مقالات

حكاية الزَّمار سعيد الفاتش (1-2)

16/06/2024, 19:15:06

كان سعيد الفاتش زمَّاراً ومغنياً وقارع طبل، وراقصاً موهوباً، وحكاءً وإنساناً جميلاً، وكان مدرسةً في الحب يحب الناس ويحب الحياة ويعيشها بشغف، ويجعل كل يوم من أيامه عيداً ومهرجان فرح. 

كان الأطفال يحبونه، ويفرحون بحضوره. وكانوا إذا حضر واتكأ على جذع شجرة الطَّوْلْقْ في ساحة القرية تحلّقوا حوله مثل تلاميذ يتحلّقون حول معلمهم.

وكانوا وهم يصغون إلى حكاياته، أو إلى حديث مزماره يشعرون بحالةٍ من الجريان والتدفق، وكانت كل تلك الكوابح والموانع والمخاوف الموجودة بدواخلهم تذوبُ وتتلاشى، وبمجرد حضوره يشعرون بأنهم أكثر حرية وبمقدورهم أن يقولوا ما لا يستطيعون قوله، وأن يفعلوا  ما لا يقدرون على فعله. 

وفي مدرسة الفاتش كانوا يرون كل مُغَطّى "مفتُوشا"، وكل مغلق مفتوحا، وكل صعب سهلا، ويجدون أنفسهم خفيفِينَ، ومنفتحينَ، وفرحينَ، حتى إن الساعات تمر عليهم مرور الدقائق، وكثيرا ما كان يعتريهم شعور بأن الحب ليس حراماً، وليس عيباً، ولا هو حكرٌ على الكبار.

وبحضور سعيد الفاتش كان العشاق الصغار لا يجدون حرجاً، ولا يشعرون بالخجل، وهم يفتحون قلوبهم، ويبوحون بحبهم أمامه، وبأسماء البنات اللاتي يحبونهن.

ومثلما تتفتَّح الزهور كان صبيان وأطفال القرية يتفتّحون في مدرسة سعيد الفاتش الطبيعية، وينضجون قبل الأوان، وكان أكثر شيء تعلّموه منه هو كيف يصنعون  الشُبَّابَة  - النَّاي – من القصب، وكيف ينفخون فيها ويستخرجون منها أجمل الأنغام وأعذب الألحان. 

أيامها، كان ثمة علاقة بين الحب وبين النَّاي، وكان على الصبي، الذي يريد لفت انتباه الصبايا إليه أو يريد أن يبوح بمشاعره للصبيّة التي يحبها،  أن يمتلك شُبَّابَة (ناي) ويعلن عن حبه لها بلغة الموسيقى.

وكان أطفال وصبيان القرية قد تعلموا في مدرسة سعيد الفاتش كيف يبوحون بما في قلوبهم من حزنٍ وألمٍ ووجع.. ومن حبٍ وحنينٍ وشوقٍ عبر تلك القصبة المجوفة، لكن أكثر ما كان يدهشهم هو أن سعيد الفاتش كان بمقدوره، ومن خلال  مزماره المعمول من الخشب، أن يجعل أكثر القلوب تحجُّراً تلينُ وترقُّ وتذوبْ.

كان يلعب معهم ويحكي لهم حكاياتٍ تنقلهم إلى أماكن ساحرة، وعوالم مدهشة، وكان ما ينفك يضحك ويضحِّكهم، ويملأ وقتهم مرحاً، وقلوبهم فرحاً، حتى إنهم حين كانوا يعودون إلى بيوتهم في المساء يعودون فرحينَ مرحينَ محبينَ للحياة شغوفينَ بها، أما عند عودتهم من مدرسة الفقيه سعيد أو من مدرسة السيد عبد القادر فكانوا يعودون مكتئبينَ ومنقبضينَ ومنطفئينَ وممتلئينَ بالخوف، ولديهم شعور قوي بالذنب. 

كان سعيد الفاتش بين صلاتي المغرب والعشاء يجلس في سطح بيته يحتسي الشاي، ويلعب بالمزمار، وكانت النساء والصبايا يصعدن إلى سطوح بيوتهن، ويرهفن آذانهن، ويصخن السمع، ويصغين إلى حديث مزماره، ويشعرن كما لو أن الفاتش يزيح عن كواهلهن تعب النهار، وينسيهن همومهن، وينقلهن بلغة المزمار من الواقع إلى الحلم، لكن الفقيه سعيد كان ما ينفك يحرِّض أهل القرية ضده، وكثيرا ما كان  يزعج "العاقل بجاش"، ويطلب منه أن يمنع الفاتش من اللعب بالمزمار، وذات يوم راح يناديه من سقيفة بيته، ويقول له: 

- "يا عاقل بجاش امنع الفاتش من اللعب بمزمار الشيطان قبل أن يفسد عقول النسوان". 

قال له العاقل بجاش ذات يوم: 

-"يا فقيه سعيد، ليش الحسد؟!خليهن يفرحين.. أنت تفجعهن بيوم القيامة، وبالحساب والعقاب، وعذاب القبر، وهو يفرحهن، ويسلي على قلوبهن، وينسيهن التعب". 

وصاح الفقيه سعيد، وقد تفاجأ بكلام العاقل بجاش، وقال له: 

- "أيش تقول يا عاقل بجاش؟!!  تقول إننا حاسد أحسد الفاتش؛ على أيش أحسده؟! هل أحسده لأنه لا يصلي ولا يصوم؟! والاّ أحسده لأنه يبول وهو مستقيم؟!".

وكان الفقيه سعيد، بعد أن أبصر صبايا ونساء القرية يصعدن إلى السطوح بين صلاتي المغرب والعشاء ليسمعن الزمَّار سعيد الفاتش وهو يلعب بمزماره، قد داخله شيء من الحسد، وراح من سقيفة بيته يلقي مواعظ في الوقت نفسه الذي كان فيه الفاتش يلعب بالمزمار، لكن صبايا ونساء القرية كن يضقن بمواعظه، ويهبطن من السطوح، وكان ذلك يغيض الفقيه سعيد، ومن شدة غيضه وحنقه راح يلعن الفاتش، ويلعن كل امرأةٍ أو صبيةٍ تصغي لمزمار الشيطان. 

قبل موته أوصى سعيد الفاتش صبيان القرية أن يزفوه إلى المقبرة على دقات الطبول، وإيقاع المزامير، ويركِّبوه فوق حمار الحمّار سيف أنعم، وزاد فأوصاهم أن يدفنوا معه مزماره، وأن يضحكوا، ويفرحوا، ويمرحوا، ويغنوا، ويرقصوا، ويجعلوا من موته عُرساً أعظم من كل الأعراس التي عرفتها القرية، وحتى يضمن تنفيذهم لوصيته طلب منهم أن يكتموها، ولا يبوحوا بها لأحدٍ من أهل القرية حتى لا يتدخَّلوا للحيلولة دون تنفيذها. 

وكان الفاتش قد أوصى وصيته وهو بكامل صحته وعافيته، وبعد وصيته تلك ذهب إلى مدينة عدن، واشترى ملابس جديدة ذات ألوان مُشرقة ومُفرحة لعرس موته، واشترى حذاءً و"مشدَّة" سلطانية أشبه بتلك التي يلبسها سلطان لحج وغيره من سلاطين الجنوب. 

وبعد عودته من عدن، فاجأه مرض أقعده في الفراش؛ لكنه كان مازال قادرا على أن ينفخ في مزماره، ويستخرج منه أجمل الأنغام، وأعذب الألحان.

وقبل موته بأسبوع، ولشدة خوف ابنته زهر الفاتش من أن تقوده وصيته إلى نار جهنم، وسوست لها نفسها أن تذهب وتكلم الفقيه سعيد كيما يتدخل، ويقنعه بالتراجع عنها. وبعد صلاة العشاء، تسللت إلى بيت الفقيه، وأفشت له وصية أبيها، وأعطته ريالين فضِّيين، ووعدته أن تزيده ثلاثة ريالات فضية إن هو أقنع أباها بالرجوع عن الوصية، التي أوصاها، وطلبت منه أن يأتي لوحده، ولا يكلم أحداً بأمر الوصية، إلا أنه جاء بصحبة اثنين من أنصاره؛ هما الحاج علوان ووكيل الشريعة حمود السلتوم، وكان الاثنان قد ألحقا به الكثير من الأذى، وحين تفاجأ الزمار سعيد الفاتش بدخولهم عليه ظنَّ في البداية أنهم حضروا لزيارته؛ لكنه عندما عرف بأنهم حضروا لإقناعه بالعدول عن وصيته، شعر بأن هناك خيانة، وعرف من قراءته لصفحة وجه ابنته زهر الفاتش بأنها هي التي خانته، وأفشت سره لأعدائه الألداء. 

كان سعيد الفاتش لحظة دخولهم مستلقياً على سريره، وبجانبه مزماره، الذي أوصى أن يُدفن معه، وأول ما أبصرهم داخلين راح يقبض على المزمار بقوة، وكأنه يقبض على سلاحه، وبعد أن دخلوا ثلاثتهم وألقوا السلام عليه، قال له الفقيه سعيد: 

- "ربنا غفور رحيم يا سعيد، ومن أجل ربنا يتوب عليك ويغفر لك ذنوبك ارجع عن وصيتك التي أوصيت".

وراح الفقيه يعظه، ويطلب منه أن يتراجع عن وصيته، وقال له إن وصيَّته تلك سوف تجلب عليه غضب الله بدلا من رحمته ومغفرته. 

وكان الفقيه على يقين بأن الفاتش لن يتراجع عن وصيته، لكنه عندما قبل أن يأتي لم يقبل فقط لأنه كان يطمع في الخمسة الريالات الفضية، ولا لأنه يطمع بهدايته، وإنما حضر لأن لديه رغبة شديدة في إهانته وإذلاله أمام ابنته، ولكي يثبت له بأن ابنته زهر الفاتش تؤمن به، وتصدقه، وهي من أفشت سره إليه، وحتى يثبت له صحة كلامه قال له: 

-"بنتك زهر تحبك -يا سعيد- ولأنها تحبك أجت لي للبيت وكلمتنا عن وصيتك العوجاء، وطلبت مني أزورك، وأنصحك، ونصيحتي -يا سعيد- ترجع عن وصيتك؛ لأن الملا ئكة بعدما يشوفوا مزمار الشيطان مدفون جنبك سوف يعذبونك في قبرك، ولن يرحموك".

وبعد كلام الفقيه سعيد راحت زهر الفاتش تبكي وتُعْوِلُ وتُوَلوِلُ، وتطلب من أبيها أن يرجع عن وصيته، وقالت له: 

-"يابا أني فدا لك سكِّه لك.. وصيَّتك شتجلب علوك غضب ربي، وشنزلوا ملائكة من السماء يعذبوك عذاب القبر". 

وفرح الفقيه بكلامها، وقال لها، وهو يناولها مصحفاً كان قد أحضره معه: 

-"بدل ما يشل المزمار معه للقبر يشل المصحف على شان الملائكة عندما ينزلوا من السماء، ويبصروا المصحف جنبه، با يشهدوا له عند ربي،  وبا يقولوا له: "يا ربنا لقينا هذا المصحف بقبر الزمار الكافر سعيد الفاتش، والمصحف با يشفع له عند ربنا من عذاب القبر، ويوم القيامة با يشفع له من عذاب جهنم". 

وبعد أن أنهى الفقيه كلامه، راحت زهر الفاتش تتوسل لأبيها، وتقول له، وهي تواصل البكاء: 

- أني فدا لك يابا شل المصحف، وهات المزمار، لِمَوْ تعاند يا با؟! الملائكة لما ينزلوا من السماء، ويبصروا المزمار جنبك شِحْسِبُوك كافر، وِشعذِّبوك عذاب القبر، مو تحسب شِرْحَمُوك!!". 

ولشدة استمتاع الفقيه بمخاوفها راح يكلمها عن ضمة القبر، وقال لها: 

-"أول شي -يا زهر- القبر نفسه با يلُزُّه لزُوْزْ، ولزَّة القبر أعظم وأشد من عذاب جهنم".

وشعرت زهر الفاتش من كلام  الفقيه عن ضمَّة القبر بحالة أبيها في القبر، وانفجرت تبكي بحرقة شديدة، وقالت له: 

-"يا با، سألتك براس أمي اللي حبيتها، وحبّيتك، تسيِّب المزمار، وتشل المصحف.. أني خايف علوك يا با من لزَّة القبر، والله لا يلزَّك لزُوْز". 

وكان الفقيه سعيد قد اتفق مع الحاج علوان بأنه لو حدث أن رفض الفاتش التراجع عن وصيته فسوف يهجم عليه، وينتزع منه المزمار بالقوة، وقال لهما إنه أول من سيهجم، وعليهما بعد أن يبدأ الهجوم أن يسنداه، ويدعماه، وحتى يقنعهما بصواب فكرته راح يستشهد بالحديث: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده...".

مقالات

حكاية الرَّجل المَيِّت (الفصل الخامس)

عندما عرَف أهل القرية من سُفَرجَلة أن عساكر الدولة لاذوا بالفرار، داخلهم شعور بالخوف من الرجل المَيِّت، وأولئك الذين كانوا غير مصدقين بأن سلطان المِلْح عاد من البحر ميِّتا صدقوا بعد هروب العسكر، وقالوا:

مقالات

حرب إيرانية رسمية ضد اليمن.. ما رد الفعل؟

قبل أيام أعلنت الحكومة الإيرانية تعيين سفير جديد لدى مليشيا الحوثيين في صنعاء. لاحقاً جرى استقبال السفير رسمياً في القصر الرئاسي، وفُرش له السجاد الأحمر، واستعرض حرس الشرف. لا يمكن قراءة الأمر إلا باعتباره تصعيداً إيرانياً، أو أنه عودة إلى نقطة البداية، باعتبار طهران ما زالت تخوض حرباً ضد الحكومة اليمنية.

مقالات

"سلطان الغناء اللحجي"

الغناء اللحجي يبث فيك الفرح حتى لو كنت تعاني سكرات الموت. ينتَعك من رتابتك وجمودك، ويوقظ فيك نشوة تقلّب مزاجك 180 درجة، دفعة واحدة.

مقالات

لا للتطبيع

يمتاز المثقف عن السياسي في مضمار التعاطي مع القضايا العامة (القضايا المتصلة بالدولة والمجتمع) أن السياسي قد يُغلِّب حالةً من الديماغوجيا أو البراجماتيا في اتخاذ هذا الموقف، أو إبداء ذلك الرأي تجاه هذه القضية أو تلك المسألة، أما المثقف فالمتوقع منه، أو المفترض فيه أن يكون أكثر احتكاماً إلى صوت العقل والضمير في مواقفه وآرائه؛ لأنه أكثر التصاقاً بالغالب الأعظم من الجماهير من جهة، ومن جهة أخرى يكون أكثر قلقاً وحذراً تجاه أحكام التاريخ والأجيال بهذا الصدد.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.