تقارير
جنات.. قصة كفاح طفلة على أرصفة تعز من أجل المدرسة
قناة بلقيس - هشام سرحان
تغادر الطفلة "جنات صالح"، وهي في ربيعها السابع، طفولتها وتدخل معترك الحياة والبحث عن الرزق، ومعها براءتها وأحلامها في مواصلة تعليمها، كما تقعد على رصيف إحدى الأسواق، وسط مدينة تعز، وتخوض مواجهة شرسة مع الفقر والجهل والحرمان وشدة الحاجة، راسمةً -رغم صغر سنّها- لوحة فريدة في الكفاح، لكسب لقمة العيش، والأبجديات الأولى للعلم.
تستيقظ الطالبة في الصف الثاني الابتدائي باكراً، وتخرج من غرفة متواضعة تُقيم فيها مع والدتها وإخوتها الثلاثة، فتذهب إلى مدرستها، وتأخذ عددا من الحصص إلى أن يحين موعد خروجها مع زميلاتها اللاتي يعدن إلى منازلهن، فيما هي تبدأ رحلة أخرى مع العمل، وتلحق بوالدتها في السوق، لتساعدها في أعمال البيع، وتحل مكانها وقت استراحتها وغيابها.
تسعى جاهدة للتوفيق بين مدرستها صباحاً وتسيير أعمال "بسطة" والدتها الصغيرة في "سوق عبده سيف"، بمنطقة "بير باشا"، وسط المدينة، مساءً، وهناك تتوسط بضاعتها، وتقعد تحت مظلّة لا تقيها الرياح والغُبار وأشعة الشمس، التي تباغتها من كل اتجاه، في حين تقوم بالبيع تارةً، ومذاكرة دروسها وحلّ واجباتها المدرسية تارةً أخرى.
وتبيع: التوت، والحمر (التمر الهندي)، والمشاقر، والبيض المسلوق، لكن ذلك لم يلهها عن أخذ حظّها من التعليم، فتُولي دروسها وواجباتها اهتماماً وشغفاً كبيرين، وتستغل أوقات فراغها في "البسطة" لمُطالعة صفحات كتبها ودفاترها أحياناً، والإنصات لوالدتها، التي تعطيها دروساً في مختلف المواد الدراسية.
هذه الطفلة تعكس صورة مأساوية للأطفال، وأوضاعهم الإنسانية والمعيشية في عموم البلاد، وذلك جراء الحرب الدائرة فيها للعام السادس على التوالي، ما دفع بالكثير من الأسر نحو الفقر وشدّة الحاجة، وأُجبر الأطفال على تحمّل أعباء عائلاتهم، ومزاولة أعمال مختلفة، بينها أشغال شاقّة.
مفترق العذاب
وتعد جنّات واحدةً من بين خمسة ملايين طفل في اليمن، كبروا قبل أوانهم، وتحمّلوا المسؤولية مبكراً، بينهم ثلاثة ملايين طفل خارج المدارس.
وتتشح بزيّها المدرسي، الذي لم تجد فرصة لخلعه، وهي في "البسطة"، التي التقيناها فيها، ووجدناها طفلةً صغيرةً لا تُتقن الكلام، لكنّها تُجيد البيع والاجتهاد، وبوجهها الأسمر، الذي يعتريه الوقار والهدوء ويفتقر لابتسامة ولو مسروقة، تقول جنات لموقع "بلقيس": "أدرس في الصباح، وبعد خروجي من المدرسة أذاكر وأشتغل".
وتعرف جيداً دورها، وتحفظ أسماء بضاعتها، التي ذكرتها بصوت منخفض يصعب سماعه، لكنه مُثخن بالحزن والهموم وثقل المسؤولية، المُلقاة على عاتقها، فتذكر "بعد المدرسة البضاعة".
ويحضر التعليم والبيع في عباراتها المختصرة، وكأنّها وُلدت للشَّقاء والعَناء، وإن لم يستأثرا باهتمامها وتفكيرها، إلا أنها تقتنص من تلك اللحظات فرصةً للمذاكرة وحلِّ الواجبات. وتؤكد: "أذاكر أثناء تواجدي في البسطة، وأنتبه للبضاعة، وأساعد أمي في البيع".
وتستشعر مدى مُعانات والدتها، ومسؤوليتها الكبيرة في إعالة ثلاثة من أشقائها، وتحمّل نفقاتهم الدراسية، وتوفير قوت يومهم. فتوضّح "أمي تطلب الله، وتذاكر لي".
وسلبت الحرب جنّات وغيرها حقوقهم وطفولتهم، وحرمتهم من حقّهم في التعليم، والمأوى، والعيش الكريم، واللعب، والمَرح، في بلد دمّرته الحرب، ودفعت بقرابة 10 ملايين طفل إلى دائرة الاحتياج للمساعدات الإنسانية العاجلة، من: غذاء، وماء، ودواء، وملابس، ومأوى، وصرف صحي، طبقاً لتقارير دولية.
ويضيق وقتها، فلم تعد تجد فرصةً للّهو واللعب، والالتقاء بأطفال حارتها، كما تفتقر في منزلها للكثير من المُتطلبات، بينها "لُعب الأطفال"، والتي أضحت ترفاً وأمراً مستبعداً من قائمة اهتمامات أسرتها، التي تقتصر أحلامها على توفير إيجار السكن، والوجبات الغذائية المتواضعة، وغير المكتملة.
حرمان
وبدا عليها الأسى والحزن، وخنقتها الغُصة وهي تروي أحد فصول الحرمان، قائلة: "كنت ألعب في القرية، أما الآن لا ألعب، ولا أجد وقتا لذلك".
وكانت قد انتقلت مع والدتها وأشقائها،من احدى قرى "الأقروض"، مديرية "صبر الموادم"، جنوبي تعز ، إلى المدينة، بسبب مشاكل أُُسرية، وفيها استأجرت الأم غرفةً واحدةً، في الوقت الذي تفتقر فيه للمال، ففكّرت بإنشاء "البسطة"، وبطريقة تسيير العمل فيها، والكيفية التي ستوفّق بها بين البيع ومسؤوليتها تجاه أطفالها، ومذاكراتهم، وحلّ واجباتهم.
وتستشعر بذكاء وفِطنة أثرَ عملها في "البسطة" على مستواها التعليمي، إذ تشير وعلى استحياء، إلى عدم تصدّرها قائمة أوائل الصف لهذا العام، وتؤكد حصولها على علامات عادية، مُرجعةً ذلك -في إضافتها المقتضبة- "أصلاً أدرس، وأطلب الله".
وتتطلع في الأفق، وفي أعماقها أحلام كثيرة، بينها: انتهاء الحرب، والعيش بسلام، واكمال دراستها، وتحقيق طموحها، في أن تصير مُعلمة في المستقبل.
وتتحلّى بعزيمة قويّة، وإصرار كبير على التعليم، وتبذل جهوداً ملحوظة في المذاكرة، واستغلال وقت فراغها لذلك، كما ترفض الانصياع لرغبة والدتها في العودة إلى المنزل، والاستراحة فيه، حسب أمها، التي قالت لموقع "بلقيس": "إبنتي مجتهدة، وتُذاكر باستمرار، كما تُلح بالسؤال، وتطلب من الآخرين تعليمها، بمن فيهم أصحاب البسطات المجاورة".
وتضيف: "لا تريد ترك المذاكرة، حتى في أوقات عملها في البسطة، كما أنّها لا تريد أن يتراجع مستواها العلمي في المدرسة".
وتغيب عن أمها أحياناً، ومعها كُتبها ودفاترها، ما يدفع والدتها إلى البحث عنها، فتجدها عند بائع الخضروات القريب من "بسطتها"، والذي يقوم بتعليم جنّات مادة الرياضيات، وغيرها.