا هم لضربات متزامنة معها، وبدا لهم أن المعركة أصبحت مصيرية للمحور الإيراني بأكمله ولا تقتصر على إيران وحدها.
- موقع اليمن في حسابات طهران
لكن لماذا ستظل إيران متمسكة بتحالفها مع مليشيا الحوثيين، مهما بدت حساباتهم الداخلية مغايرة، أو مقدمة على أولويات طهران في هذه المرحلة تحديدا؟ لعل السبب في ذلك يعود إلى أن الموقع الإستراتيجي لليمن يمثل بالنسبة لطهران ورقة لا تُقدر بثمن، إذ يمكنها من تهديد أمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب، ومن خلال مليشيا الحوثيين تستطيع طهران استخدام البحر الأحمر كساحة صراع منخفض التكلفة.
وفي المقابل، يدرك الحوثيون أهمية هذه الورقة، ويوظفونها لتحقيق مكاسب مزدوجة، مثل إيذاء خصومهم الإقليميين والدوليين، دون التعرض لضربات واسعة النطاق، وابتزاز المجتمع الدولي للحصول على مكاسب سياسية. وبفضل الخصائص الجغرافية للبحر الأحمر، يمكن للحوثيين مواصلة تهديد الملاحة الدولية دون المخاطرة بخوض معارك برية، أو التعرض لضربات مباشرة على معاقلهم الرئيسية.
ختاما، رغم التحالف الوثيق بين إيران والحوثيين، لكن تخلي إيران عن وكلائها وقت الشدة، وعدم وقوفهم إلى جانبها وقت الشدة أيضا، يؤكد أن العلاقة بين الطرفين لم تعد تحكمها وحدة المصير كما يُروّج، وإنما صارت تحالفا تحكمه المصالح وقيود الضرورة وحدود الدم، فمثلا حين تحتفظ إيران بالحوثيين كورقة ضغط إقليمية منخفضة التكلفة، يتمسك الحوثيون بالدعم الإيراني كرافعة لبقاء مشروعهم في الداخل، دون استعداد لخوض معارك كبرى نيابة عن طهران.
وهكذا سيظل هذا التحالف قائما ما دامت المنافع متبادلة، لكنه مرشح للاهتراء كلما تباعدت الحسابات وتعارضت الأولويات، خصوصا في حال تعرضت إيران مجددا لضربات إسرائيلية وأمريكية مدمرة تقضي على برنامجها النووي تماما وتلحق أضرارا كبيرة بمصانع إنتاج الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، وانكفاء إيران على شؤونها الداخلية والتوقف عن مواصلة دعم مليشياتها التي أثبتت الأحداث عدم جدواها في اللحظات الحرجة.