مقالات
أبو الروتي (30)
نزولًا عند رغبة أخي سيف، توقفتُ عن الذهاب إلى السينما حتى أثبت له أنني أحبّه، واحترمه، وأنه أهم لي من السينما.
وكنت بعد الانتهاء من عملي، أذهب إلى مدينة "الشيخ عثمان"، وأمُر على رجل طيِّب يبيع الكُتب الشعبية في الشارع، وأشتري منه سِير "عنتربن شداد"، و"الزير سالم"، و"سيف بن ذي يزن".. الخ، وأجد في تلك الكُتب شيئا من التعويض.
وذات مرَّة دخلت مكتبة تحت "مسجد النور"، لم أعد اذكر اسمها، ولفت انتباهي كتاب عنوانه "البُؤساء" لمؤلفه "فيكتورهيجو"، ولم أكن أعرف حينها من هو "هيجو" هذا، لكن العنوان شدَّني وجذبني، واشتريت الرِّواية. وبعد عودتي، صعدت إلى غرفتي في سقف الفُرْن، وبدأت القراءة، وكان أن شدتني الرِّواية من أول صفحة، وسحبتني سحبًا، ورحت أستمتع بقراءتها، وأركض بين صفحاتها، وأزداد شغفًا بها، ورغبةً في المواصلة. وليلتها، سهرت معها إلى ما بعد منتصف الليل.
وكانت رواية "البُؤساء" هي أول رواية أجنبية تقع في يدي، وقد شعرت بعد الانتهاء من قراءتها بأنني لم أعد الشخص الذي كنته؛ ذلك أن الرواية كانت قد نقلتني من الواقع إلى الحلم، وجعلتني أرى أشياء لم أكن قد رأيتها، وأحس أحاسيس لم يسبق لي أن أحسست بها من قبل.
ومثلما كنت أتماهى مع بطل الفيلم بعد عودتي من السينما، رحت أتماهى مع بطل الرواية "جان فالجان"، وأحلم مثله بعالمٍ خالٍ من الظلم والبُؤس والقسوة.
لكنني، في اليوم التالي، أصبحت على بُؤسٍ أعظم من بُؤس بُؤساء الرِّواية؛ والسبب هو أنني ليلتها، وبسبب سهري مع الرِّواية، نمت نومًا عميقًا، ولم أنهض لأداء عملي اللعين.
وكان المطلوب منِّي هو أن أنهض من نومي قبل أذان الفجر، وأمسك بخرقةٍ مبللة بالسليط أمسح بها قِصع الرُّوتي حتى لا تلصق أقراص الرُّوتي بها بعد دخولها الفُرْن.
ومع أن العمل سهلٌ وبسيط، إلا أن النهوض من النوم قبل أذان الفجر كان هو العمل الصعب، وكان أكثر صعوبة في الليالي التي أسهر فيها مع كتاب، أو مع رواية.
وفي تلك الليلة، التي سهرت فيها مع رواية "البُؤساء"، صعد البطروالة بنفسه ليوقظني، وكان من عادة البطروالة، حين يستبطئ نزولي، يطلع بنفسه إلى غرفتي لإيقاظي من النوم.
ومع أنني لأول مرَّة أسهر مع كتاب، ولأول مرة أستغرق في النوم، وأنام إلى ما بعد شروق الشمس، إلا أن أخي سيف، وبسبب حرب السينما الدائرة بيننا، كبَّر الموضوع، واتهم السينما بأنها السبب في تقصيري بعملي، وهي التي أفسدتني، وعلمتني المعصية والتمرُّد، وعدم الاحترام.
وكان أن راح يصرخ قائلا أمام عمَّال الفُرْن:
"السينما خليته يعصينا، وما يحترمنا، ولا يعتبر أخوه الكبير".
وكنت أنا أنفي ذهابي للسينما، وأحلف اليمين تلو اليمين بأنني لم أذهب، وهو يُصرّ على كلامه، ويقسم بأنني ذهبت، ويقول لي:
"والله -يا عبد الكريم- أنك سرحت السينما، وسَينَمت".
ويومها، وجدتني بين فكي كماشة، بين اتهام أخي لي وبين اتهام المستري،
وفيما كان أخي يتهم السينما ويُصر على أنها التي أفسدتني، كان المستري يتهم الكتب، ويقول لأخي سيف:
"الكتب -يا سيف- الكتب.. الكتب هي السبب".
وكان المستري هذا يكره الكتب، ويستفز حين يبصرني أعود من رحلتي إلى "الشيخ عثمان" وفي يدي كتاب، ويقول لي:
"هذي الكتب -يا عبد الكريم- با تضيِّعك.. يا عبدالكريم الكتب با تضرك، وما با تنفعك.. والله إنها با تجنِّن بك، وتبكر مجنون".
وعندما أبديت استغرابي من كلامه عن الجنون، راح يكلمني عن رجل في قريتهم كان يعشق الكتب، ويقرأها، ويسهر معها، ومن بعدها جنَّ وأصبح مجنونًا.
وذات مرة، وقد دخل غرفتي وأبصر مكتبتي الصغيرة، صرخ كالمفزوع، وقال لي:
"ليش هذي الكتب كلها؟! وايش الفائدة منها؟! وليش تشتريها؟! وايش حاجتك لها؟!".
وكان في ظنه أنني لست بعقلي، وأن هناك جِنّيات تقيم داخل الكتب، وكنت أضحك من تصوراته تلك، وكانت ضحكاتي تستفزه، وتشعل فتيل غضبه.
كان هو المسؤول عني في العمل، وله سلطة عليَّ تفوق سلطة أخي، لكنه على عكس أخي سيف لم يكن يرى الخطر في السينما، وإنما في الكتب. وما لبثت الحالة أن تطوَّرت عنده، فبعد أن كان يخاف عليَّ من الكُتب، وينصحني بالتخلُّص منها، صار يخاف على نفسه، ويقول لي:
"الكتب هذي با تضرنا كلنا".
وفيما بعد راح يهدد بأنه سوف يدخل كل تلك الكتب الفُرْن، ويتركها تحترق:
"والله لا أحرقها يا عبد الكريم".
لكني لم أصدِّقه، وتهيأ لي أنه يقول ذلك من قبيل التهديد.
وذات ليلة، وبعد أن سهرت مع كتاب "ألف ليلة وليلة"، ذهبت في سابع نومة، ثم وقد صعد البطروالة ليوقظني، ولم أستيقظ. فصعد المستري بنفسه إلى غرفتي، وأخذ كتاب "ألف ليلة وليلة" من جنب رأسي، وألقى به داخل الفُرْن.
وفي الصباح، عندما عرفت من البطروالة بأنه أحرق "ألف ليلة وليلة"، شعرت بألف حُرق وحُرق في القلب، وتألمت ألمًا شديدًا، ومن شدة غضبي رحت ألعنه وأشتمه، وراح هو يشتمني ويلعنني، ويهددني بأخي سيف. وكنا على وشك أن نشتبك بالأيدي، لولا أن البطروالة تدخَّل وحال دون اشتباكنا.
ولشدة ألمي على كتاب "ألف ليلة وليلة"، تملكتني رغبة في الانتقام. وفي مساء اليوم نفسه، ذهبت إلى مدينة "الشيخ عثمان"، واشتريت من الرجل الطيِّب نسخة أخرى من الكتاب، واستغرب الرجل الطيِّب، وسألني عن مصير الكتاب الذي اشتريته منه؟!!
وحين قلت له إن أحدهم أحرقه في الفُرْن، تألم هو الآخر، وكان في ظنِّه أنه واحد من أولئك الفقهاء الذين لهم موقف من كتاب "ألف ليلة وليلة"، لكنه عندما عرف أنه "خبَّاز" وليس فقيهًا، استغرب وقال:
"لعنة الله على الجهل". ورفض أن يأخذ منِّي ثمَن الكتاب.