تقارير
متحف الذاكرة في تعز يحاكم جرائم المليشيا.. أعمال توثّق عقداً من الحصار وتحفظ الوعي للأجيال
تتعرض مدينة تعز منذ أكثر من عشر سنوات لحصار وحرب شرسة شنتها ميليشيا الحوثي. إذ يقول حقوقيون: إن هذه الفترة تعد واحدة من أطول الجرائم التي تتعرض لها مدينة في التاريخ المعاصر.
في محاولة لتخليد هذه الآلام، أقيم في تعز معرضا للذاكرة الوطنية يضم مئات اللوحات الفنية والتشكيلية إضافة إلى الصور الأرشيفية، والتي تعرض جانباً من معاناة المدينة وأبنائها جراء الحصار والجرائم والانتهاكات التي ترتكبها ميليشيا الحوثي طوال عدوانها على المدينة، وكيف قاوم الشعب وما زال بكل قدراتهم وإمكانياتهم هذه الوحشية وهم يحمون مدينتهم من الخطر الذي يحيط بها؟
فعل مقاوم
يقول مستشار محافظ تعز للشؤون الثقافية، مختار المريري، هذا المعرض مثل مقاومة غير عادية، في ظروف عقد من الزمن رزحت تعز تحت وطأة الحصار، حصار بالرصاص، حصار الغذاء، حصار الدواء، حصار القذائف.
وأضاف: تعز قاومت بأكثر من القتال العسكري، قاومت بالفن، قاومت بالكتابة، قاومت بالصورة، واليوم تعيد صياغة الجغرافيا، حيث التقى الزمان والمكان والوجدان في تعز.
وتابع: هذا المعرض مثل أيضاً صموداً كبيراً، عكس صمود المدينة الكبير، حيث وثق بالصورة والرسم تاريخ بداية الحصار، وأوضح كل مسالك الطرق البديلة، كانت هناك طرق تحتاج لخمس دقائق للانتقال من منطقة إلى أخرى، وانعكست الطرق والخمس دقائق صارت ثمان ساعات إلى عشر ساعات.
وأردف: المعرض رسم وصور تلك الطرق البديلة والمواطنون يحملون قرب الماء، والعلاج للجرحى عبر طرق وعرة وشرسة، وأحياناً كان المواطن يسقط وهو يحمل كرتون علاج أو قربة ماء في تلك الطرق.
وزاد: المعرض هذا يخلد ذاكرة الصمود، ذاكرة البطولة، ذاكرة التحدي، ضد هذا الصلف الحوثي المتخلف واللقيط.
وقال: مع الأحداث المتراكمة، كالحدث الاقتصادي، والحدث السياسي، وغيرها من الأحداث المختلفة المتنوعة، ربما قد تصاب الذاكرة بخمول أو نوم مؤقت، لكنها تنبعث بمثل هذه الفعاليات.
وأضاف: هذه الفعاليات تحيي الذاكرة، تنفخ الروح في الذاكرة المقاومة القادرة على المقاومة بشكل أو بآخر، هذه الذاكرة اليوم التي كانت في تعز ليست مجرد فن بصري، بل هي فن مقاوم له أبعاد قانونية وثقافية وسياسية وأخلاقية ووجدانية أيضاً.
وتابع: البعد الثقافي لهذا المعرض، هو إعادة صياغة وعي الأجيال القادمة والحاضرة، وتضع حاجزاً كبيراً أمام هذه الأجيال من أي سقوط في أي وحل طائفي أو سلالي إمامي، وأيضاً تنمية الشعور بالمسؤولية اتجاه الجمهورية، وتجاه الهوية الوطنية، وتجاه تاريخ اليمن وحضارته، وتجاه الإنسان ذاته، وتجاه تعز التي حاول الحوثيون ليس قتل أبنائها وحصار جغرافيتها وإنما حاولوا مسح ذاكرة تعز وسرديتها الثقافية الواعية والمدنية المتراكمة.
أهمية الذاكرة
يقول رئيس منظمة سام للحقوق والحريات، توفيق الحميدي، إن الفكرة أتت من فكرة أن الذاكرة اليوم أصبحت سلاحاً في وجه النسيان وهي أيضاً سلاح في وجه الطاغية في نفس الوقت.
وأضاف: نحن عندما نتحدث اليوم عن الذاكرة، نحن لا نتحدث عن الماضي بل هي محاكمة للحاضر ومحاولة منها للعبور إلى المستقبل.
وتابع: نحن في منظمة سام أردنا من هذا المعرض أن يستذكر الناس أوجاعهم، وآلامهم، ومعاناتهم، بحيث يرتسم لدينا مسارين اثنين: المسار الأول للأجيال المستقبلية، حيث هنالك اليوم ربما الكثير، ولدوا أثناء هذه الحرب، ولا يعرفون الكثير عن ما عانته هذه المدينة، كيف بدأ الصراع، ما الذي ترتب عليه من انتهاكات مروعة لهذا الأمر؟ وأردنا هذه أن تحفظ.
وأردف: أيضا رأينا حجم التفاعل من الشباب ومن الفتيات الصغار، اللواتي في الحقيقة أدهشنا كثيراً، ونحن نتواصل معهن في المدارس وفي البيوت إلى غير ذلك كيف احتفظن بذاكرة، إذا وظفت توظيفاً حقيقياً ستساعدنا كثيراً في عبور هذه الآلام وعدم تكرار هذه المآسي الذي نشاهدها اليوم.
وزاد: البنت التي تحدثت عن الاستعباد، وعن الثعبان، وعن تعز، وعن المقاومة، أنا باعتقادي هذه المصطلحات من أجل أن نوصلها لفتاة بتلك العمر، نحتاج إلى عشر سنوات، لكن اليوم في ظل هذه المعاناة نضج الشباب هذا النضج وبحاجة إلى أن يتحول لذاكرة.
وقال: الذاكرة التي أمامنا اليوم، هي ذاكرة بصرية فنية رمزية، ونحن عندما نتحدث مع المنظمات نتحدث داخل منظمة سام، نريد أن تتجسد اللبنة الأولى، لكن الذاكرة التي نريدها نحن ذاكرة أكبر من ذلك، حيث نريد أن نوثق الذاكرة الشعبية، نريد أن نوثق الذاكرة البصرية، نريد أن نوثق كل التفاصيل التي حدثت في اليمن، لكي تأتي الأجيال القادمة وتنظر إليها.
وأضاف: كي ندرك حجم الذاكرة وكيف اليوم يتم توظيفها توظيفاً من قبل أطراف متعددة، نجد في جانب البرلمان في بودابست بالمجر، على أحد الأنهار بقايا لكوفيا، بقايا لأحذية صغيرة وكبيرة، ولديهم طقوس سنوية، ما الذي حدث؟ قالوا: عندما عبر اليهود، لحقهم النازيون فقتلوا منهم ما قتلوا، فأصبح رمزاً شاهداً إلى اليوم مع توالي الأجيال.
وتابع: سأضرب مثلا في عدن، حيث ضرب قارب في عدن وقتل فيه أطفال ونساء ورجال وشيوخ، وإلى حد اليوم عشر سنوات، لا يوجد مجسما واحدا في سواحل عدن، فالذي يأتي اليوم من خارج اليمن لا يحتاج أن تشرح له كثيراً ما الذي جرى، انقله إلى هذا المجسم وسيقرأ الأسماء وسيلخص الذاكرة.
وأردف: هذه أهمية الذاكرة، أن الأجيال تبقى محتفظة بالألم ولا تريده أن يتكرر.
معركة الذاكرة
يقول الناشط الحقوقي، عبدالله الحرازي، أنا اليوم في غاية السعادة وفي غاية الانشراح لأن فكرة ما بدأت تتحقق على أرض الواقع، وأنا بهذه المناسبة أشكر كل القائمين عليها: منظمة سام ورابطة أمهات المختطفين والشباب والشابات في الميدان وكذلك السلطة المحلية في تعز.
وأضاف: هذا المتحف هو خطوة أولى حقيقية ملموسة على الأرض لبدء معركة الذاكرة، ومشكلتنا في اليمن دائماً هي مشكلة ذاكرة، ومعركتنا مع الكهنوت السلالي الإمامي هي معركة ذاكرة بالدرجة الأولى.
وتابع: هذه الجماعة وهذه الفكرة الظلامية، والكهنوتية تكمن في المجتمع اليمني إلى أن تضعف الدولة إلى أن يضعف هذا المجتمع ثم تنقض على أحلام اليمنيين وتعيدهم مرة تلو أخرى إلى الصفر إلى حالة من الانهيار التام، وهذا الأمر تكرر عبر التاريخ اليمني في متوالية عجيبة لم نستطع كسرها منذ قرابة 1000 عام.
وأردف: الإشكالية كلها تكمن في الذاكرة، وعندما أطلقت فكرة "المتحف الأسود" كوسم تجتمع فيه كل الجرائم، طلبت من الجميع وهم يتحدثون بشكل يومي عن تلك الجرائم، فقط أن يرفقوا تلك المنشورات وتلك الصور بوسم المتحف الأسود، حتى إذا ما قيض الله لهذا الشعب من يأتي لجمع هذه الأعمال سواء في كتب أو في أي مواد مصورة أو حتى في متاحف حقيقية على الأرض وهذا ما يجب أن يكون، أن تتجسد المأساة أمام الجميع، أن نشتغل على الذاكرة.
وزاد: لسنا بدعاً بين الأمم، وأتذكر كنا في سراييفو العام الماضي هنالك معلم واحد في سراييفو يستحق الزيارة إضافة إلى السنتروم تبع المدينة، كان هو النفق الذي كسر به الحصار وكان رئة لساراييفو، وهذا هو أهم معلم تحول من تخليد للذاكرة ومن تخليد لصمود مدينة سراييفو إبان الحصار في التسعينيات، إلى معلم سياحي وذاكرة جمعية للمواطنين وللزائرين ليعرفوا مقدار الظلم الذي حاك بتلك المدينة والمجازر التي شهدها الصراع هنالك.
وقال نحن كذلك لا نشرح شيئا جديدا وغريبا، نحن فقط يجب علينا تفعيل هذه الأفكار على أرض الواقع، فالمادة متوفرة بشكل كبير.
وأضاف: أوروبا والعالم الغربي لا زالوا إلى اليوم، ينتجون موادا إعلامية بشكل مهووس ليكافحون النازية، مع أنهم هزموها وانتصروا عليها منذ 80 عاما، لكن لا توجد مدينة تخلو من مدرسة تحمل اسم "آن فرانك"، هنا في هولندا أو في ألمانيا.
وأوضح، أن "آن فرانك" هذه طفلة يهودية تعرضت للاختطاف وكانت من ضحايا الهولوكوست.
وتابع: جميع الأمم تقوم بتخليد بتخليد المآسي التي تعرضت لها انتصافاً للضحايا حفظاً للذاكرة استشفاء جماعياً للتخلص من الصدمة التي تعرضوا لها، لذا أعتقد أن المسألة في غاية الخطورة.