مقالات
أبو الرُّوتي (27)
بعد مرور أيام على مقاطعتي شُبَاطَة، وامتناعي عن مصافحته، والكلام معه، وردِّ السلام عليه، جاء يعتذر، ويقول لي إنّه من حُبِّه لي، ومن خوفه عليَّ، ذهب يشكوني إلى أخي سيف.
قُلت له -وأنا مازلت زعلانًا منه-: "طيِّب، ليش كذبت، وقلت له كلام كذب؟".
قال وهو يضحك: "على شان تبطِّل تركب سيكل.. السياكل ما يركبوها إلا المايعين اللِّي ما معاهم أهل يربُّوهم، لكن أنت ابننا، وابن العاقل حقنا، ولو قدك ناوي تركب سياكل اركب السيكل النار حق أخوك سيف".
وكان مع أخي سيف دراجة نارية، لكني كنت أستحي أكلِّمه، وحين تجرأت وكلَّمته لم يسمحْ لي بركوبها، وكانت حُجته هي أنني مازلت طفلًا.
لكن شُبَاطَة، لشعوره بالذنب، وحتى يكفِّر عن ذنبه، راح يتوسَّط لي، ويقول له إنني صرت رجلًا، ولم أعد طفلًا، وما لبث أن وافق، لكنَّه طلب منِّي أن أتعلَّم سواقة الدرَّاجة في الجوار، وفي محيط الفُرْن، وحذَّرني من الذِّهاب بعيدًا.
وفي ذلك العام 1966، كانت عدن في حالة غليان، وكل يوم مظاهرات وانفجارات واغتيالات واعتقالات، وكانت الدَّوريات البريطانية تجوب الشوارع، والجنود ينتشرون في كل مكان، ويداهمون البيوت والمحلات، وينصبون نقاط التفتيش عند كل منعطف، وفي أماكن لا أحد يتوقعها.
وفي اليوم نفسه، الذي تسلَّمت فيها دراجة أخي النارية، شعرت بأن قيادتها أسهل من قيادة الدرَّاجة الهوائية.
وفي عصر اليوم التالي، وسوست لي نفسي الذِّهاب بعيدًا، والمُضي إلى وسط المدينة، وإلى سوق الطويل، ومنه إلى شارع الاتحاد لزيارة البنت "كافيتا".
وحين استرجعت ما حدث بيني وبينها في آخر زيارة، سرت في جسدي قشعريرة لذيذة، وتخيَّلت ردة فعلها عندما أذهب إليها ممتطيًا "دراجة النَّار".
ولشدَّة رغبتي في رؤيتها، نسيت تحذير أخي سيف، وانطلقتُ مبتعدًا.
وأثناء هبوطي من العيدروس، تفاجأت بأن دراجتي النَّارية تسرع من تلقاء نفسها، ومن دون أن أبذل أي جهد، وعندما رحت أدوس على الكابح؛ لتخفيف سرعتها، تبيَّن لي أن الكابح لا يقوم بوظيفته، فضلًا عن أن السرعة كانت تزداد مع النزول، فقد كان الشارع، وأنت تنزل من العيدروس، يزداد انحدارًا، ومعه تزداد السرعة.
لكن المفاجأة، التي لم أكن أتوقعها، هو أنه كان هناك نقطة تفتيش في أسفل شارع العيدروس.
وحين أشار إليًَ جنود النقطة أن أتوقف للتفتيش لم أستطِعْ التوقُّف، ومررت مسرعًا من جوار تلك النّقطة اللّعينة، وتجاوزتها، وما لبثت أن سمعت أحدهم يصرخ قائلًا:
"أوقف يا حِمار".
وكانت تلك أول مرّة، منذ مجيئي إلى عدن، أسمع من يشتمني بتلك الشتيمة، ويقول عني "حِمار".
ولشدَّة خوفي من أن يطلقوا عليَّ النّار، اندفعت الدرَّاجة إلى داخل أحد الدّكاكين، كما لو أنّها قذيفة وارتطمت بواجهة الدّكان ارتطامًا شديدًا، فكان أن اهتزت حاملات البضاعة، وتساقطت السِّلع من الرفوف المرصوصة في الواجهة، وسرعان ما وجدت نفسي غاطسًا بين أكوام من البضائع المتساقطة، وتفاجأت بصاحب الدُّكان يصرخ فوقي، ويشتمني، ويتهمني بالسُّكر، ويقول لي:
"أنت أكيد سكْران".
ثم ما لبث أن شعر بالفزع حين أبصر جنود النُّقطة يلحقون بعدي، ويدلفون إلى دكانه، والشرر يتطاير من عيونهم.
لقد كان في ظنِّهم أن السبب في هروبي منهم، وعدم توقّفي، هو أنني أحمل أشياء خطيرة.
وعندما فتّشوني، ولم يجدوا شيئًا يدِينني، راحوا يفتشون داخل الدُّكان، ويفتِّشون صاحب الدُّكان، وابنه الذي كان بنفس عمري، ظنًا منهم أنني أخفيت شيئًا عندهما.
ولمّا لم يجدوا شيئًا، سألوني -بواسطة المُترجم- عن السبب في عدم وقوفي للتفتيش، قُلت للمترجم، وأنا ارتجف من الخوف:
"ما عرفت أُوقف السيكل".
قال لي المترجم: "كيف ما عرفت؟!!".
قلت له: "عادنا متعلِّم".
وحين ترجم المترجم ما قلته للجنود، لم يقتنعوا بكلامي.
وسألوا عنِّي صاحب الدُّكان، وكان في اعتقادهم أنه قريبي، أو أنه يعرفني، طالما هربت منهم إلى دكانه.
لكن صاحب الدّكان قال لهم، وهو يشير إلى أكداس من البضائع المتساقطة من الرّفوف، وإلى الأضرار التي ألحقتها بدكانه، إنه لا يعرفني، وإنه تفاجأ بي وأنا اندفع إلى داخل الدكان.
وقال لهم:
"أكيد سكران".
لكن المترجم قال له إنني "حِمار" في السواقة، ولست سكرانًا.
وبعد أن اقتنع الجنود ببراءتي، تركوني، لكن صاحب الدُّكان لم يتركني، وظل غاضبًا منِّي، ورفض أن يخلي سبيلي.
ثم وقد عرف أن الدرَّاجة ملك أخي، وأن لي أخاً في فُرْن العيدروس، احتجزها، ولم يسمحْ لي بأخذها، وطلب من ابنه أن يصعد معي إلى العيدروس لإحضار أخي.
وذهب أخي سيف مع ابن صاحب المحل، وإلى لحظة كتابة هذه السطور لم أعرف ما الذي حدث بينه وبين التاجر (صاحب المحل)، لكن الذي عرفته هو أنه عاد إلى الفُرْن من دون الدرَّاجة.