تقارير
سفينة "مادلين".. اختراق رمزي للحصار وغطرسة الاحتلال الإسرائيلي
بينما تتآكل المبادرات الرسمية ويتراجع الدور العربي في المحافل الدولية، تخرج من الهامش مبادرات شعبية ومدنية تضع غزة مجددا على واجهة الضمير العالمي.
السفينة الفرنسية مادلين، التي أبحرت من ميناء كاتانيا الإيطالي نحو شواطئ غزة، لم تكن تحمل سوى 12 ناشطا دوليا ومساعدات إنسانية رمزية، لكن اعتراضها من قبل البحرية الإسرائيلية في المياه الدولية، واختطاف ركابها إلى ميناء أسدود، كشف عن مدى تغوّل القوة الغاشمة، واستباحة كل نص قانوني أو أخلاقي.
الرد الشعبي لم يقتصر على البحر. في الوقت ذاته، انطلقت من تونس قافلة صمود البرية باتجاه معبر رفح، وعلى متنها مئات المشاركين من نقابيين وبرلمانيين وناشطين حقوقيين، ضمن تحرك غير رسمي واسع النطاق من دول المغرب العربي. قافلة لا تسعى إلى كسر الحصار جغرافيا فحسب، بل تسعى إلى فضح عجز النظام العربي الرسمي، واستعادة المبادرة الشعبية التي تراكمت في الظل منذ سنوات.
الباحث السياسي الدكتور معاذ العمودي يرى أن ما جرى ليس حدثا معزولا، بل فصل جديد في سلسلة طويلة من المحاولات المدنية لكسر الحصار البحري منذ عام 2006. لكن الفارق – كما يقول – أن هذه المرة جاءت التحركات وسط انكشاف أخلاقي غير مسبوق، لدولة الاحتلال، وجرائم يُعرض مشهدها يوميا أمام أعين العالم دون مواربة.
قرصنة بحرية وانتهاك سيادة
من جانبه، أكد الدكتور عبد المجيد مراري، مدير قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في منظمة "أفدي الدولية"، أن اعتراض السفينة "مادلين" يشكل انتهاكا متعدّد الطبقات: فالسفينة كانت ترفع العلم البريطاني وتبحر في مياه دولية، ما يعني أنها تحت السيادة البريطانية لا الإسرائيلية، كما أن ركابها من جنسيات أوروبية، وليس لإسرائيل أي ولاية قانونية عليهم، وثالثا، لم تكن السفينة تحمل أي شحنات عسكرية، وقد أقرت بذلك السلطات الإسرائيلية نفسها.
ووفق مراري، نحن أمام "جريمة قرصنة بحرية"، كما نص عليها قانون البحار لعام 1982، و"حالة اختفاء قسري واحتجاز تعسفي"، و"خرق لاتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية"، فضلا عن "خرق فاضح لاتفاقيات جنيف، التي تلزم القوة المحتلة بضمان دخول المساعدات إلى السكان المدنيين".
وأضاف أن "الاحتلال لا يمنح إسرائيل أي حق في فرض التجويع على غزة، بل يلزمها القانون الدولي بتوفير الإمدادات الأساسية، والمساهمة في توزيعها من مواردها إن لزم الأمر". وهو ما يجعل ما يحدث "جريمة حرب" مكتملة الأركان، كما تنص المادة الثامنة من نظام روما الأساسي.
من رمزية التحرك إلى فعاليته السياسية
التحرك الشعبي لم يغير المشهد القانوني فقط. فالضغط المتصاعد من الشارع الأوروبي – بحسب العمودي – أجبر دولا كانت تصطف دون تردد خلف الرواية الإسرائيلية، على التراجع أو إعادة النظر. فرنسا وهولندا وبلجيكا شهدت تحولا ملحوظا في الخطاب الرسمي، مدفوعا بتحرك غير مسبوق من وسائل الإعلام والنقابات وكتل المجتمع المدني. بل إن بريطانيا، التي كانت تعتبر الحليف الأوثق لإسرائيل، بادرت إلى فرض عقوبات على وزيرين إسرائيليين بعد حادثة "مادلين"، في خطوة فسّرها مراقبون كرد مباشر على انتهاك سيادتها.
مراري يشير إلى أن "الحراك القانوني يتقدم بخطى ثابتة"، إذ توجد عشرات الدعاوى التي تحركت في أوروبا ضد جنود مزدوجي الجنسية متورطين في جرائم ضد المدنيين في غزة، والمدعي العام الفرنسي فتح تحقيقا رسميا في ملف مشاركين فرنسيين في الانتهاكات. وداخل المحكمة الجنائية الدولية، تتقدم مذكرة توقيف بحق وزيريْن إسرائيلييْن بتهم تتعلق بالتجويع الممنهج وجرائم الحرب.
ورغم الطابع الشعبي المتصاعد للمبادرات، تبقى الأنظمة العربية في موقع المتفرج أو المتواطئ.
العمودي من جهته، يرى أن بعض الدول العربية لم تكتف بالصمت، بل بدأت تتعرض للضغط الشعبي الداخلي نتيجة موقفها السلبي. ويشير إلى أن مصر مثلا باتت في مأزق حرج: إن منعت دخول القوافل، فهي طرف مباشر في الجريمة؛ وإن سمحت بها، فهي تفتح الباب لحراك شعبي قد لا تقدر على احتوائه.
اللافت أن المبادرات العربية، رغم محدوديتها، جاءت هذه المرة من الضفة التي طالما وُصفت بالمهمشة: من تونس والمغرب والجزائر، لا من العواصم التي اعتادت تصدّر المشهد الإعلامي والدبلوماسي.
وفي الخلاصة، ما بين الاختراق الرمزي للبحر، والزحف الشعبي عبر البر، تتشكّل رسالة مزدوجة مضمونها أن الفلسطينيين ليسوا وحدهم، وبالنسبة للاحتلال فإن الحصار ليس قدرا مكتوبا. لكن هذه الرسائل، كي تكون فعالة، تحتاج إلى حواضن دائمة تتجاوز موسمية المبادرة، وتتحول إلى فعل استراتيجي مستمر، كما يقول العمودي، لا يكتفي بالاحتجاج، بل ينتقل إلى صناعة ضغط قابل للتراكم والتأثير.