تقارير
السلطة الشرعية.. من موقع القيادة إلى هامش المشهد
لم تعد مظاهر التراجع في أداء السلطة اليمنية الشرعية خفية أو قابلة للتجاهل، بل أصبحت تتجلى حتى في تفاصيل رمزية تعكس عمق أزمتها، كما حدث في الذكرى الـ35 للوحدة اليمنية، التي مرت بصمت رسمي مريب، دون احتفال أو حتى إجازة، في مؤشر صارخ على تفكك الهوية الجامعة، وانفصال السلطة عن رموز الدولة ومعناها.
ورغم كل ما قيل عن ضعف السلطة الشرعية وارتهانها للخارج، فالمأزق اليوم لم يعد يرتبط بذلك الغياب الرمزي أو بضعفها السياسي والإداري، بل بتحولها إلى كيان خارج معادلة الإنقاذ الوطني، كونها غير قادرة على بلورة أي تصور جاد سواء للقضاء على الانقلاب الحوثي أو الحسم ضد مشروع الانفصال، فضلا عن إنهاء الوجود العسكري السعودي والإماراتي في الأراضي اليمنية، وبلورة تصور جاد لمستقبل الدولة. فهل لا تزال السلطة الشرعية تمثل الدولة؟ وهل لديها القدرة لتكون ركيزة لأي مشروع وطني جامع؟
في بداية الحرب، كانت السلطة الشرعية تمثل العنوان السياسي الوحيد الذي يراهن عليه اليمنيون ويتكئ عليه الخارج للقضاء على الانقلاب الحوثي واستعادة الدولة اليمنية المختطفة، لكنها سرعان ما فقدت القيادة تدريجيا، وتحولت من كيان يفترض به أن يكون نواة المشروع الوطني إلى سلطة عاجزة وفاشلة تعيش على هامش المشهد، وأصبحت بلا قرار أو مشروع، ولا تستطيع تمثيل الشعب اليمني.
- التحالف وتقويض الشرعية
تدخل التحالف السعودي الإماراتي عسكريا في اليمن بهدف القضاء على مليشيا الحوثيين، لكنه بدلا من ذلك أضعف السلطة الشرعية وهمشها، وترك مليشيا الحوثيين تنمو وتكبر برعاية إيرانية حتى أصبحت تمتلك أسلحة تمكنها من قصف عمق الأراضي السعودية والإماراتية، وتحولت علاقة السلطة الشرعية بالتحالف من شراكة يفترض أنها تهدف لاستعادة الدولة، إلى علاقة تبعية وهيمنة، قيدت السلطة الشرعية، وسلبتها القدرة على المبادرة، وهمشتها ميدانيا، وعطلت مواردها، ووضعتها في موضع المتلقي غير القادر على الرفض أو النقاش، مما جعلها أداة تفاوض بدلا من كونها جهة فاعلة.
ومع مرور الوقت، أصبح دعم التحالف السعودي الإماراتي للسلطة الشرعية شكليا، وجعلها مجرد غطاء سياسي لترتيبات لا تعكس إرادة الشعب اليمني، وأعاد هندستها على نحو جعلها غير قابلة للنهوض، كما جعل منها غطاء هشا لا أكثر، وما يجري في كواليس السياسة يمثل تجاوزا تدريجيا لها تحت عناوين براقة مثل "الحلول الشاملة" و"التسوية السياسية"، مما يعني نزع الاعتراف الضمني بجدواها فعليا.
والأخطر في الأمر أن التحالف السعودي الإماراتي جعل الشرعية الدستورية للسلطة موضع تساؤل، من خلال العديد من الإجراءات المتعمدة لتحقيق ذلك الغرض. فمن الناحية الدستورية، تستند السلطة الشرعية إلى تفويض انتخابي ومسار توافقي، لكن التحالف ظل يجري تغييرات في مختلف هياكل تلك السلطة، بما في ذلك مؤسسة الرئاسة ذاتها، بشكل مخالف للدستور اليمني، لإبعاد كل الوجوه التي جاءت بتفويض انتخابي أو مسار توافقي بين المكونات المرخص لها بالعمل السياسي، مما يضعف المشروعية السياسية والأخلاقية للسلطة الشرعية، وسط تغييب تام ومتعمد لمؤسسات الدولة المنتخبة والرقابية.
وبسبب التحالف، أصبحت السلطة الشرعية تفتقر إلى الغطاء المؤسسي القادر على تبرير استمرارها، في ظل إخفاقها في تفعيل المؤسسات أو تقديم الحد الأدنى من وظائف الدولة، كما أن المؤسسات الممنوحة لها دستوريا لم تعد تعمل، وتم تهميشها لصالح كيانات أخرى، بعضها غير دستوري، وبعضها تشكل تحت غطاء الدعم الخارجي دون الرجوع إلى مسار تشريعي، أي أن التحالف جعل السلطة الشرعية مجرد واجهة شكلية، فقدت مؤسساتها، وتم تجاوزها من جانب كيانات مدعومة من التحالف ذاته لا تخضع للمسار الدستوري، مما يضعف مشروع الدولة ويعمق الفوضى المؤسسية.
- الانقسام داخل الشرعية
يضاف إلى ما سبق، أن التحالف السعودي الإماراتي تعمد تغذية الانقسامات داخل السلطة الشرعية، ثم أضاف مكونات جديدة غير دستورية إلى تلك السلطة، ليس لتوسيع دائرة المشاركة الشعبية، بل لنقل الانقسامات إلى أعلى مستويات السلطة، لأن ذلك سيفرغ "الشرعية" من مضمونها، ويحولها إلى حلبة للتجاذبات والصراعات، لتعطيل دورها تماما.
فالانقسامات انتقلت من الخلاف في الرأي إلى خلافات بين الهويات السياسية والمناطقية والجهوية، بمعنى أنها خلافات بين مشاريع متعارضة جذريا، من قوى تريد الحفاظ على يمن موحد، إلى أطراف تتبنى انفصال الجنوب، إلى تيارات إما عائلية وقبلية أو مؤدلجة تحتفظ بعلاقات تبعية مع أطراف إقليمية متنازعة.
وبدلا من أن تضم السلطة الشرعية أطرافا متحالفة، فقد أصبحت تضم أطرافا متصارعة ومتنافرة، مما عطل دورها تماما، ورسخ عجزها من داخلها. وإذا صح التوصيف، فالسلطة الشرعية أصبحت مختطفة بيد المجلس الانتقالي (الانفصالي)، فهو يتصرف كسلطة موازية تمتلك الأرض والسلاح والدعم الخارجي والقرار، وهذا يتم من داخل السلطة الشرعية ذاتها، وكأن التحالف أراد هندسة مشروع الانفصال ليتم من داخل السلطة الشرعية وليس من خارجها.
وفي ظل هذا التنازع والصراع، غابت القيادة الموحدة، وتفككت مرجعية القرار، وصارت كل جهة تدير مصالحها من بوابة "الشرعية" دون أن تؤمن بها كمشروع جامع. واللافت أنه حتى بعض الأطراف التي يفترض أنها ضمن "الشرعية" لم تعد تثق بها، بل بات كثير منها يفاوض أطرافا خارجية بشكل مباشر أو ينخرط في ترتيبات مستقلة ميدانيا، متجاوزا مؤسستي الرئاسة والحكومة.
أما الشعب اليمني فقد أصبح خارج الحسابات تماما، وبات ينظر إلى هذه "الشرعية" ذات المكونات المتنافرة بعين الريبة واللامبالاة. فبعد سنوات من الفشل الإداري، والانهيار المستمر للعملة المحلية، وانقطاع الرواتب، وغياب الأمن، تبددت الثقة، وتآكلت السلطة الرمزية لـ"الشرعية"، لأن المواطن في مناطق سيطرتها لا يجد فيها نموذجا مختلفا عن سلطات الأمر الواقع الأخرى غير الشرعية، بل قد يراها أكثر عجزا وفشلا وارتباطا بالخارج من خصومها.
كما تركت السلطة الشرعية فراغا إعلاميا وسياسيا في الساحة ملأه خصومها، الذين أصبحوا يمتلكون خطابا واضحا للترويج لمشاريعهم وخطابهم التعبوي، وتوسعت أدواتهم الإعلامية بدعم خارجي، بينما السلطة الشرعية تفتقر إلى خطاب وطني قوي يعبر عن طموحات اليمنيين ويواكب التحولات الجارية، كما غابت عنها الرؤية الجامعة لما بعد الحرب، حتى باتت أسيرة ردات الفعل لا المبادرات.
وبالتالي فإن غياب السلطة الشرعية، وانفصالها عن واقع المواطنين، يمهد الطريق لمزيد من مشاريع الفوضى وتعدد المشاريع المتضادة، ذلك أن الوضع البنيوي للبلاد -مثل انتشار السلاح، وضعف مؤسسات التعليم والقضاء، وسيطرة الجماعات المسلحة- كلها عناصر تمنع التغيير السلمي، وتجعل أي نهوض وطني صعبا ما لم يتم إعادة بناء المرجعية السياسية من جديد، وصولا إلى مشروع إنقاذ وطني شامل ينهي سيطرة المليشيات على الأرض شمالا وجنوبا ويستعيد الدولة.
- كيف صارت الشرعية حالة رمزية؟
كانت السلطة الشرعية، في بداية الحرب، عنوانا سياسيا رئيسيا تتكئ عليه الأطراف الخارجية الداعمة، ويستند إليه الخطاب الدولي عند الحديث عن الحل أو المخرج، بيد أن هذا المفهوم بدا مع الزمن أكثر غموضا وهشاشة، حتى صارت السلطة الشرعية وكأنها "حالة رمزية" وليست كيانا فاعلا أو مشروعا سياسيا قادرا على استعادة الدولة.
ومع تآكل حضورها في الداخل، وتلاشي الثقة الدولية من حولها، دخلت السلطة الشرعية في مرحلة من التيه السياسي والعجز الإداري يصعب معها الحديث عن قدرتها على تمثيل اليمنيين أو مخاطبة طموحاتهم، ويمثل ذلك الثمن المر لارتهانها لحكام الرياض وأبوظبي.
لقد عمل التحالف السعودي الإماراتي على تجريد السلطة الشرعية من عوامل القوة والحضور الشعبي، وحولها من جهة تنفيذية إلى ورقة تفاوض، وحاصرها من الموارد حتى تظل معتمدة كليا على الدعم الخارجي، فافتقرت إلى أدوات الفعل الذاتي، مما جعلها أشبه بسلطة مرتهنة تنتظر التعليمات أكثر مما تقود القرار.
كما أصبحت "الشرعية" مجرد منصة لصرف الرواتب والمخصصات المالية الخاصة بأعضائها وموظفيها، ومساحة لتقاسم النفوذ بين شخصيات اختارها التحالف السعودي الإماراتي، وسط اتهامات واسعة لها بالفساد والمحسوبية والانفصال عن الواقع اليومي لليمنيين، ولم تنجح في تقديم بديل يليق بتضحيات المواطنين الذين انخرطوا في الجيش الوطني والمقاومة الشعبية، وبالتالي فهي لم تعد تمثل الدولة، بل تمثل أزمة الدولة، وأصبحت جزءا من معادلة التعطيل، وتبدو غير معنية إلا بالبقاء الشكلي.
وبناء على ذلك، فقد بدأ الخارج يتخلى عن دعم السلطة الشرعية تدريجيا، ولم تعد القوى الكبرى تنظر إليها كجهة حصرية يمكن التعويل عليها، وتراجعت مكانتها في أجندة الحلفاء، الذين أصبحوا يرون أن بقاءها مجرد ملحق ضروري لترتيب شكلي لا أكثر، وبدأ الحديث يتحول من دعم الشرعية إلى البحث عن تسوية بين أطراف الأمر الواقع، بمن فيهم الحوثيون، الذين استفادوا من هذا الفراغ الذي مكنهم من السيطرة على معظم محافظات شمال اليمن، والعمل على عسكرة المجتمع وتطييفه وتحميله فاتورة الحرب، وأيضا فاتورة ثراء القيادات الحوثية.
ومع ازدياد ضعف السلطة الشرعية، لم تعد حتى بعض الأطراف التي تنضوي تحتها تثق بقيادتها أو تراهن على قدرتها على تمثيلها سياسيا، خصوصا بعد أن ظهرت تحديات وجودية جعلت السلطة الشرعية تتآكل تحت ضربات الحلفاء والخصوم معا، وهذا التآكل لا يهدد السلطة الشرعية فقط، بل يضرب في عمق مشروع الدولة ذاته.
أما الأحزاب السياسية، التي يفترض أنها أطراف محلية فاعلة تقع على عاتقها مسؤولية وطنية تاريخية للالتحام بالشعب وقيادة ثورة الخلاص، فإنها هي الأخرى أصبحت منفصلة عن الواقع، ولم تعد قادرة على إنتاج قرار وطني مستقل، ولا قادرة على مجاراة تحولات الخارج او احتياجات الداخل، وتتنازعها الانقسامات السياسية، والولاءات الإقليمية، والمصالح الخاصة، وبقيت إما أسيرة خلافاتها القديمة، أو ارتهنت لأجندات الخارج.
- ما الجدوى؟
ومن هنا تبرز الحاجة إلى مساءلة جادة حول جدوى استمرار هذه الصيغة من السلطة الشرعية التي أنتجها وهندسها التحالف السعودي الإماراتي، ومن يملك الحق في إعادة تعريفها أو تجاوزها، فإذا لم تتم استعادتها ككيان فاعل ضمن مشروع وطني جديد، فإن الخيار البديل أمام الشعب هو استبدالها بقيادة محلية تفرزها الحاجة الملحة لاستعادة الدولة من أطراف الفوضى والارتهان.
ورغم وعي المجتمع اليمني المتنامي بالحالة الكارثية التي وصلت إليها البلاد، ومعرفته بأطرافها المحلية والأجنبية تماما، لكنه يواجه عوائق وألغاما بنيوية، لعل أبرزها الفساد والانقسام وانتشار السلاح غير الشرعي في أيدي مختلف المليشيات والتشكيلات العسكرية غير النظامية، وبالتالي فإن أي صحوة شعبية ستصطدم بمعوقات حقيقية، سواء من القوى المهيمنة على الأرض الرافضة للتغيير، أو من مصالح الخارج التي ترى في يقظة الداخل تهديدا لمصالحها ولترتيبات ما بعد الحرب.
إن الحالة التي وصلت إليها السلطة الشرعية تمثل أزمة مشروع الدولة بأكمله، فالدولة بمفهومها الحديث لا يمكن إنقاذها عبر هذه الصيغة من "الشرعية"، وبالتالي فالحاجة باتت ماسة إلى قيادة جديدة، تنبثق من الداخل وتعبر عن مصالح المواطنين لا عن مصالح الخارج.
وإذا لم تتم استعادة "الشرعية" ككيان فاعل ضمن مشروع وطني حقيقي، فإن التاريخ لن ينتظرها طويلا. ورغم كل العوائق، سيجد اليمنيون، عاجلا أم آجلا، بدائلهم التي ستفرزها الحاجة الملحة لإنقاذ البلاد بعيدا عن القرارات الخارجية.