مقالات

فؤاد الكبسي: نغمة الغُنج في الغناء الصنعاني

13/09/2025, 07:41:05

فؤاد الكبسي هو حلقة الوصل بين وقار الكبار وخفّة الشباب. لم يسقط في ابتذال ما بعده، ولا بقي أسير رهبة ما قبله.

هو فاصلة بين طبيعتين ، إحداهما كانت إذا أمسكت بالعود فكأنها تصلي، وأخرى لم يستقر معنى الفن فيها ولا تنطوي على أي دأب لإدراك أبعاده والإلمام بأدواته.

يُغني بطريقة الكبار الذين لم يعرفوا الابتذال، ويُقلد دون أن يسقط في النمطية البلهاء التي وصل إليها كثير من الشباب الذين جاءوا بعده.

ما الجديد الذي قدّمه فؤاد الكبسي بداية من ظهوره أواخر الثمانينات والتماعه في التسعينات ؟
بكلمة واحدة: ذوق عصره. قدرته على الوصول بالغناء التراثي الصنعاني تحديدا إلى مزاج جيل جديد من الشباب. كسر حاجز الجدية لجيل الكبار، وغنى بنغمة جيله من الشباب.

صوت أضاف جُرس الغنج إلى نغمات الغناء الصنعاني التراثي وجواهره التي لم تنضب مع تعاقب أصوات الفنانين وطرائقهم في أدائها وتجديدها وتنويع مقارباتها.

كان صوته المغناج ترند الثمانينات والتسعينات. فنان وسيم يجيد العزف ولديه صوت جميل، وفوق ذلك منضبط في أدائه وحريص على شخصيته ومكانته كفنان.

اكتسب من أبيه الكثير. كان عبدالله هاشم الكبسي في متن الحياة الفنية والأدبية. شاعر غنائي متمكن غنى له كبار الفنانين في صنعاء التي ازدهر فيها الفن والأدب بعد ثورة سبتمبر. الصورة الأوضح، أنه كان جزءا حيويا من الحياة اليومية لفنانين وشعراء وأدباء ومثقفين وسياسيين.

كانوا أصدقاءه، وجمعته بهم المجالس والفعاليات العامة والمهرجانات والمسرح، ومنصات حياة عامة كانت مزدهرة بالفعل الثقافي والأدبي والفني في العقود التالية لميلاد اليمن الجديد في سبتمبر 62.

لم يكن فؤاد الكبسي بعيدا عن هذا الوهج الفني. عرفه طفلا ويافعا وهو يستمع في مقيل والده لأبرز فناني الغناء الصنعاني. وأدرك نغمته من قصائده وانشغاله اليومي بالأدب والفن. وتعلمه من أب كان حريصا على أن يرى ابنهُ ينجح فيما فاته من حُلم إكمال قوس الشعر الغنائي بإجادة عزفه على أوتار العود والتمزج بغنائه.

كان عبدالله هاشم الكبسي يتوق إلى الغناء، لكنه أجاد الشعر الغنائي، وأكمل حلم الغناء بامتداده عبر ولده الفنان الصنعاني فؤاد الكبسي، الأكثر شعبية عند جيل التمانينات والتسعينات، والأكثر قدرة على دغدغة مشاعرهم والتناغم مع أذواقهم ومزاجهم.

لكنته وطريقته في نطق الكلمات قد لا تكون نموذجية بمعايير اللغة ومخارج الحروف، لكنها كانت لكنة المزاج العام الصنعاني للشباب أكثر منها لهجة صنعاء المعروفة قبلها.

أُحب أن أسمّيها “لكنـة النظام”؛ لكنها هنا في حقل الفن منزّهة عن أي تعالٍ سياسي. هي غُنج الاستقرار الصنعاني في الثمانينات، وقد تجلّى جماليًا في صوت فؤاد الكبسي، مثلما تجلّى متأخرًا في خطابات علي عبدالله صالح بعد منتصف التسعينات، وفي طريقته الأريحية في المشي والتلفّت وكأنه استكمل تحميل “برنامج صنعاء الجديدة” وقد استقر في وجدان القبيلي ونظامه الحيوي.

الأريحية عند السياسي كانت غطرسة المنتصر، أما عند المدنية الصنعانية فكانت تعني التحضّر: القدرة على الاستمتاع بالحياة ولحظاتها الجميلة، وصوغ مزاج رائق لمدنية متحرّرة من “نفسية الجريح” وحساسيته الزائدة.

-أغاني الكبسي:
بين تجديد التراث والإضافة إليه

أولى أغاني فؤاد الكبسي، من كلمات والده وألحانه، أطلقت نغمته في سماء اليمن، وفيها تتكرّر السمة الجوهرية لصوته وأدائه:

"أصبر وهي باتنجلي
من يشتي الحالي صبر
ومن غثي ساعة سلي
ساعة كذا طبع البشر".

النغمة ذاتها نلمحها في أغنيته "تم الجميل يا جميل"، من كلمات الشاعر أمين الحضراني:

"ون ضاقت الحال يا
سيد الغواني تصبر
من ضاق حاله صبر"

'يا ذي صبرت الكثير
ما عد يضرك قليلهْ
تم الجميل يا جميل"

من هنا يمكن فهم أن الغُنج البديع في صوت الكبسي ليس انعزالًا عن الحياة أو متاعبها، وإنما تعبير عن وعي عميق باللحظة الجميلة "الحاليه"؛ باعتبارها مشروطة بالتعب وليست حالة مكتفية بذاتها. إنّه وعي قريب من الفلسفة النيتشوية التي ترى في الألم جزءاً من الحياة، وتفهم أن كل "حاليّ" هو ثمرة صبر ومعاناة. وفي غناء الكبسي يتجلّى هذا المعنى في العاطفة، لكنه يتسع ليعانق فلسفة أوسع للحياة بكل تجاربها.

غالبا تكون قصائد الحكم والأمثال ضعيفة وتقليدية، لكن ألحان هاتين الأغنيتين وطريقة أداء فواد الكبسي لها صنعت منها "ترندا فنيا" في زمنه. وصلت نغماتها ولامست أحاسيس جمهور واسع. اجتذبت ذائقتهم، واستقرت في وجدانهم.

أبعد من ذلك، بإمكاني القول إنها تكاد تكون سِمة لأغانيه. من يتصفح قائمة أغانيه سيجد نماذج أخرى تصنّف ضمن هذا النوع من الشعر الغنائي.
الأريحية وجرس الغنج الصنعاني، وبجانبها أغاني الشعر البسيط المحفز على الصبر وإدراك الحياة كثنائيّ متكامل "المُر والحالي، الألم والفرح".
ثنائية عكست نفسها في أداء الفنان واختياراته ونغمته الغنائية. تعريف الحياة أساساً يشترط هذا التلازم بين النقائض وإلا لما كانت حياة.

قصائد كهذه لم تكن مجرد نصوص يختارها الكبسي، بل تعبيراً عن فهمه للحياة، وامتداداً لشخصيته.
أما من الناحية الفنية، فقد تميز بقدرة نادرة على إعادة خلق ما يغنيه: في ألحانه الخاصة، وفي الأغاني التراثية التي بصمها بنغمة وأسلوب يميّزانه عن سائر الفنانين. 
لنأخذ مثلاً أغنية "الخضر جننوني"، وهي تراث قديم؛ غنّاها أحمد عبيد قعطبي وغيرُه، خرجت من صوته كأنها تولد من جديد. وهذا سر تفرّده: أنه لا يكرر، بل يضيف.


في بداية الثمانينات توفي الفنان علي الآنسي، وبعده بعامين أو ثلاثة لحق به الفنان علي عبدالله السمة بحادثة قتل قطفت عمره في أوج عطائه الفني. 
الفنان أحمد السنيدار كان أيضاً قد توقف تقريبا عن الغناء في تلك الفترة. محمد حمود الحارثي كذلك كان قد تجاوز ذروة إنتاجه ولم يعد متصدرا ساحة الإنتاج الجديد، وإن بقي حاضرا بمنجزه الكبير واستمراريته الرصينة.

كانت الساحة- ساحة الفناء الصنعاني تحديدا- قد فرغت تماما للفنان فؤاد الكبسي ليقدم موهبته. حضور موسمي بشريط ثابت على الأقل كان ذلك كافياً ليعرفه جمهور واسع ويعلق به.

عرفت الفنان فؤاد الكبسي في باب السباح، داخل مسجلة سوني أبو سماعتين في بداية التسعينات. كان منفردا في الساحة الغنائية حينها تقريبا مع صعود نجوميته إلى ذروتها.

من الأمثلة اللافتة في بداياته أغنية "الحب معنى وفن". غناها أحمد السنيدار قبله، لكنها حين خرجت بصوت الكبسي بدت وكأنها وُلدت من جديد، حتى إن الفنان نفسه لم يستطع لاحقًا أن يكررها بالانسجام ذاته الذي نزلت به أول مرة.

مثلها أغنية تراثية شهيرة "وا معلق بحبل الحب" أجاد أداءها رغم أنها من الأغاني التي مر عليها طيف واسع من الفنانين. غناها الحارثي "دويتو" مع تقية الطويلة، وقدمها أبوبكر سالم بالموسيقى المرافقة للعود، وآخرون مروا عليها، سواء من جيل الرواد في العشرينات وما بعدها أو من جيل فناني المرحلة السبتمبرية التي أطلقت الفن في سماء اليمن. لكن فؤاد الكبسي أداها بأسلوبه الخاص ونغمته المميّزة، واستطاع أن يقدمها ممتزجة بإحساسه وطابعه الخاص.

بإمكاني أن أستدعي مثالا آخر لهذه الإجادة التي تضيف للأغنية ولا تخصم منها. أغنية "يالله يا من على العرش اعتليت"، وهي أغنية تراثية سبقه إليها الفنان علي الآنسي، وأعاد خلقها من جديد، لكن فؤاد الكبسي قدمها بأداء آخاذ ومتماسك وكأنه انتزعها من الآنسي. هي أغنية قديمة لكنها وصلت إلى الجمهور بتطوير لحني ونغمي أجاده الآنسي واكتمل بوضوح بصوت فؤاد الكبسي.

في حين ظلمت رداءة التسجيل أغاني كثيرة للفنان الكبير علي الآنسي، كانت جودة التسجيلات ميزة ساعدت الفنان فؤاد الكبسي على إعادة تقديم أغانٍ شهيرة بصوته. أجاد غناءها ووصلت إلى الجمهور بصوت واضح وحققت كاسيتاتها مبيعات عالية. أتذكر في عام 2001 نشرت صحيفة "26 سبتمبر" أن ألبوم "ذكريات من التراث" لفؤاد الكبسي حقق أعلى مبيعات في سوق الكاسيت والأشرطة في اليمن في ذلك الوقت بمبيعات تجاوزت 120 ألف نسخة.
كان ذلك أول ألبوم من إنتاج شركة الفؤاد التي أسسها الفنان نفسه، وسجلت لفنانين آخرين، إضافة إلى ألبومات مالكها.

"من علمك"؛ أغنية الفنان علي الآنسي الشهيرة واحدة من أغاني ذلك الألبوم. الآنسى لا شبيه له، غناها كأنه يعزف نغماتها بأوتار قلبهُ، لكن تسجيلها رديء ومشوش. فؤاد أداها بطريقته الخاصة؛ سحبها قليلاً واندمج في تطريبها، مع تسجيل نقي وواضح.

-الشرح اللحجي والغناء الحضرمي؛ بلكنة صنعانية

خلافًا لأسلافه من فناني الغناء الصنعاني، كان فؤاد الكبسي هو الوحيد الذي تجرأ على خوض تجربة أداء الأغنية اللحجية والحضرمية. جيل الأغنية الصنعانية والتراثية السابق له ـمن محمد حمود الحارثي وأحمد السنيدار، إلى علي الآنسي وعلي السمةـ ظلّ وفياً للنمط الصنعاني، حتى حين جددوا في أشكالهم الغنائية أو استلهموا بعض الموروث الشعبي من المناطق الوسطى وغيرها. لم يقترب أحد منهم من الأغنية اللحجية أو الحضرمية، التي بقيت ابنة بيئتها الخاصة وأسلوبها المميُز.

فؤاد الكبسي اقتحم هذا المجال بطريقته، فأدى الأغنيتين اللحجية والحضرمية بنغمة صنعانية خالصة، لا مقلدًا أبو بكر سالم في حضرمياته، ولا مستنسخاً فيصل علوي في لحجياته.

كان اختباراً لمدى قدرة الصوت الصنعاني على التفاعل مع نغمات ولهجات موسيقية نشأت في بيئات مختلفة. في حفلاته، وخصوصاً منذ أًواخر التسعينات، غنّى لفيصل علوي: "يا ورد يا كاذي"، "يا ذي تبون الحسيني"، وغيرها من أغاني الشرح اللحجي، كما أدى لأبو بكر سالم: "باشل حبك معي بلقاه زادي"، و"أشكي لمن منك"، وقدّمها بلكنته الصنعانية، وبجرسه الصوتي الذي يمزج شيئاً من الدلع الصنعاني باندفاع الأداء اللحجي وطرب الدان الحضرمي.

كانت تجربة شجاعة، لأن الغناء الصنعاني من السهل أن يؤديه الفنان اللحجي أو الحضرمي؛ لأنه جامعة للتراث الغنائي الحُميني الذي عرفته تعز ولحج وعدن وتهامة وحضرموت، أما اللحجي والحضرمي فهما أكثر التصاقاً ببيئتهما، وأشد صعوبة على فنان اعتاد الغناء الصنعاني ولم يقترب في وقت مبكر من مزاج الغناء في لحج وحضرموت. 

نشأ فؤاد في بيئة مجتمعية تقدِّس الفن الصنعاني ولا تقبل من الفنان الشاب أن يخوض تجارب غنائية خارجه. ربما لو ألتفت في وقت مبكر لألوان الغناء غير الصنعاني لتغيُّر الحال كثيراً في تجربته كفنان.

مع ذلك، تكمن أهمية هذه التجربة في أنها طرحت سؤالًا فنياً ضمنياً: هل يمكن للغناء الصنعاني، بصفته "المركز" الجامع لتراث اليمن الغنائي، أن يحتضن ألوانًا أخرى مختلفة عنه وأكثر التصاقًا ببيئاتها؟ بالتأكيد الغناء اللحجي والحضرمي انتشر في اليمن وفي الخليج، لكنني أعني هنا بيئة الغناء الصنعاني -وفي صنعاء القديمة تحديداً.

الكبسي أجاب عملياً بنعم، لكنه لم يقدّم "تقليداً" بل "تحويراً"، أقرب إلى حوار بين الألوان.
لم يسعَ إلى أن يكون فيصل علوي آخر، ولا أن يقلد أسلوب أبو بكر سالم، بل ترك للأغنية أن تمر عبر صوته كما هو، مصبوغة بمزاجه اللحني الخاص ولكنته الصنعانية.

اعتمد فؤاد الكبسي، على غرار معظم الفنانين اليمنيين، على العود كآلة رئيسية في أدائه. أحياناً كان يضيف إليه بعض الآلات البسيطة والخفيفة. 
وفي نهاية الثمانينات والعقد التالي لها خاض تجربة أوسع بتسجيل عدد من أغانيه في القاهرة بتوزيع موسيقي حديث، كانت محاولات لافتة وجيدة في سياقها، لكنها لم تستمر طويلًا. ظلّ العود، في النهاية، هو أداته الجوهرية وفضاءه المفضل، حيث يحافظ على الطابع الأصيل للأغنية الصنعانية التي شكّلت هويته الفنية.

-ثم ماذا بعد؟

شخصية الفنان لا تنفصل عن فته والصورة التي يقدِّم نفسه بها كفنان.
شخصية فؤاد الكبسي الفنية ارتبطت بشخصيته كإنسان: مثقف، مهذب، رزين الحضور، يعرف معنى أن يكون الفنان ابن بيئته وامتداد تراثه، لكنه في الوقت ذاته ابن عصره ومزاج شبابه.

وجد ذاته الحقيقية في الفن، وخلق عالمه الخاص به في مناخ جمالي بعيد عن عالم الدور التقليدي الذي يفرضه مجتمعه والدوائر المحيطه به. اختار عالم الفن الذي يمكنه من التنفس بحرية بعيدا عن القوالب الجاهزة.

فؤاد الكبسي تجسيد لمرحلة كاملة، ربطت بين صرامة الماضي ورهافة الحاضر.
حفظ للأغنية الصنعانية أصالتها، ومنحها في الوقت نفسه جرعة من الغُنج، جعلتها أقرب إلى وجدان الشباب وأشد التصاقاً بحياتهم اليومية.

مقالات

ما بين راوندا واليمن

اتجه الراونديون للجبهة الوطنية. مُسَمَّى «الجبهة الوطنية» جُزءٌ مِنْ الماضي المثير للخلاف. «جبهة 13 يونيو» عمرها قصير، وارتبطت بانقلاب المنسقيات قصيرةِ الأجل، محدودة الأثر.

نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) خاصة بنا. بمواصلة تصفحك لموقعنا فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) وعلى سياسة الخصوصية.