تقارير
المشهد اليمني بعد إنهاء حرب غزة.. تداعيات ومسارات جديدة
تسببت عملية طوفان الأقصى والعدوان الصهيوني الوحشي على قطاع غزة في إحداث تغيير كبير في المنطقة، ستظل تداعياته قائمة لمدة طويلة، ولا يبدو أن الأوضاع ستعود إلى ما كانت عليه قبل 7 أكتوبر 2023، بل ستتخذ مسارا تصاعديا ومتشعبا، استنادا إلى الواقع الحالي الذي أفرزته تداعيات تلك الحرب.
وبما أن إيران دفعت باليمن، عبر مليشيا الحوثيين، إلى حافة خطوط النار، فلا شك أن الوضع في اليمن سيتأثر بإنهاء الحرب في غزة، حيث تبدو مليشيا الحوثيين الطرف الوحيد الذي خرج رابحا من تلك الحرب مقارنة بمكونات المحور الإيراني الأخرى التي خسرت جميعها، بل إن بعضها قد تعرض للانهيار التام.
ولعل أبرز مكسب حققه الحوثيون هو نجاتهم من مصير يشبه مصير حزب الله اللبناني ونظام بشار الأسد، وفي الوقت نفسه نجحوا في تحقيق حضور إعلامي إقليمي ودولي لفت أنظار لاعبين كبار على الساحة الدولية، مثل الصين وروسيا، اللتين اتهمتهما واشنطن بدعم الحوثيين بالسلاح أو تزويدهم بمواد تستخدم في تطوير أسلحتهم. لكن كيف سيستثمر الحوثيون مكاسبهم محليا وإقليميا؟ وكيف سينعكس ذلك على مسار الصراع في اليمن؟
- حرب غيرت وجه المنطقة
لعل أبرز متغير إقليمي تسببت به الحرب في غزة هو أنها قضت على حلم إيران بالسيطرة الكاملة على منطقة المشرق العربي، بعد إسقاط نظام بشار الأسد وتدمير معظم قوة حزب الله اللبناني واغتيال أبرز قياداته، مما شكل صدمة كبيرة لإيران وللمليشيات التابعة لها، فالتوسع والنفوذ الذي راكمته طهران خلال أربعة عقود منذ الثورة الخمينية وحتى اليوم انتهى خلال أسابيع قليلة، وانتهى معه وكلاء أقوياء كانوا بمنزلة رأس حربة تهدد بها إيران الإقليم والعالم، ولم يبق لها من وكلاء لم تتأثر قوتهم سوى مليشيا الحوثيين في اليمن، بينما المليشيات العراقية قد تخضع لقيود الدولة هناك أو ستنكفئ على نفسها.
لقد انتقلت إيران من مرحلة مراكمة المكاسب إلى مرحلة مراكمة الخسائر وإحصاء الأموال التي بددتها في تمويل وتسليح مليشياتها دون فائدة في نهاية المطاف، وفوق ذلك فقد صارت تحت الأنظار المتركزة عليها هي ومليشياتها، فحزب الله لن يتمكن من إعادة بناء نفسه من جديد، كما أن إيران لن تتمكن من إعادة تزويده بالسلاح، كونه تحت مراقبة إسرائيلية مشددة، وسوريا لن تعود إلى المحور الإيراني بعد التغيير الكبير الذي شهدته، والمليشيات العراقية سيتم تقييدها بأي طريقة، وبالتالي لم يعد لدى إيران سوى مليشيا الحوثيين في اليمن، فهل ستكتفي إيران بتلك المليشيا لتنفيذ أجندتها في الإقليم؟
لا شك أن إيران ستحاول التأقلم مع الواقع الجديد، وهذا سيقتضي عدة مسارات وفق ما تقتضيه كل جبهة من جبهات محورها، فهي، أي إيران، ستتجه نحو التهدئة ومحاولة بناء علاقات جديدة في مناطق خسرتها ولا أمل باستعادتها، مثل سوريا ولبنان، وفي الوقت نفسه ستحاول العمل من الصفر لإعادة بناء محورها المنهار، مع استمرار دعم الحوثيين للاستفادة منهم كمليشيا طائشة ومغامرة يمكن من خلالها التهديد الدائم بإغلاق مضيق باب المندب مثلما تهدد طهران دائما بإغلاق مضيق هرمز كلما اشتدت أزمتها مع المجتمع الدولي بشأن برنامجها النووي.
- الحوثيون في ميزان الربح والخسارة
هناك مبالغات بشأن دور الحوثيين المزعوم بإسناد قطاع غزة، سواء هجماتهم على الاحتلال الإسرائيلي، أو استهدافهم السفن الأمريكية وغيرها في البحر الأحمر وتحدي تحالفات قوى كبرى تشكلت لمواجهة تهديداتهم، أو قدرتهم على مواجهة الغارات الجوية ضدهم، فضلا عن موقعهم الحقيقي في توازنات القوة داخل اليمن.
ومن زاوية أخرى، فهم ما زالوا إلى الآن يتحركون في مساحات فضفاضة وفي فراغ يبدو وكأنه سُمح لهم بالعبث فيه بحرية، بدليل أن معظم هجماتهم بالصواريخ والطائرات المسيرة إما يتم اعتراضها أو أنها تسقط بعيدا عن الأهداف المفترضة، وفي المقابل فالعمليات العسكرية التي نُفذت ضدهم لم يتضرروا منها لأنها طالت أهدافا فارغة أو بنى تحتية مدنية.
وبما أنه لا هجمات الحوثيين كانت ذات جدوي، ولا الهجمات ضدهم كانت مركزة واستهدفت قيادات كبيرة ومخازن أسلحة نوعية، فإن الحديث عن مكاسب كبيرة لهم وتنامي قوتهم العسكرية ومدى حضورهم الإقليمي يظل محل شك.
أما فيما يتعلق بقوتهم العسكرية، فهم حتى وإن حصلوا على أسلحة حديثة ومتطورة وقادرة على الوصول إلى عدد من دول الإقليم، لكنهم لم يصبحوا قوة عسكرية لها وزن كبير بإمكانها إحداث أي تغيير في موازين القوى بالمنطقة، ولن يتمكنوا من الصمود في حال تعرضوا لعمل عسكري جاد وشامل وعنيف.
وفي الحقيقة، يعود تنامي قوة الحوثيين إلى تخاذل أعدائهم عن مواجهتهم ومحاصرتهم، يستوي في ذلك الحكومة اليمنية الشرعية والتحالف السعودي الإماراتي ثم تحالف الازدهار وتحالف أسبيدس، بينما إسرائيل ليس لديها حضور استخباراتي في مناطق سيطرة الحوثيين لعدم توقعها بأنها قد تتعرض يوما ما لهجمات من جانب الحوثيين.
وبالرغم من ذلك، فمعيار المكاسب والخسائر بالنسبة لإيران ومليشياتها، وتحديدا الحوثيين، تختلف عن معايير الآخرين في الربح والخسارة، فحتى انهيار حزب الله أمام إسرائيل وصَفته إيران ومليشياتها بأنه نصر، فكيف سيصفون دور الحوثيين وموقعهم في معادلة الصراع وعدم تعرضهم لحرب وجودية رغم هجماتهم على الاحتلال الإسرائيلي والسفن في البحر الأحمر طوال الأشهر الماضية؟
وفي هذا السياق، فإن هجمات المحور الإيراني على إسرائيل، بما في ذلك الهجمات الحوثية، لا تهدف بالضرورة إلى تحقيق إنجازات عسكرية نوعية بقدر ما تسعى إلى توجيه رسائل للخصوم في الجبهات الداخلية، وهذا الأسلوب يُستخدم لتعزيز الهيمنة على الساحات الداخلية من خلال ترسيخ صورة القوة والاستقواء على الخصوم السياسيين والعسكريين المحليين، ما يتيح لهم التحكم في المشهد الداخلي بأريحية أكبر.
فضلا عن ذلك، فإن تلك العمليات تُعد جزءا من حرب نفسية تُمارس ضد أعداء المحور الإيراني داخل حدودهم، حيث تعمل على رفع معنويات الجنود والمقاتلين التابعين لتلك المليشيات في جبهات القتال الداخلية، بينما الهجمات الخارجية، رغم محدودية جدواها العسكرية، فإنها تُوظف إعلاميا وسياسيا لإظهار القوة أمام الجمهور المحلي والمقاتلين، مما يعزز من ولائهم واستعدادهم للاستمرار في القتال بصرف النظر عن التحديات الكبرى التي يواجهونها.
- تداعيات نشوة القوة
وتحت تأثير نشوة القوة الوهمية التي تروج لها مليشيا الحوثيين، ووصفها لخصومها في الداخل بأنهم أدوات الصهاينة، واعتقادها أنها نجحت في مواجهة قوى كبرى مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، فمن المتوقع أن تزداد نزعتها نحو تصعيد الحرب في الداخل، وستدفعها تلك النشوة إلى المزيد من العنف ضد القوى المحلية المعارضة لها كمليشيا طائفية عنصرية.
وهو ما يعني أن الساحة اليمنية ستصبح عرضة لمزيد من الحروب والدمار بهدف تحقيق مكاسب سياسية وعسكرية تحت غطاء الخطاب الإعلامي الذي يضخم انتصارات الحوثيين المزعومة، وستنعكس تلك التصرفات بشكل مدمر على الشعب اليمني، الذي يعيش ظروفا مأساوية بسبب الحرب ستشتد حدتها في حال اشتعال الحرب مجددا، وستتعرض المدن والقرى لمزيد من التدمير، وسيرتفع عدد النازحين والضحايا المدنيين، مما يعمق الأزمة الإنسانية في البلاد التي وصلت بالفعل إلى مستويات كارثية.
وعلى الصعيد الإقليمي، فإن أي تصعيد داخلي لن يقتصر أثره على اليمن وحده، بل سيمتد شرره إلى الإقليم، فمثلا لن تسمح السعودية للحوثيين بقضم مزيد من الأرض حتى وإن كانت في حالة هدنة أو مصالحة معهم ومع إيران، ولا شك أن الحوثيين سيهاجمون السعودية في هذه الحالة، علما أن هجماتهم على إسرائيل والسفن الأمريكية كانت أيضا لإرسال رسائل سياسية وعسكرية للسعودية حتى لا تعاود التدخل ضدهم عسكريا في اليمن في حال أشعلوا الحرب مجددا، ويعتقدون أن تحييدها عن الصراع سيمكنهم من توسيع نطاق سيطرتهم في الداخل.
- مكاسب محدودة وتحديات مصيرية
بالرغم من أن مليشيا الحوثيين استطاعت استثمار حرب قطاع غزة في تعزيز صورتها كجزء من المحور الإيراني أو ما يوصف بمحور المقاومة، فإن مكاسبها ستظل محدودة أمام التحديات الكبيرة التي تواجهها، فالحراك الإعلامي والعمليات العسكرية المحدودة التي نفذتها تلك المليشيا لم تغير من ميزان القوى محليا أو إقليميا.
وإذا كانت تلك المليشيا قد كسبت بالفعل دعما دوليا غير مباشر من قوى كبرى مثل الصين وروسيا، لكن تلك القوى ستتجنب المغامرة بسمعتها أو مصالحها الإستراتيجية في حال تعرضت مليشيا الحوثيين لحرب وجودية، بل فحتى إيران ستتخلى عن الحوثيين في حال تعرضهم لحرب وجودية كما تخلت من قبل عن حزب الله اللبناني ونظام بشار الأسد.
وبالنسبة للسعودية يبدو أنها ترغب في أن يستمر تهديد الحوثيين لإسرائيل وللملاحة عبر البحر الأحمر، لأن ذلك سيوسع دائرة خصوم الحوثيين إقليميا ودوليا، وهذا التكتيك سيتيح لها حشد مواقف أكثر قوة وفاعلية في حال قررت مواجهة الحوثيين بشكل مباشر، خصوصا إذا تجاوز الحوثيون خطوطا حمراء قد تهدد أمنها القومي أو منشآتها النفطية وغيرها.
ومع تصاعد مسار التطبيع المتوقع بين إسرائيل ودول عربية بعد حرب غزة، وتعزيز الاتفاقيات الأمنية الإقليمية، سيزداد الضغط على الحوثيين، وستصبح تحركاتهم تحت مجهر استخباراتي أكثر كثافة، وهذه الاتفاقيات قد تستخدم لتعزيز التنسيق العسكري والسياسي ضد تهديدات الحوثيين، مما يضعف قدرتهم على المناورة الإقليمية أو توسيع نطاق سيطرتهم داخل اليمن.
وفي الوقت نفسه، فإن الوضع الحالي يقدم فرصة ذهبية للحكومة اليمنية الشرعية لتعزيز تحالفاتها الدولية والإقليمية ضد الحوثيين، وإذا نجحت الحكومة الشرعية في استثمار المتغيرات الإقليمية والدولية وتوحيد صفوف المكونات اليمنية لاستعادة الدولة، فإنها ستتمكن من إحكام الطوق حول الحوثيين واستعادة السيطرة على المشهد السياسي والعسكري في اليمن.
وهكذا يتضح أنه في الوقت الذي حقق فيه الحوثيون مكاسب ظرفية عبر استثمارهم لحرب غزة، فإن خسائرهم الإستراتيجية وتحدياتهم المستقبلية تفوق مكاسبهم بمراحل، فالموقف الإقليمي والدولي يضيق عليهم، والنشاط الاستخباراتي سيتزايد ضدهم، وكل ذلك قد يمهد الطريق لتحولات كبرى في الصراع اليمني إذا أحسن اليمنيون استغلال تلك المتغيرات، مما يضع الحوثيين في موقف صعب يهدد وجودهم وليس بإمكانهم مجابهته إلى ما لا نهاية.