مقالات
عن السلطة الحوثية المريضة
بمقدورك أن تكون بأي صورة في الواقع، لِصًا، مُجرمًا، قاطع طريق بين الناس وحريتهم، سُلطة لا تحترم الإنسان وتتعامل معهم كقطعان بلا عقل ولا وعي.
بمقدورك أن تكون حاملًا لكلّ النقائص، ثم تتحدث بشكل مقلوب تمامًا عمّا هي حقيقتك.
أن تجمع كلّ العبارات السامية وتتحدّث عن أكثر المواضيع قداسة في الذهنية العامة، تتمسّح بها وتُصدّق نفسك بأنّك عند مستوى ما تقول، لكأنّه يكفي أن تُردد كلمات طيبة؛ لتغدو مُطابقة لجوهرك، وإن كان الواقع يفضحك بصورة صادمة.
في ذكرى المولد النبوي، تحدّث عبدالملك عن النبيّ والنبوة، عن السمو والفضيلة، عن الفاتح الأعظم، الرجل الذي حرر البشرية من الفوضى، وأسس لعالم جديد من العدل والحرية.
تحدّث السيّد عن النبي، وبدت ملامحه تُفسّر ما يقول: إنّه يتحدّث عن النبي، ويقصد بذلك نفسه.
اتّخذ من النبي عدسة مُكبِّرة، مجازا قصد به أن يرتدي حلّة قداسة مماثلة لما للنبي من جلال ومهابة في نفوس الناس.
كان يتحدث بسمت هادئ. أتلفّت حولي وأرى شخصا من الحاضرين يبتسم بسخرية. قلت في نفسي: الناس بفطرتهم العفوية يُدركون النبرة الزائفة.
شيء ما في أعماقهم يقول لهم: ليس فيك أي سمة من سمات النبوّءة. بمقدورك أن تخطب كيفما شئت ولن يُغيّر الأمر من حقيقتك شيئًا.
عشر سنوات وعبدالملك الحوثي يخطب كلّ عام بذكرى مولد النبي، لكنّ اليمنيين ما يزالون يرونه كما هو، زعيم جماعة إجرامية، سطت على دولتهم، وصادرت إرادتهم ومُستقبلهم.
لم ينجح الرجل بالتحوّل لسلطان عظيم القدر والمقام. لم يكتسب موقعه، الذي يطمح إليه: المُرشد العام أو الأب الروحي للشعب؛ كما يُسوّق نفسه أو كما يُراد له أن يكون.
لربما يكون السّلطان المُعظّم في نفوس أتباعه؛ لكنّه ليس كذلك بالنسبة للقطاع الأعظم من اليمنيين، بما في ذلك من يقعون تحت سلطته.
من يُصغي لخطابات جماعة الحوثي يُدرك أنّ الجماعة ما تزال ماكثة عند اللحظة الأولى لسيطرتها على العاصمة. إنّها تُخاطب الشعب بلغتها هي لا باللغة التي يُريدها الناس. تخطب كما لو كانت مُنفصلة تمامًا عن واقع الناس؛ لا تُحدِّثهم عن أحوالهم، ولا تُخبرهم بأنّها تُدرك معاناتهم، أو مُهتمّة بما يشغلهم.
لا وجود لمفردة الخبز والعيش الكريم في خطابات عبدالملك، لا حديث عن مشاريع، ولا إنعاش للآمال. قاموسه السياسي غارق في أزمان سحيقة، وعباراتهم أحاديث تنتمي للتاريخ وسيرة زمن انقضى لا صلة له بواقعنا، ولا يقول للناس جملة تهدّئ مخاوفهم، وتمنحهم شيئا من أمان الغد.
من يُتابع خطابات عبدالملك الحوثي يُدرك أنّ الجماعة مهمومة بتثبيت وجودها أكثر من انشغالها بتأمين واقع الناس. كُلّ جهدها مُكرّس لضمان وجودها، واستدامة سلطتها. الوسيلة عندها هي الغاية. السُلطة في أي نظام هي قناة، جسر، موقع يتمكّن فيه المسؤول أن يُنجز شيئًا لشعبه.
فيما السُلالة، تنظر للمنصب كنظرتها لنفسها؛ هي والمنصب شيء واحد؛ هي القصد والغاية وما على الناس سوى الطاعة والقبول.
باعتقادي أنّ جماعة الحوثي فشلت تمامًا في الانتقال لدور السلطة السياسية الواثقة بنفسها، والمُتحدِّثة باسم المصلحة العامة مع إبداء استعدادها الكامل لرعاية شؤون الناس، وأداء الدور الذي ينتظره المواطنون من أي سلطة تحكمهم.
ما تزال حكومة السلالة في صنعاء مجهولة لدى الناس؛ لا يعرفون وزراءهم، ولا يدرون شيئًا عن دور هذه السلطة والحكومة. الأمر أشبه بشؤون خاصة. حتى الحكومة يبدو أنّها حكومة لرعاية شؤون السلالة.
الخلاصة: عشر سنوات مذ سيطرت السلالة الحوثية على صنعاء، يشعر فيها المرء كأنّ الزمن ثابت، الواقع في حالة جمود كلي، الحياة في الدرجة نفسها، وربما أخفض. لا حراك باتجاه الغد، ولا أُمنيات تلوح في الأفق.
الحقيقة الوحيدة أن جماعة الحوثي تُراكم مصالح شخصية متواصلة، وتمضي لتجذير سلطتها الخاصة دون أي ميولات للانفتاح على الناس، أو التصرف تجاههم باعتبارها سلطة مسؤولة عنهم.
أنت أمام حالة غرائبية من حالات السياسة؛ شذوذ كلّي، لا يدري المرء كيف يُمكن أن تمضي الحياة في ظلّ سلطة بهذا التكتيم، سلطة تُنشئ الحواجز بينها وبين الجماهير، وتُضاعفها باستمرار.
والسيّد نفسه لم يملّ بعد خطاباته من وراء حُجب، مهوس بالظهور من خلف الشاشة، مُتحدِّثًا عن النبي والنبوءة، وعن أمريكا وإسرائيل، والهيمنة والاستكبار؛ ناسيًا ما تفعله جماعته بالشعب، وربما فاقدُ الإحساس بمعاني الكلمات؛ وتلك هي "الشيزوفرينيا" بصورتها الكاملة.