مقالات
كيف تتخلص البعثة الأممية في اليمن من الضجر؟
كل شيء يقول إن البعثة الأممية في اليمن باتت عبئاً على الملف اليمني وهمّاً إضافياً للحرب.
حتى الآن عجزت البعثة عن فتح طريق واحد إلى مدينة محاصرة، وبدت أكثر عجزاً عن تيسير تنفيذ نقطة واحدة، إنسانية، مشمولة بالقرار الأممي الشهير (2216) تتعلق بالإفراج عن السياسي البارز محمد قحطان.
ثم إن العجز يبلغ منتهاه حين يرقى مطلب الكشف عن مصير هذا الرجل الذي جرى اختطافه قبل الحرب إلى درجة المستحيل، طوال أكثر من 9 سنوات، بالنسبة لأكبر منظمة دولية!
هذه الحالة المؤسفة، مع تعاقب البعثات الأممية، تعكس مدى كفاءتها في التعامل مع بقية الملفات، وهي لا تشعر بأي "قلق"، رغم أسئلة عائلات الأسرة المكلومة التي لا تتوقف، بينما البعثة مستمرة في تأدية مهمتها في تزجية الوقت بإنجاز الكثير من التصريحات والأوهام، وإطلاق منصات الهذيان!
مع ذلك، ربما علينا أن نعترف بأن هذه البعثة، على تعاقب المبعوثين والمستشارين، كانت تدرك المهمة المضجرة التي حشرت فيها، وكان لديها دائماً تصور لكيفية التخلص من كل ذلك السأم.
فعوض العمل على فتح الطرق المغلقة، ورفع الحصار عن المدن، على الأقل، كان لديها دائماً خطط لفتح طرق بديلة إلى كل مكان باستثناء الطريق الذي جعل أعضاءها يشغلون هذه الوظائف!
وعندما كانوا يخفقون في إنجاز أي شيء في الملف الإنساني بشأن الكشف عن مصير قوائم المختطفين والمخفيين، كانوا يعوضون ذلك بإحياء قوائم احتياطية من الناشطين والناشطات على الهوامش، وصناعة نجاحات لا تقاوم في منتجعات عالمية!
صحيح أن نجاح البعثات الأممية في العالم في التعامل مع مختلف الأزمات - على وجه الخصوص تلك التي تلعب فيها الإنقسامات المحلية الدور الرئيس - كان مرهوناً دائماً بتعقيدات الأوضاع الداخلية ومرونة الأطراف المحلية، قبل ذلك مدى رغبة القوى الدولية التي انتدبتها لهذه المهمة في إنهاء الأزمات بدلاً من إدارتها.
لكن الحال، بالنسبة للبعثة الأممية في اليمن، يبدو مختلفاً، وكان لهذه البعثة قبل الحرب دور في الإشراف على مفاقمة الأزمة، وإشعالها على نحو أكبر.
مارست هذه البعثة ضغوطاً بقبول الاستمرار في الحوار الوطني، بينما كانت مليشيا الحوثي تستولي على المناطق الواحدة تلو الأخرى.
ربما كان يمنيون محدودون، وقتها، يرقبون تحركات السفيرة البريطانية، فرانسيس جاي، وهي تعبّر عن قلقها من الإيقاع المتسارع للحوار الوطني، والتفاهمات التي ينجزها، ومن جانب آخر كانت تضغط لعدم الاكتراث بما يقوم به الحوثي عسكرياً على الأرض، وكانت أكثر حماسة للإطاحة بكل تلك الجهود، التي أثمرت مخرجات الحوار الوطني، حتى إن عبّرت عن صدمتها!
على أن الدور الأكثر لؤماً مارسته البعثة عندما كان يقودها جمال بن عمر، وكان الرجل ينتظر سيطرة مليشيا الحوثي على العاصمة، لتصل بالدبابات إلى القصر للتوقيع على ما أسموه وقتها "اتفاق السلم والشراكة" في 21 سبتمبر 2014، وهو اليوم الذي يحتفل به الحوثي كل عام بسيطرته على البلاد، بشرعنة أممية كاملة!
وقبل أن نصل إلى ذلك اليوم بأشهر، كان العالم يردد وقتها أنه لن يسمح بانزلاق الأوضاع في اليمن إلى الحرب الأهلية.
آنئذ كان "بان كي مون"، الأمين العام للأمم المتحدة السابق، في قمة لياقة قلقه، وقد شارك المجتمع الدولي في إضفاء لمسته المهمة بواسطة قنبلة الدخان التي فجّرها بانعقاد نادر لمجلس الأمن خارج نيويورك، في صنعاء!
لقد تعاقب أربعة مبعوثين قبل أن يحل السيد هانز غروندبرغ على رأس مكتب اليمن، وكان سلفه غريفيث وولد الشيخ يمارسان الهواية ذاتها في التواطؤ حيال جرائم مليشيا الحوثي بحق اليمنيين من قصف وقنص وحصار، حتى في أوقات التهدئة.
وفي محطات كثيرة، حين كان هؤلاء يرفعون أصواتهم، حيال انتهاكات التحالف، كانوا يمنحون مليشيا الحوثي ما يشبه الإذن، حتى إن ولد الشيخ استمع في مؤتمر "ييل" بسويسرا إلى مهدي المشاط وهو يتعهد بإبادة تعز قتلاً وتجويعاً وحصاراً، بينما كان المبعوث يخرج عبر وسائل الإعلام للحديث المنافق عن إدخال مليشيا الحوثي شاحنات الغذاء إلى المدينة!
أما السيد هانز فقد شاهد بالتأكيد تصريحات رئيس وفد الحوثي العسكري إلى عمّان، قبل عام، وهو يقول إنه سيحول المدينة المحاصرة إلى مقبرة؛ دون أن يعلّق بكلمة!
وخلال الفترة السابقة، حين رغبت بريطانيا والولايات المتحدة بوقف زحف القوات الحكومية والمقاومة الشعبية للسيطرة على الحديدة، منحت غريفيث، المبعوث البريطاني، ما يشبه النصر.
تحت ضغط واشنطن ولندن، أجبر التحالف الحكومة اليمنية على القبول بتوقيع اتفاق استوكهولم، لكن هذا الاتفاق بعد ضمان التزام الحكومة انتهى من ذاكرة الأمم المتحدة، وصارت البعثة عملياً تشرف على خرق الاتفاق وتجاوزه، ثم تركه الجميع خلفهم!
وفي النقطة، التي كادت البعثة الأممية تطير فرحاً بتحقيق اختراق في جدار الأزمة اليمنية من خلال الهدنة، كان الأمر ناجماً عن تفاهمات خارج أروقة الأمم المتحدة، وبعيداً عنها عبر قنوات خلفية بين طهران والرياض، وانتقل إلى مرحلة التفاهم ل"خارطة طريق للحل" بزخم أكبر في أعقاب اتفاق إيراني - سعودي برعاية صينية.
لكن هذه الفرحة سرعان ما تبخّرت على وقع العدوان الوحشي الصهيوني على غزة، وما استجد من أجندة إقليمية للفاعلين، جعل السيد هانز يقفل راجعاً للتفتيش على ما يمكن أن يجلب لنفسه بعض التسلية، فذهب إلى ما سبقه إليه أسلافه وجرَّبه هو قبلاً في ستوكهولم وأمستردام، كملاذ بديل، يصنع منصات مموّلة للثرثرة تجمع ناشطين وناشطات ليس لهم في العِير ولا في النفير.
لكأن ثرثرة هؤلاء ستغيِّر الأوضاع رأساً على عقب في الداخل، من خلال أحاديث مُملة عن السلام، ومصطلحات أخرى كالجندر ووضع المرأة ودورها، لا يعرف بالضبط ما إذا كانت تعبيرا عن تحليل أممي عميق لأسباب الحرب!
لقد كانت المساحة التي تتحرك فيها البعثات الأممية في اليمن هي تلك التي يتيحها المتدخِّلون في الشأن اليمني، أو تعبيراً عن رغبات القوى الكبرى في تحريك الملفات وموضعتها، وكانت "البعثة" تفتقد دوماً للموقف الإنساني والأخلاقي تجاه انتهاكات أطراف الحرب، وكانت أكثر تحيّزاً لمصلحة مليشيا الحوثي.
وفي لحظات الحقيقة، كانت تجد نفسها بلا عمل، فتصنع لها حضوراً إعلامياً عبر اختراع المنصات الحوارية تارة باسم الشباب، وأخرى باسم المكونات المجتمعية، وثالثة باسم المرأة وحقوق النساء، وخامسة وسابعة وعاشرة.. وكأن هؤلاء هم من يحولون دون التوصل لسلام على الأرض!
لا أدري إذا ما كان موظفو البعثة المساعدون والفنيون المحليون والدوليون مازالوا هم أنفسهم في مواقعهم منذ إيفاد البعثة الأولى إلى اليمن وحتى الآن.
إذا كان الحظ قد لعب لعبته مع بعضهم، وكانوا كذلك، فهذا يعني أنهم سيكونون قادرين على كتابة أفضل المذكرات عن عبث البعثات الأممية، وكيف تدير غالباً أنشطتها بالتهريج والعيش داخل فقاعات نجاح لطالما مثّلت طريقة للهو والتخلص من الضجر!
لكن أفضل ما يمكنهم الحصول عليه هي الأفكار والصور عن النخبة اليمنية السياسية، وفي المجتمع المدني، وكيف أنهم كلمة السر في محنة البلد وسُوء منقلبه.