تقارير

نزاعات المياه والأراضي.. حرب صامتة تفتك بالمجتمع اليمني

19/07/2025, 06:37:57
المصدر : قناة بلقيس - خاص

في عزلة نائية من مديرية حبيش بمحافظة إب، وسط اليمن، انتهى خلاف على بئر ماء إلى مأساة عائلية مؤلمة، حين سقط "عدي" و"قصي" -وهما شقيقان من أبناء أحد مشايخ المنطقة- قتيلين برصاص أحد أقاربهم منتصف الشهر الماضي، لتكشف الحادثة عن حلقة جديدة في سلسلة النزاعات المتصاعدة حول مصادر المياه، التي باتت سببًا رئيسيًا لسفك الدماء في اليمن.

وفي أقصى الشمال من البلاد، كانت بلدة صغيرة في مديرية "حوث" بمحافظة عمران شاهدة على فاجعة أخرى عنوانها الأرض، أواخر ديسمبر الماضي، حين اشتعل خلاف قديم بين أفراد من أسرة واحدة حول قطعة أرض موروثة لم يتفقوا على حدودها، ليتحول الخلاف إلى مواجهة مسلحة أسفرت عن مقتل ثلاثة من أفراد الأسرة (أمين، وسيلان، ونصر كراع)، وإصابة رابعهم، عادل كراع، بجروح متوسطة.

قصة عمران وإب ليست استثناءً، بل جزء من سلسلة طويلة من الحكايات المؤلمة التي تمتد على مساحة الجغرافيا اليمنية، حيث يتداخل فيها الميراث، والغموض، وغياب الحلول العادلة، لتتحول الأرض والمياه من مصدر للحياة إلى شرارة موت، في بلد أنهكته الحرب وأضعفه غياب القانون، لتصبح النزاعات العقارية قنابل موقوتة وساحة خصبة للتصفيات، تُحسم فيها القضايا بفوهات البنادق لا بأحكام القضاء.

تشير دراسات بحثية إلى أن الموارد المائية في اليمن تُعدّ من بين الأشد هشاشة في المنطقة العربية والعالم، نظرًا لاعتماد البلاد شبه الكامل على الأمطار الموسمية والمياه الجوفية لتلبية الاحتياجات المنزلية والزراعية والصناعية.

وقد تراجع المخزون المائي بوتيرة متسارعة خلال العقود الأخيرة، بفعل ضعف هطول الأمطار، وغياب أنظمة فعالة لحصاد المياه، والضغط السكاني المتزايد، إلى جانب الاستخدام العشوائي للمياه الجوفية.

- المعركة القادمة

"نضوب المياه.. معركة اليمنيين القادمة"، بهذا العنوان كتبت الباحثة "نيكو جافارنيا" في مارس 2022، مؤكدة أن اليمن معرض لخطر كبير يتمثل في نفاد مياه الشرب خلال العقود المقبلة. 

كما قالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إن "الحصول على الماء في اليمن يتحول شيئًا فشيئًا إلى مسألة حياة أو موت".

وتُجسد مدينة تعز نموذجًا صارخًا لأزمة المياه في اليمن، إذ تعاني اختلالًا حادًا في توفر مياه الشرب، ما جعل الحصول على المياه معاناة يومية لا يقدر عليها جميع المواطنين، وتحولت المياه إلى سلعة نادرة يُنظر إليها كالذهب الأسود، في ظل غياب بنية تحتية فعالة، وتفاقم النزاعات المرتبطة بتوزيع المياه والسيطرة على مصادرها.

ويؤكد خبراء اقتصاديون أن النزاعات المتصاعدة حول المياه والأراضي تمثل أحد أبرز التحديات التي تواجه المجتمع اليمني. 

فبحسب تقرير دولي، استند إلى باحثين من جامعة صنعاء، فإن 70- 80% من النزاعات في الريف اليمني تتعلق بالمياه والأراضي، كما تشير الإحصاءات إلى أن ثلث القضايا المرفوعة أمام المحاكم الجنائية تركز على وفيات ناتجة عن هذه النزاعات، حيث يُقتل نحو 2500 شخص سنويًا بسبب الصراعات المرتبطة بشح المياه.

وفي سياق متصل، أفاد مركز "CIVIC"، المعني بتأثير الصراع على المدنيين، أن أربعة آلاف شخص يموتون سنويًا في اليمن نتيجة النزاعات على المياه والأراضي، معتبرًا أن هذه النزاعات ليست ظاهرة جديدة، فقد أكدت إحصائيات رسمية من العام 2010 أنها تمثل ثاني أهم أسباب الصراع في البلاد.

كما تؤدي هذه النزاعات إلى تعطيل مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، مما ينعكس سلبًا على التنمية المحلية. 

وفي هذا السياق، حذّر وزير المياه والبيئة في الحكومة المعترف بها دوليًا، توفيق الشرجبي، خلال مؤتمر المناخ في الرياض ديسمبر الماضي، من فقدان اليمن نحو 5% من أراضيها الزراعية سنويًا نتيجة النزاعات والتغيرات المناخية.

- تهديد النسيج الاجتماعي

تتنوع أشكال النزاع المرتبط بالمياه بين صراعات قبلية على حقوق السقي وتوزيع المياه، وخلافات فردية على ملكية أو حفر آبار جديدة، وأخرى جماعية تتعلق بتحويل مجاري السيول أو الاستحواذ على مصادر مائية محدودة. 

وقد أسهمت هشاشة الإطار القانوني، وضعف مؤسسات الدولة، في دفع كثيرين للجوء إلى الأعراف القبلية والتسويات المحلية، التي غالبًا ما تكون غير عادلة أو غير مستدامة.

وفي ضوء هذا الواقع، يؤكد الباحث في علم الاجتماع، عصام الأحمدي، أن نزاعات المياه والأراضي تمثل واحدة من أكثر المشكلات الاجتماعية تعقيدًا في اليمن، وهي جزء من شبكة أوسع من الأزمات المغيبة التي تهدد السلم والاستقرار، وتضعف النسيج الاجتماعي، وتحصد أرواح المئات سنويًا، دون أن تحظى باهتمام كافٍ من الجهات المعنية أو وسائل الإعلام.

وأوضح الأحمدي، في تصريح لقناة "بلقيس"، أن استمرار الصراع لأكثر من عقد، وغياب مؤسسات الدولة، وتراجع سلطة القانون، إلى جانب الضغوط المتزايدة على الموارد بفعل التغيرات المناخية والنمو السكاني والنزوح القسري، كلها عوامل أسهمت في تفاقم النزاعات، خاصة في المناطق التي تشهد تكدسًا سكانيًا كبيرًا.

وأشار إلى أن المياه تحولت إلى مورد للصراع، حيث أدت الخلافات حول حقوق الري وحدود الملكية إلى مواجهات دموية، شاركت فيها أطراف فردية وجماعات قبلية، ما يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن المجتمعي، ويفتح الباب أمام تفكك النسيج الاجتماعي، وتنامي مشاعر الكراهية، والشعور بالإقصاء، وفقدان الثقة بين المواطنين والسلطات.

ونوّه إلى أن هذه النزاعات تعيق التنمية، وتزيد من معدلات الفقر، نتيجة هدر الموارد وتعميق الانقسامات المجتمعية، وقد تؤدي أحيانًا إلى تهجير السكان من مناطقهم.

ويرى أن الحل يبدأ بتعزيز الوعي العام، ونشر ثقافة التسامح، وتفعيل دور الدولة في تنظيم وإدارة الموارد، وتطبيق القانون بعدالة، بما يُسهم في بناء أدوات سلمية لحل النزاعات، ويستنهض دور المؤسسات المحلية والقيادات الاجتماعية. 

وأكد أن الخروج من هذه الأزمة يتطلب رؤية شاملة ترتكز على العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة، بمشاركة الدولة والمجتمع المدني.

- مماطلة القضاء

ويشير المحامي والحقوقي اليمني، توفيق الحميدي، رئيس منظمة "سام" لحقوق الإنسان، إلى أن نزاعات المياه والأراضي لم تعد خلافات مدنية، بل تحولت إلى تهديد مباشر للسلم الاجتماعي، وسبب رئيسي لاتساع دوامة العنف داخل المجتمعات المحلية.

وأكد الحميدي، في تصريح لقناة "بلقيس"، أن غياب الحسم القضائي، وانهيار مؤسسات الدولة، والضغوط الاقتصادية، كلها عوامل أججت هذه النزاعات، وحوّلت الماء والأرض إلى شرارة لجراح لا تندمل.

وشدد على ضرورة إعادة إحياء أدوات الحل السلمي، وتعزيز دور القضاء والمحكمين المحليين، قبل أن تتوسع هذه الصراعات إلى مستوى يصعب احتواؤه، مشيرًا إلى أن ما يشهده اليمن اليوم من تصاعد في النزاعات هو نتاج لتراكمات طويلة من غياب التخطيط، وضعف التوثيق، وتراجع هيبة المؤسسات المعنية.

ونوّه إلى أن كثيرًا من القضايا التي تصل إلى المحاكم تبقى معلقة لسنوات بسبب نقص الوثائق أو تضارب المرجعيات، ما يفتح المجال أمام العنف كوسيلة لحسم النزاعات. 

وأكد أن الاستيلاء على الأراضي والموارد المائية بالقوة، وسط غياب القضاء وتعطيل السجلات العقارية، قد يرتقي إلى جريمة ضد الإنسانية، وفق المادة 7 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، خصوصًا إذا اقترن ذلك بعمليات تهجير قسري.

وشدد المحامي الحميدي على ضرورة إصلاح شامل لمنظومة فضّ النزاعات، يبدأ بتحديث السجلات العقارية، وتفعيل آليات الوساطة والتحكيم، قبل أن تتحول كل قرية يمنية إلى ساحة صراع على قطرة ماء أو شبر أرض.

تقارير

كيف يمكن تجاوز الازدواجية في السلطة الشرعية لتحقيق مصلحة اليمن؟

كلٌّ من الحكومة الشرعية في اليمن والمجلس الانتقالي الجنوبي، يعملان كرأسين لجسد واحد، مما يخلق تضاربًا في القرار وشللاً في الحركة، وهذا التباين لا يعطّل فقط المساعي نحو مشروع وطني موحد، بل يؤدي أيضًا إلى تحويل المؤسسات الحكومية إلى مجرد أدوات للنفوذ والصراعات الشخصية، بدلًا من أن تكون ركائز لبناء الدولة وخدمة مواطنيها.

تقارير

لجنة تمويل وتنظيم الاستيراد.. هل تنقذ الريال اليمني أم تُضاف إلى أدوات تسكين الأزمة؟

أطلقت الحكومة اليمنية مؤخرًا لجنة تمويل وتنظيم الاستيراد في العاصمة المؤقتة عدن، في محاولة جديدة لاحتواء الفوضى النقدية والمصرفية التي تعصف بالبلاد منذ سنوات. وتأتي هذه الخطوة عقب تأخير وصفه مراقبون بـ”غير المبرر”، رغم التدهور المستمر في سعر صرف العملة المحلية، وتزايد عمليات الاستيراد غير المنظم التي أثقلت كاهل الاقتصاد الوطني وأرهقت خزينة الدولة.

تقارير

ضحايا الصمت القاتل: اختناقات متصاعدة وسط غياب معايير السلامة

في أحد أيام أبريل الماضي بقرية "المعزبة" التابعة لمديرية السبرة في محافظة إب اليمنية، تحولت مهمة روتينية داخل بئر إلى فاجعة إنسانية: سبعة أفراد من عائلة واحدة نزلوا للعمل في عمق البئر، ولم يصعد منهم سوى واحد، أما الستة الآخرون، فقد لفظوا أنفاسهم الأخيرة اختناقًا بعد أن ملأ غاز سام ناتج عن مولد كهربائي الفضاء الضيق، دون أن يمنحهم فرصة للهروب أو حتى طلب النجدة.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.