مقالات
قراءة نقدية من منظور اجتماعي لكتاب الكافي عن التاريخ اليمني (3-4)
ثالثاً: اليمن بيئة اجتماعية غير صالحة للغلو والتطرّف الديني.
في الصفحات من "158/164" من الكتاب يتحدث الكاتب عن الديانات والقبوريات اليمنية القديمة من منطلق انطباعي بحث مجافٍ حتى لما أجمع عليه معظم المؤرخين من بساطة ومحدودية المعتقدات الدينية اليمنية القديمة، وعدم ميلها إلى الغلو والتطرف، الذي مالت إليه ديانات مصر القديمة والهند والصين، فقد كان الأخ مطهر مصيباً عندما أشار في "ص159" بقوله: "ولأن النقوش اليمنية المكتشفة حتى التاريخ، والخاصة بالجانب العقائدي وشعائره وطرق أدائه قليلة، ولا يمكنها أن تعطينا فكرة كاملة عن الجوانب المختلفة لتلك الديانة اليمنية القديمة"، لكنه يناقض نفسه في الفقرة نفسه بقوله: "ومن خلال ما توفر من نقوش دينية تعتبر عقيدة دينية بالغة التعقيد"، مثبتاً بذلك للشيء ونفيه في وقت واحد.
والسؤال هو: "ما الذي يمكن استخلاصه من رواية الأخ مطهر، بل وغيره من المؤرخين، وصولاً إلى الحقيقة الاجتماعية الغائبة، أو المغيبة، والأقرب إلى الصواب؟".
والإجابة من منظور اجتماعي هي الآتي:
1) إن الأخ مطهر -كما هو غيره من الباحثين والمؤرخين- كثيراً ما يجدون أنفسهم في مأزق بين ما تفرضه عليهم حيثيات الحضارة اليمنية بشكل عام، من خلال تحقيق أكثر من خمسة عشر ألف نص من خطوط المسند الموثقة لهذه الحضارة، التي لم يتحدث فيها نص واحد عن آلة أرضية تعبّد أو طقوس وعبادات موغلة في التدين تؤدي، على غرار مصر وبابل والهند من جهة، وبين رغبة وإصرار هؤلاء المؤرخين من جهة أخرى على محاولة إثبات في اليمن ما يماثل الموجود في مصر القديمة، وبلاد ما بين النهرين من الديانات المعقدة، وكما لو كان ذلك مشروطا بالضرورة.
2) إذا كان القاضي محمد يحيى الحداد (رحمه الله) قد اكتفى في موسوعته التاريخية عن تاريخ اليمن السياسي بمجرد الاستغراب لعدم وجود نصوص وأدعية دينية في كل ما قد كشف من خطوط المسند الصخرية ( ) فإن الاخ مطهر تقي، وبالرغم من إقراره بهذه الحقيقة، إلا أنه يصر على وجود نقوش دينية تعبّر عن معتقدات دينية بالغة التعقيد -حسب قوله- مستعيناً بقول مؤرخ يوناني مفترض -دون ذكر اسمه أو مرجعه- بقوله: "إن في تمنع عاصمة قتبان أكثر من ستين معبدا، وأكثر منها في شبوة.. الخ، رامياً عرض الحائط برأي الحداد والمستشرقين الألمان، وهم الأكثر اهتماماً بتاريخ اليمن، وعلى رأسهم الدكتور نيكلوس ودي تيلف نلسون، وجواد علي، وحتى الفرح والكميم الذين يقررون استناداً إلى الواقع بأن الديانات اليمنية القديمة شديدة البساطة؛ رغم ضخامة العمران، بل وتتصف بالسذاجة على حد تعبير نيلكوس وزملائه. ( )
3) خلاصة القول، وما يجب أن يفهم كحقيقة هو أن تواضع المعتقدات الدينية في اليمن قديماً وحديثاً، وعدم الغلو فيها، وليس نفيها هو ميزة لهذه الحضارة العقلانية، وليس انتقاصا منها قط، وأن لذلك أسبابه الموضوعية؛ وأهمها أن اليمن هي من البيئات التي لا تنتج إلا فائضا اجتماعيا اقتصاديا أقل بجهد أكبر، الذي يفرز دائماً وجودا اجتماعيا يتميز بمساواة أكثر؛ واستبداد، ومعتقدات أقل، وذلك ما ينطبق على كثير من البيئات المشابهة لليمن كالجزر اليونانية، وهضبة آسيا الوسطى، وشمال غرب أفريقيا، لأن الناس في مثل هذه البيئات يفكرون وينشغلون بتوفير مصادر عيشهم المحدودة والشاقة، ولا وقت لديهم للتفكير بالماوريات، كما في مجتمعات الفائض الأكبر بجهد أقل كوادي النيل ودجلة والفرات والهند، وغيرها من البيئات النهرية الخصبة والمنبسطة، ويمكن الرجوع إلى تفاصيل هذا الأمر إلى كتابنا "نظرية الفائض في جدلية التطور الاجتماعي من المشاعية إلى العالمية"، الصادر عن مؤسسة أروقة بالقاهرة 2023م.